المؤتمرنت - فيصل الصوفي - في يوم العرب الأميين .. أين المشكلة؟ أمس السبت حدث بعض الضجيج هنا في اليمن وفي معظم الدول العربية، ومصدر ذلك الضجيج هو الاحتفالات الرسمية التي تقام عادةً يوم الثامن من شهر يناير. فهذا اليوم هو عند العرب: اليوم العربي لمحو الأمية، وتعليم الكبار، تنظم فيه منذ عدة عقود. احتفالات يتم فيها الحديث عن الأشواط التي قطعتها الحكومات في مجال محو الأمية وتعليم الكبار، وبالمناسبة يحصل أيضاً أن ينتظم بنهاية الحفل صف طويل من الناس أوله عند منصة الاحتفال وآخره.. الاسم الأخير الذي ينادي به المنادي للتقدم لمصافحة راعي الحفل واستلام الشهادة، أو الهدية، ويسمى ذلك الصف طابور المكرمين في هذا اليوم، وهم عادة من أولئك الذين يعتبرون أكثر المقاتلين بسالةً في معركة محو الأمية وهي معركة لم تبدأ بعد في أي بلد عربي!
قلت مرة إن اليوم العربي لمحو الأمية وتعليم الكبار تحول إلى مناسبة للاحتفال بالأمية، وليس يمحوها، إذْ منذ عقود ونحن نرى أن المنطقة العربية هي الجهة الوحيدة في العالم التي تتكاثر فيها أعداد الأميين، فقبل عقد من الزمان كنا نتحدث عن مشكلة قوامها 30 مليون عربي أمي، والعدد اليوم يتجاوز الـ50 مليون أمي بين الذكور وحدهم، وحتى الآن ليس في أي دولة عربية أي مدنية، أو حتى إدارة صغيرة خالية من الأمية- الأجهزة المعنية يمحو الأمية نفسها لا تخلو من موظفين أو مستخدمين أميين.
وقلت في نفس المرة أنه بالنسبة لـ"تعليم الكبار" الذي يقصد به تعليم الناس بعض المهارات التي تفيدهم في حياتهم العملية أو اليومية اعتقدوا أن برنامج أسامة السيد في قناة "إم بي سي" يبدو أكثر فعالية جاذبية وفائدة بالنسبة لتعليم النساء الأميات مهارات الطباخة وإعداد الحلويات، بينما أجهزة محو الأمية وتعليم الكبار في البلدان العربية لاتزال تدرب وتعلم الكبار في البلدان العربية على "الضرب على الآلة الكاتبة" ولم تدرك بعد أن الآلة الكاتبة قد انتهى عصرها، منذ زمن بعيد مع ظهور عصر الكمبيوتر والطابعة الليزر.
بالنسبة لي لازلت أعتقد أن الأمية هي أخبث الأشياء وأكبر المعوقات التي تحول دون ارتقاء الشخص بمكانته ووضعه وتحول دون مشاركته في تنمية مجتمع،وتحول دون وعيه السياسي وممارسة حقوقه، ولازلت أعتقد بصحة المعلومات والبيانات التي تقول إن الأميين وأسرهم أكثر البيئات عرضة للأمراض وزيادة الإصابة بالإعاقات وزيادة عدد مواليد وعمالة الأطفال، وكذلك أفهم سبب كون البطالة مرتفعة دائماً في صفوف الأميين.
وإجمالاً لا يمكنني تفهم الأمر عندما تُعزى أسباب التخلف والفشل هذا وهناك إلى الأمية.
لكن مع ذلك أجد في كثير من الحالات أن الأمية ليست هي مشكلتنا الحقيقية، أعني بهذا أن الأمية ليست هي المسئولة عن كل ما يحدث.
سأحاول في السطور التالية إثارة بعض الأفكار والتي أعتقد أنها كانت مهملة من قبل. يتعلق الأمر بالنظام التعليمي، كما يتعلق بمفهومنا الحالي من الغرض من التعليم، أو أهداف التعليم.
