المؤتمر نت- محمد السياغي -
إعلان 2005م عام الجوف (حاضرة أقدم حواضر العالم القديم)
بمجرد أن أسدل الستار عن صنعاء عاصمة للثقافة العربية 2004م، التي تصدرت قائمة الاهتمام المحلي والعربي والدولي، على المستوى الرسمي والشعبي طيلة الموسم الثقافي الفائت، حتى بدا أن الجوف حاضرة (المعينيين) ستحتل الأولوية في أجندة الموسم الجديد المطل برأسه للتو، والذي كان تم الاتفاق مسبقاً على إعلانه عاما لتحقيق الانتعاش السياحي في اليمن.
حيث أكد خالد عبد الله الرويشان وزير الثقافة والسياحة أن الاهتمام بالجوف سيحتل قائمة أولويات العام الجديد 2005م. مشددا على ضرورة وضع وإيجاد آليات عملية فاعلة لحماية مخزونها الأثري الهائل وتأهيلها لتكون واحدة من أهم مناطق الجذب السياحية على مستوى المنطقة.
وحدد الوزير الرويشان خلال لقاءه بعدد من مشائخ وأعيان محافظة الجوف ثلاثة أبعاد رئيسية ينبغي التركيز عليها في البداية لضمان تحقيق ذلك، أمنية، وأثرية، وسياحية.. ملفتا إلى أنه سيزور الجوف خلال الأيام القليلة القادمة للاطلاع عن كثب على الأوضاع الراهنة لمنطقة الجوف.
وقال وزير الثقافة والسياحة أنه إذا كان الاعتقاد السائد بأن ثلثي آثار العالم بأكمله في منطقة الأقصر في مصر، فإن ثلثي أثار اليمن في منطقة الجوف.. في إشارة إلى الأهمية البالغة التي تحتلها منطقة الجوف على الخارطة الأثرية على مستوى المنطقة كواحدة من أهم (الحقول الأثرية) وحاضنة أولى الحضارات الإنسانية المعنية التي سبقت الحضارة السبئية.
ودعا الأخ الوزير مشائخ وأعيان وأبناء الجوف إلى الالتفات لخطورة أية محاولات للتفريط بالثروة الأثرية التي تزخر بها منطقة الجوف، على فرص تحقيق الانتعاش السياحي، وبالتالي تحسين مستواهم المعيشي في المستقبل القريب.. منوهاً بأن إدراك ما تمثله آثار الجوف ومناطقه الأثرية من أهمية باعتبارها مورد جذب سياحي سيعود بمردوده على أبناء الجوف واليمن ككل يحتم على الجميع الالتفاف والتعاون مع الجهات المعنية للحفاظ عليه، وأن حمايتها مسئولية وطنية تجعل من الجميع محاسب أمام الأجيال عن ما قدمه لحمايتها.
وأضاف الوزير الرويشان أن آثار الجوف ملك عام لكل اليمنيين وللإنسانية جمعا، والحفاظ عليها مسئولية وطنية، وثقتي كبيرة في أن أبناء الجوف الأكثر حرصا على حمايتها.. ملحا إلى أن الوزارة لديها خطة عمل متكاملة لتحقيق الانتعاش السياحي في منطقة الجوف وحماية أثارها عبر تأمين المناطق الأثرية وتأهيلها، وإنشاء متحف الجوف الأثري.
وكان مشائخ وأعيان الجوف قد أعربوا للأخ الوزير خلال اللقاء عن ثقتهم في تعاون الجهات المعنية ممثلة بالأخ الوزير مع أبناء المنطقة في تحويل الجوف إلى منظومة سياحية متكاملة.. مستعرضين معه عدد من الإجراءات التي تم اتخاذها بهذا الشأن.
ويأتي هذا في الوقت الذي تؤكد فيه المعلومات بأن المواقع الأثرية بمحافظة الجوف تتعرض لعمليات السطو المنظم والتخريب.
وتقع محافظة الجوف شمال شرق العاصمة صنعاء بمسافة (170 كم)، وكانت قد شهدت في القرن السابع قبل الميلاد، قيام حضارة الدولة المعينية على ضفتي وادي الجوف الذي يدعو العلماء والأثريون بما يملكه حتى اليوم إلى تصنيفه بأنه "خازن ثلثي آثار الحضارة اليمنية القديمة".
