المؤتمر نت -هشام سعيد شمسان - حجرةٌ تتكوَّم بأكداسها( قصة قصيرة) القطرات المائية لا زالت تتجمع،وتتكاثف. تنساب بقوة من فتحات الحاجز البابيّ بمربعاته الحديدية. تزحف متوحدة إلى الداخل، لتستقر تحت كومة الفضلات المتحاضنة أسفل جدار مطمور بالذكريات الكتابية المؤرشفة على الحائط الأصفر العتيق.
يرنو إلى الباب الحديدي بزيغ، وبخيبة ،فترتد العينان ماسحةً الأجدرة التي تؤرشف رتلاً من الكتابات المتزاحمة، والمتنافرة الخطوط: رأسياً، وأفقياً، وتعامدياً. تلتقط عيناه: سلِّم أمرك لرب السماء.. لحظة يا زمن.. سيدّ المظاليم.. الموت لأمريكا.. وصية أسير المدموع.. ذكريات أسير الحب،.. القباطي حالق تايسون.. ال... العينان ترتدان إلى الباب سريعاً:
· تعال يا.. حرازي.
ينهض أحدهم بتثاقل. يتناول منه قنينة ماء، وكيساً مملوءً بأعشاب خضراء، وآخر يحوي طعاماً. صوت من الداخل: أين" الريمي" نحتاج إلى "بارد".. طفل من وراء الباب – يبرز بخفة ونزق. يتضاحك متمايلاً كأنثى: ها. ما"تشتو"؟
تزوِّجني أختك يا ريمي؟
بعد أن أتزوج أمك يا ابن الــ(...). يتركه ويمضي حانقاً.
الحجرة تضيق وتضيق، كلما انفتح الباب، وانغلق. وجد نفسه قابعاً أسفل الباب. يقتعد جزءًا من اسفنجةٍ سوداء. يا لقذارتها! إنها مَمْسحة لأرضية الحجرة، ويتخذها البعض مكنسةً لبقايا الأكل، وما تخلفه الأحذية وراءهم.
لم يأت احد. قالها، والعينان لا زالتا معلقتين هناك.. يعدل من جلسته وهو يحاول إصلاح ردائه العلوي. لا جدوى من ذلك؛ فجميع الأزرار غادرت أمكنتها.
من جيبه السفلي يخرج زجاجاً مدوراً، يعيده بجهدٍ إلى فتحة خاوية من نظارته المهترئة بلواصق الأتربة.. يعلقها على وجهه. الزجاج يسقط مهرولاً إلى ما تحت الكومة القمامية.
· أتأكل معنا..؟
- لا.. شكراً -يجيب على صاحب الصوت دون أن يلتفت-
· اخلع حذاءك.. أمامك ليلة طويلة.
- لا أظن.. سيأتي الآن.. سيأتي.
القطرات المائية تتوقف عن الزحف، إلا من بعض الانسرابات القادمة من سقف الحجرة يتمدد بجزئه العلوي على أرضية باردة، بينما تبقى القدمان منفرجتين، ومنتصبتين، واضعاً رأسه باحتواء يده اليسرى، وعينان مصوبتان إلى الحاجز الحديدي، بانتظار شيء "ما".
- لماذا لم يأت؟
....................
النعاس، الإرهاق، القلق: كل ذلك منمنمات على وجهه المتغضن بالرهق، وعينان تتثاقلان و..........
· أنت يا.. (صوت من خلف الحاجز)
- أنا.... (وينهض واقفاً..).
· هل جاءك أحد؟
- لا....... (ويتوارى صاحب الصوت)
السماء تعاود انسكابها. المياه المنسربة من أعلى الرؤوس تحاصر مكانه.. إلى أين المناص؟
· تعال هنا يا....
كان شعوراً جامحاً بالحرج،وهو ينحشر بين سبع جثث، وكانت المسافات تزداد انكماشاً في كل مرة يُفتح فيها الباب الحديدي ثم يغلق بإحكام.
الساعة تقارب السابعة مساءً.
رعدة (ما) خفية اعترته، ونشاط غريب احتواه، وهو يسمع صوتاً لذيذاً. ينتفض من بين السبعة، يفتح باباً خشبياً، مهترئاً بدون رتاج، ويدخل.. يخرج، وقد غمر أجزاء من أعضائه بالماء، وفي وسط الحجرة يقف قبالة وجوه تسعة منتفخة الأشداق، كالحة الألوان. يحاول أن يتناسى حضورها وهو يفترش قطعة من ردائه. يرفع يديه: الله أكبر.. تبعة آخر، ثم آخر.
......................
بين وجوه تسعة عاد ليلتصق بالجدار، منحشراً بهم، بانتظار وجه يأتيه.
الساعة العاشرة مساءً.
صارت عشر جثث هو الحادي عشر.. العينان لا زالتا معلقتين بما وراء النوافذ الحديدية..
الأمطار تتهادى، تتقطع. ها قد كفت السماء أخيراً.
شخص (ما) يتوسط الباب. يشتط جذلاً، وهو يندفع إليه بكل قوة:
- ها..
· رفضا كل شيء.
- وما العمل؟
جئت لك بفرش، وبعض الطعام،وغداً نحاول من جديد.. لقاءً.
..............................
الساعة الخامسة صباحاً.
مستيقظاً لا يزال بين عشر جثث تتمدد إلى جانبيه،وتحت قدميه هامدةً بلا حراك.. يأخذ نفساً زافراً وهو يُطوِّف عينيه في حجرة تتكوّم بأكداسٍ من البشر، وبقايا الأشياء: أوراق متناثرة، علب فارغة ونصف فارغة، أعقاب "سجائر" أوراق كرتونية، أحذية ممزقة، وغير ممزقة تتناثر على غير اتساق، خرق بالية.. و.... كومة كبيرة من المخلفات الأخرى تنام مسجاة تحت جدار، وقطة منقلبة على ظهرها، تمشط صدرها على غير انتظام، وباب خشبي- متأكل- بلا رتاج، من دَخَله لا ينْسى الحجر.
...........................
ملامح من بياض يتسلل إلى الحجرة من الفتحة الوحيدة في منتصف الباب، وضوضاء تقترب. الباب ينفتح، وجثة تتهاوى لتضيف إلى الأكداس رقماً جديداً. لم يأبه للوجه الجديد القادم
تحول بجسده إلى يسرته، وانتقل بعينيه إلى رتل الكتابات الجدارية. يتأملها يُطوِّف بين أشتاتها. ثمة عبارة تستوقفه. يرددها مرة، مرتين، ثلاثاً.
إنها العبارة المضيئة بين كل هذه الخربشات –قالها في نفسه- وأغمض عينيه وهو يردّد: "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً".
................................
الساعة الثامنة مساءً.
رياح تثور، وأتربة تمور، وغبار يتزوبع ثم يعلو.. الأمطار تنهمر. التفت يمنة، ويسرةً، لم يجد أحداً.
يبسُم،وهو يهرول قاطعاً بوابة "حمير"1 على الشارع الآخر. كان ثمة من يرقبه على الجانب الآخر،وبين يديه طفل يبلغ العام الأول من عمره.
هامش:
(1) حمير: اسم لمخفر بوليسي يقع غرب صنعاء.
|