المؤتمر نت - باتريك سيل - أين الخطأ في السياسة الخارجية الأميركية؟ الصعوبة التي يواجهها الرئيس جورج بوش في بداية ولايته الثانية هي أنه مثقل بميراث من الأخطاء الأساسية في السياسة الخارجية. فهل يمكنه أن يغير مجرى هذه السياسة؟ يدل خطابه في احتفال التنصيب يوم 20 الجاري، «خطاب الحرية»، الى أنه إما عاجز أو أنه لا ينوي ذلك. وأما حليفه الرئيسي توني بلير فهو أكثر تفاؤلاً إذ ادعى في مقابلة مع صحيفة «فاينانشال تايمز» اللندنية يوم 26 الجاري بأنه يرصد نوعاً من «التطور» في سياسة أميركا الخارجية. وقال إنه بالنسبة الى النزاع العربي - الإسرائيلي «ستجدون في الأسابيع القليلة المقبلة أن هناك اتجاهاً جديداً واضحاً في السياسة الأميركية»، ومع أن الأمر يتوقف على نوعية هذا «الاتجاه» الذي يراه بلير فإنه لتطور إيجابي جدير بالترحيب ولكنه لا يزال إلى الآن يفتقر إلى الدليل.
إذا ما تساءل المرء ماذا عسى الرئيس بوش أن يفعل كي يشير إلى رغبة حقيقية في التغيير؟ يمكن تلخيص الجواب في أن بإمكانه في عالم مثالي أن يقدم على ما يأتي :
1- يصرف كاتب خطبه مايكل غوردن من الخدمة لقيامه بكتابة خطبة لمدة 20 دقيقة ملأى بالمراءاة وبالكلمات الطنانة التي أثارت ازدراء العالم واستهزاءه.
2- يضغط على إسرائيل، في هذا الظرف الدقيق الذي يمر به النزاع العربي - الإسرائيلي، كي تساعد محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية بإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين ونزع الحواجز في الأراضي المحتلة ووقف بناء جدار «الأبارتايد» اللا شرعي.
3- يسعى إلى مخرج سريع من العراق بعد انتخابات 30 الجاري ويترك العراقيين يعالجون مشاكلهم بأنفسهم ومع جيرانهم.
4- يبذل جهداً كبيراً لإصلاح علاقات أميركا المتردية مع العرب والمسلمين.
5- يتخلى عن تنطح بلاده للهيمنة على العالم ويقبل بتعددية الأقطاب في الشؤون الدولية لأن ذلك هو الواقع.
ومن الواضح أنه لا بد من زلزال في واشنطن أشبه بتسونامي كي تفكر بأي من هذه الخطوات.
أول الأخطاء الفاضحة
تشمل قائمة الأخطاء التي لا بد للرئيس بوش أن يعالجها ذلك الخطأ الأول الذي وقعت فيه الإدارة الأميركية في ولايته الأولى حين أخفقت في أن تدرك بسرعة بأن أميركا تواجه تحدياً من جانب شبكة إسلامية عالمية استفزتها السياسة الأميركية فصممت على الرد. وتقوم على رأس هذه الشبكة منظمة القاعدة بزعامة أسامة بن لادن.
ولقد وقعت أحداث عديدة كانت بمثابة إيقاظ للانتباه، من ذلك الهجوم على مركز التجارة العالمي في عام 1993، وقصف السفارات الأميركية في شرقي أفريقيا عام 1998، وضرب البارجة الأميركية (كول) في ميناء عده عام 2000 والذي أدى إلى مقتل 17 من المارينز... كل ذلك كان يشير بوضوح إلى وجود عدو خطير.
ولقد حاول ريتشارد كلارك المنسق القومي لمكافحة الإرهاب (قيصر الإرهاب) في عهد بيل كلينتون أن يحذر إدارة الرئيس بوش من الخطر الذي تمثله القاعدة وتفرعاتها، لكن مساعدي بوش الرئيسيين لم يصغوا إلى هذا التحذير.
بعد أيام معدودة على تنصيب بوش في كانون الثاني (يناير) 2001، طلب كلارك عقد اجتماع عاجل وعلى مستوى عال لإقرار خطة حازمة لملاحقة منظمة القاعدة، لكن هذا الطلب لم يلق أي اهتمام. وخلال الشهور الثمانية التي انقضت بين احتفال التنصيب يوم 20 يناير 2001 ويوم 11 سبتمبر لم يسمح لريتشارد كلارك بأن يطلع الرئيس على موضوع الإرهاب ويشرح له أبعاده.
ويقول كلارك في كتابه «ضد كل الأعداء» أن بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع وأحد أشد المحافظين الجدد تطرفاً كان خلال هذه الشهور الطويلة يؤكد بأن الهدف الرئيسي يجب أن يكون «الإرهاب العراقي» لا القاعدة، وهذا رغم أن دوائر الاستخبارات الأميركية لم تعثر على أي دليل على تبني العراق لعمليات إرهابية ضد أميركا.
غير أن هجمات 11 سبتمبر منحت ولفوفيتز وكثيرين من أمثاله الذين كانوا طوال التسعينات يرغبون بمهاجمة العراق، الفرصة لتحويل تركيز الرد الأميركي من «القاعدة» إلى العراق. ويقول كلارك: «لقد وصفوا العراق بأنه أكبر خطر يهدد الأمن القومي الأميركي... كانت فكرة ثابتة وقراراً متخذاً لا يمكن لأي واقعة أو حادث أن يغيره. وقمنا باجتياح بلد عربي غني بالنفط لم يكن ليشكل أي تهديد لنا».