فقبل عقود كنا في البلدان العربية نتحدث عن مشكلاتنا ونرجع أسبابها إلى الأمية لأن أعداد الأميين حينها كانت أفوق أعداد المتعلمين بمرات.. حسناً.. اليوم صارت أعداد الأميين متساوية، أو أقل بكثير أو قليل من أعداد المتعلمين.. ومع ذلك فاليوم لازالت المشكلة -كما كانت- قائمة أو أشد قسوة، بينما صارت أعداد المتعلمين في مجتمعنا تساوي أو تفوق أعداد الأميين.. فلماذا تكررت الشكوى نفسها؟ أعني لماذا بقيت معوقات التنمية الشاملة قائمة اليوم، ومحل شكوى بنفس القوة التي كانت عليه عندما كان الأميون أغلبية داخل مجتمعاتنا، وفي ذات الاتجاه الذي يذهب إليه السؤال السابق، علينا أن نتساءل وأن نبحث عن إجابات للسؤال الكبير، وهو: إذا كان قد وصل أعداد المتعلمين إلى الملايين أو صارت تشكل الأغلبية في سكان مجتمعاتنا، فلماذا لم يظهر أثر كبير في طرق تفكيرنا، وأساليب معيشتنا؟ وما الذي جعل كل هذه الملايين من المتعلمين غير قادرة على إحداث تغيير إيجابي داخل مجتمعاتنا؟
صرت اليوم أعتقد أن الأمية بمفهومها الحالي، أي عدم القدرة على القراءة والكتابة والقيام بالعمليات الحسابية ليست مسئولة عن مشكلاتنا.. أعني ليست سبباً لكل المعوقات التي تعترض سبيل مجتمعاتنا في النهوض دائماً.
إن إصلاح النظم التعليمية مسألة باتت اليوم أهم من محو الأمية؛ ذلك أن المشكلات والأخطاء السائدة في الأنظمة التعليمية القائمة اليوم هي المسئولة عن الأمية وعن إنتاج العقلية المسالمة غير القادرة على إحداث التغيير في المجتمع.
وإن محتويات الكتب المدرسية وأساليب التدريس وأنماط التفكير السائدة فيها تربي الدارسين على الإيمان بأن أفضل ما لدينا هو الماضي، وليس فيها درس واحد عن الديمقراطية، أو التفكير العلمي، هذه الكتب المدرسية هي التي كرست لدينا أسلوبين من أخبث الأساليب وهي نظرية التآمر، والذرائعين والاعتقاد بأن ثمة أشياء، أو مجالات قد حسمت من قبل، ولا يجوز التفكير بها، أو تغييرها.. هذه الكتب عَّودتنا جميعا على القول: إن الآخرين هم سبب الوضع المتردي الذي نعيش فيه، وأنهم مفرغون للتآمر علينا، وهذه الكتب هي التي عودتنا على القول إن إذا كان يحدث من قبلنا أشياء خاطئة فلا بأس بذلك لأن مثل تلك الأشياء تحدث حتى في أمريكا.
لدينا أيضاً مشكلة فيما يتعلق بتسويق أهداف التعليم: يقولون عادة وإن التعليم لخدمة التنمية الاقتصادية، أي أن التعليم يهدف إلى إعداد الناس لتلبية احتياجات سوق العمل. وهذا يعني أن التعليم معني بإشباع المعدة، هناك احتياجات أخرى صار على التعليم أن يلبيها، وهي تنشئة المتعلمين على الإبداع والسلوك الديمقراطي، واحترام الرأي المخالف والاعتراف بحقوق الآخر، وإن الحقيقة ليست مطلقة؛ بل موزعة هنا وهناك، وإن المستقبل يعني تجاوز الحاضر، وإن الحاضر يعني تجاوز الماضي، وأن قولنا بأننا نتقدم يعني أن هناك أشياء تركناها خلفنا.
|