ولا غرابة في ذلك بالذات في نظر المهتمين الذين يفسرون اشتقاق اسم محافظة الجوف من كونها مثلث على مر التاريخ "جوف اليمن" القديم، بكل ما تعنيه كلمة "الجوف" من معنى.
وترجح الدراسات الأثرية الحديثة أن مملكة معين كانت قد بلغت أوج ازدهارها في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، فوصل أهلها إلى درجة عالية من العلم والإدراك بأن برعوا في فنون العمارة وشيدوا المدن الجميلة والمعابد المزخرفة بإتقان وذوق رفيع على صخور أعمدتها الجرانيتية، ما وضع فنون الحضارة المعينية في صدارة فنون حضارات مراكز الشرق القديم في مصر وبلاد الرافدين.
وبرع المعينيون في الزراعة والصناعة واشتهروا بالتجارة وشيدوا المحطات التجارية أثناء ازدهار نشاط طريق اللبان التجاري وامتد نفوذهم إلى بعض المناطق في شمال الجزيرة العربية وخارجها، حسبما ترويه النقوش اليمنية القديمة والكتابات الحياتية المكتشفة في العلا بأعالي الحجاز، والنقوش الفرعونية تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد عثر عليها في أرض مصر على قبر تاجر معيني كان يقوم بإمداد المعابد المصرية القديمة بالسلع المقدسة (اللبان والبخور).
وقد وثق المعينيون معاهداتهم التجارية مع بعض الدول اليمنية القديمة التي كانت مسيطرة على الموانئ البحرية المطلة على البحر العربي والبحر الأحمر، وفي أوج ازدهار الحضارة المعينية ازدادت شهرتها حتى وصلت مراكز حضارات العالم القديم، وكتب عنها الكلاسيكيون من اليونان والرومان وكان أخرهم "سترابو" الذي صحب غزو القائد الروماني "إليوس جالوس" لأرض الجوف عام (24 قبل الميلاد).
كانت مواقع حضارة معين مقصداً للمستشرقين العرب والأجانب خلال القرنين (19-20)، وجهود، و "خربة آل علي"، وكمنهو (خربة كمنة، ونشن) خربة السوداء ونشق (خربة البيضاء)، وقرية السلمات. إضافة إلى معبد النصيب، ومعبد عثتر (بنات عاد)، وجبل "اللوذ"، والقارة، والمساجد فيما تحتفظ مديريتا الشعف والمطمعة بمدينة حنان، ومعبد "يغزو"، ونقوش الاعتراف.
على أن أهم هذه المدن الأثرية في محافظة الجوف، هي مدنية "قرناو" التي اتخذها المعينيون عاصمة لهم فأصبحت مركزاً إدارياً وحاضرة لمملكة معين، التي شاعت أخبارها قديما عند الإخباريين كالهمداني وغيره، وزادت من شهرة هذه الدولة تلك المستوطنات التي أقامتها المملكة المعينية خارج أراضيها- منها مثلاً- مستوطناتها في "ديدان" في الحجاز.
غير أن نجم هذه المملكة بحسب الدراسات الأثرية قد أفل في القرن الأولى قبل الميلاد، بسبب الحروب الضارية التي شهدها اليمن القديم أثناء الصراع حول لقب "سبأ وذي ريدان"، إضافة إلى تحول الطريق التجارية البرية عنها إلى الطريق البحرية، تلك التجارة التي أشتهر بها التجار المعينيين بأنهم ملوك اللبان والبخور في شمال الجزيرة في مصر وبلاد اليونان.
وبحسب العلماء والأثريين، فإن جوف المعينيين لا زال يخفي تحت الخرائب والأنقاض الأثرية أسرارا كثيرة لحضارة عظيمة لا يمكن التعرف عليها إلا من خلال استكمال أعمال التنقيب الأثري الشامل لمواقعها القديمة.
ولعل ما كشفته أعمال التنقيبات الأثرية الأخيرة للبعثة الفرنسية العاملة في اليمن من نتائج توضح الأهمية التاريخية والأثرية لمنطقة الجوف كواحدة من أهم الحقول الأثرية، لكن السؤال الملح في نظر المهتمين هل يدرك أبناء الجوف هذه الأهمية ويضعون أيديهم في أيدي الجهات المعنية الممتدة الآن باتجاه وقف استمرار استنزاف هذه الثروة قبل نفاذها، ويفتحون صفحة جديدة لجوف مشرق بعيدا عن الصورة السابقة؟