لعل الدافع الحقيقي لهذه السياسة الاحتيالية واللاقانونية هو كما يقول كلارك «تحسين وضع إسرائيل الاستراتيجي بالقضاء على بلد عربي كبير ومعاد، والحد من الاعتماد الأميركي على النفط السعودي بخلق مصدر آخر للنفط موال وصديق».
هكذا اقتنع «الامبرياليون» الذين أسكرتهم قوة أميركا العسكرية مثل نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد والرئيس بوش نفسه بأن هيبة أميركا تتطلب إلحاق هزيمة ساحقة بدولة عربية كبرى على الأقل لتحذير الآخرين من المصير الذي سيلقونه إذا ما آووا الإرهابيين.
«إما أن تظهروا منتهى القسوة أو أن تخرجوا»، تلك هي النصيحة الكارثية التي تلقتها الإدارة من الفقهاء الروحيين المضللين أمثال المستشرق البريطاني برنارد لويس و «الخبير» اللبناني فؤاد عجمي.
وكانت نتيجة ذلك كله ظهور مبدأ بوش بالأحادية والاستباقية اللتين تمنحان أميركا الحق في مهاجمة أي دولة تعتبرها مصدر تهديد لها مهما كانت بعيدة. ولقد أثار هذا الانتهاك الفاضح لميثاق الأمم المتحدة احتجاجاً صاخباً في العالم بأسره وخلق فجوة مع دول مهمة مثل فرنسا وألمانيا.
لقد وصف المحافظون الجدد، وبوش نفسه، المناضلين الإسلاميين بتعابير رؤيوية مثيرة للفزع وبأنهم «قوى الظلام المنبثقة من الشر المطلق». وبما أنه لا يمكن إجراء أي حوار معهم فلا حاجة للبحث عن أسباب استيائهم وغضبهم... وميزة هذه النظرة أنها تحرر الولايات المتحدة من أي مسؤولية.
لعل الخطأ الأساسي يكمن في رفض أميركا الاعتراف بأن الهجمات الإرهابية إنما هي رد على سياساتها، كتأييدها الأعمى لإسرائيل ووجودها العسكري في الجزيرة العربية.
وبدلاً من ذلك اخترع المحافظون الجدد نظرية مفادها أن العنف الإسلامي إنما ينبع من الأصولية الدينية والمجتمعات الرجعية والأنظمة الاستبدادية. إنه نتاج الثقافة الدينية العربية الإسلامية لا السياسات الأمريكية. ولذا فلا بد لأميركا لكي تحمي نفسها ضد أي هجمات جديدة من أن تقوم بإصلاح المجتمعات العربية والإسلامية وتفعل ذلك بالقوة إذا لزم الأمر.
وجاء «خطاب الحرية» الذي ألقاه بوش يوم 20 الجاري وكأنه تكرار لكل هذه الترهات. فقد جاء تأكيده وترديده لكلمة «الحرية» مبنياً على الأساس الخاطئ بأن «الاستبداد هو الذي ينتج الإرهاب». وعلى هذا الأساس صممت أميركا على جلب «الحرية» إلى العراق حتى لو أدى ذلك في الواقع إلى تدمير البلاد وقتل عشرات آلاف العراقيين... فمن سيأتي دوره بعد ذلك؟ تقول الأستاذة آن نورتون من جامعة بنسلفانيا في كتاب لافت بعنوان «ليو شتراوس وسياسات الامبراطورية الأميركية»: «أن الاستراتيجية العليا التي وضع إطارها بول ولفوفبتز بعد 11 سبتمبر تنطوي على خطة للهجوم لا على العراق فسحب بل على سورية وجنوب لبنان. ومن ثم تدشين أميركا نظاماً جديداً في الشرق الأوسط. وقد بنيت الخطة جغرافياً على أساس دور إسرائيل المركزي، بحيث يمكن أن تهاجم بصورة استباقية أي دولة محيطة بإسرائيل من شأنها أن تشكل تهديداً لها».
وتعلق الأستاذة نورتون على ذلك قائلة: «يمكن فهم هذه الاستراتيجية على اعتبار أنها تخدم مصالح أميركا وأمنها شرط أن نعتبر أيضاً أن هذه المصالح مماثلة لمصالح إسرائيل وأمنها أيضاً».
ولعل هذا الخلط بين مصالح أميركا ومصالح إسرائيل هو الذي قاد الرئيس بوش إلى أن يقتنع بكلام شارون بأن كلا الدولتين تواجهان العدو ذاته أي الإرهاب الإسلامي الدولي. وقد وجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي دمر جيشه بلاد الشيشان من أجل «استتباب الأمن والنظام»، وجد في ذلك فرصة سانحة للقفز إلى القطار ذاته.
ترى كيف يستطيع بوش أن يحرر نفسه من ميراث الأخطاء هذا؟ إن عليه أن يقنع إسرائيل بأن مصلحتها هي في العيش بسلام مع جيرانها لا أن تسعى إلى الهيمنة عليهم واحتلال أرضهم، وعليه أن يسعى إلى مخرج مشرف من العراق وأن يسعى في سبيل ذلك للحصول على مساعدة سورية وإيران لا أن يهددهما. وعليه أن يعترف بأن الهجوم على العراق جعل أميركا أقل أمناً وزاد من دعم الأصوليين الإسلاميين. وعليه أن يصلح علاقات بلاده مع العالم الإسلامي كي يوقف الدعم الذي تتلقاه «القاعدة».
ترى هل إن التطور الذي أشار إليه توني بلير بالنسبة الى السياسة الخارجية الأميركية يشمل هذه الأهداف؟
كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.
|