سماح عبده علي القباطي - فَـوق مُستوى الوَّصـف اللغة أداة لوصف الأشياء سواء كانت تلك الأشياء شخوصا أو حوادث أو كل ماديات الحياة ، وبعضنا حينما يصف شيئا ما قد يجيد في وصفه ويعطيه استحقاقه؛ ومنا من هو منغمس بالمبالغة ، فيعطي الأمور أكثر مما تستحق ذكرا ووصفا لأسباب كثيرة - لا نريد الغوص في تلك الأسباب والمسببات.
ولكن هناك أشياء كثيرة يقف المرء عاجزا عن أن يعطيها استحقاقها الوصفي ، إما لعدم ثرائه اللغوي أو لعدم وجود المناخات المناسبة التي يمكن فيها أن تُذكر تلك الأمور، بالرغم من أنها تدلل على الإرث الحضاري للإنسان العربي، والمكونات الأسرية والاجتماعية للبيئة المحلية ، أو من تأثير المدخلات الأجنبية على الحياة العصرية.
فنجد كثيراً من الناس في السيارات والمطعم والمقايل يتحدثون عن مرارات ومرارات قد مروا بها ، وعن مآثر لرجال ونساء وقبائل عبر مسيرة حياتهم قد شهدوها ؛ ولم نجد مثل تلك القصص والحكايات فيما كتبه الكتاب.
أنا أعرف أن الكتابة في الموروث الشعبي ترهق ميزانية الكاتب والناشر، لأن مساحة قراء هذا النمط قياسا بغيره من الألوان قليلون في معظم بقاع المعمورة، لذلك لجأت معظم الدول إلى إيجاد منافذ حكومية وشبه حكومية ترعى وتشجع وتطبع على نفقتها هذا النوع من الكتابات ؛ بل تبتكر الكثير من الوسائل كي تمكن من يختزن في ذاكرته عن الموروث الشعبي المحلي شيئاً من أسهل السبل لتحويل المختزن إلى متن كُتيب أو مجلة متخصصة، حفاظاً على ذلك الموروث .
وكل ذلك كي يجد من يبحث في تلك المجالات المصادر التي تغنيه في مجال بحثه، وحتى لا يتأثر عابر الطريق في هذا البلد بالذي يراه من تخرصات عند البعض - ممن يصادفهم هنا وهناك- فيحكم على العمق العريض الأصيل على ضوء رؤيا على الساحة السطحية الضيقة التي صادفته خلال إقامته القصيرة أو الطويلة.
فعلى كل من يصدر حكما أو وصفا أن يكون عادلاً ؛ فمثلا هناك عدة آلاف من الآبار والعيون والترع والينابيع على سطح الأرض.. صحيح أنها جميعا مورد للخلق ، مما وهب الله تعالى مخلوقاته، ولكن هنالك بئر في وسط صحراء قاحلة لا تستطيع مخلوقات الله عبور هذه الصحراء لولا وجود هذا الماء ، فهو مُنقذ لمخلوقات الباري من الهلاك، وداحض لجبروت الصحراء.
بالله عليكم - كيف تستطيع الكلمات أن تعطي هذا البئر حقه من الوصف ! وكم أنقذت نجوم المجرة بشرا في ليالٍ مظلمات من أن يضلوا هدفهم ، ويكونوا عرضة للضواري ولأسباب الهلاك ؟
نعم .. كل الزرع من نعم الرحمن ، ولكن هل يجوز أن نصف مزارع القمح بفوائدها لكل المخلوقات كما مزارع البرتقال..!؟
سبحانه وتعالى يهب الحياة لكل المخلوقات ، وتعصف في هذه الدنيا عواصف شتى فتتعرض بعض مخلوقاته للهلاك ، وأخرى تنجو ، وثالثة تبقى من تعداد منهم في الحياة ، إلا أنها واقفة على طرفي معادلة بين الموت والحياة.
وما عسانا أن نسمي ، أو نصف امرئ قد وجد شتات إنسان على طرفي تلك المعادلة وقد عصفت به الأهوال إلى هنا ، وتجمعت عليه وحوش الأرض في المهجر تنهش به ، فيمدُّ له يدَ العون مخلصة برأي سديد ، ونصح ناضج ، وصدق صادق ، وأمانة متناهية ، وخلق وشهامة الفرسان الذين قرأنا عنهم في العصور الماضية وبكل تواضع ودون مقابل..!؟
هل إن القيم الإنسانية لدى بعض الناس قد تدحرجت إلى الخلف بسبب المدنيَّة ، أو بسبب الاغتراف من الغرب الآتي عبر وسائل التأثير المتعددة فأصبح بعض الناس يأكل لحم أخيه حياً - ليس للسان فقط ، بل بكل الوسائل الممكنة لديه وبعض منهم أصبح بارعا بطرق النصب والاحتيال !؟
إذن ماذا يستحق أن يوصف صاحب المعروف علينا ؟ إنسان فوق مستوى وصف البشر ..عندما فاضت إنسانيته علينا كديمة ممطرة خيرا اغتسل منها شتات ذلك الإنسان وأزاحت عنه همومه والآلام، وارتشف من مائها العذب ليطفئ ظمأه ، فقوي عوده ، وصار أكثر إصراراً وبصيرة لأمور الحياة ؛ وتغيرت قناعاته عن إنسان هذه الأرض مواصلا مشوار عمله.. وتعدى تفاؤله الأفق القصير إلى أفقٍ أبعد ، وأخذ يفكر - لا بالحاضر القريب بل - بالمستقبل الذي يتمنى أن يقضيه هنا بعدما كان يائسا من الحياة وكل الدنيا ، ويعد الدقائق والساعات للرحيل إلى حيث لا يدري !
اعتقد كلنا مُكلَّف ومُلزم بألا ندفع أصحاب النفوس الشريرة إلى أن يطلوا معالم الحياة بطلا نواياهم ونفوسهم، حتى لا تبدو الحياة للناظر بعتمة نفوس هؤلاء.
هيهات ينسى إنسان بئرا ارتوى منه وأطفأ ظمأه ، أو ذلك النور الذي كشف عن طريقه العتمة ، أو مرشد الصدق الذي ادله إلى الثبات بوجه عاصفات الدهر.. إذن كيف لي أن أسمي و أوفي مع الذي وهبنى كل ذلك واكثر !؟ الآ يستحق أن اسميه: فوق مستوى الوصف ، وفوق مستوى البشر- قياسا بأبناء عصره!!
|