الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 12:07 ص
ابحث ابحث عن:
ثقافة
الأحد, 06-مارس-2005
المؤتمر نت -إبراهيم القهوايجي -
مقاربة صورة المرأة في رواية " وليمة لأعشاب البحر" (*)
إن صورة المرأة في الرواية العربية الحديثة تتسم بالتنوع والتعدد، فلم تعد شخصية المرأة جاهزة ذات نمطية قارة وثابتة ، وهذا التناول يخالف ما كانت عليه الشخصية الروائية في ا لرواية العربية ذات الطبيعة الكلاسيكية بوجه عام؛ لذا سنحاول في هذه العجالة الإمساك بالصورة العامة للمرأة العربية في الخطاب الروائي لرواية " وليمة لأعشاب البحر" للروائي السوري حيدر حيدر، محاولين الوقوف على أهم ملامحها و أبعادها الفكرية والدلالية.

صورة الأم في " وليمة لأعشاب البحر":
إن صورة الأم في "وليمة لأعشاب البحر" تتبدى بوضوح في شخصية " لِلاّ فضيلة " زوج الشهيد " سي العربي " (سابقا) وزوج "يزيد ولد الحاج " (حاليا)، وفي هذا النص الروائي نجد وصفا عاما لملامحها حيث يقول عنها السارد : "امرأة طويلة ، ممتلئة ، تخطت الأربعين . نضارة وجهها ترسم امرأة في الثلاثين" (1) ، فقدت بعلها في حرب التحرير الجزائرية ، ويبدو أن الغياب ترك ندوبا عميقة فيها ، الأمر الذي جعلها تجسد رابطة الأسرة من بعده لشعورها الشفاف بفقدان الأمن، وفقدان الثقة بالحماية، لأنه" كان الملاذ والمثال وكان الوطن".. وهذه المعطيات أججت لديها الشعور بالمسؤولية تجاه فلذات كبدها ، منكرة ذاتها برفضها للزواج بعد المرحوم حتى تكرس جهدها لتربية أبنائها ، خصوصا وأن الفقيد وصاها بذلك: " فضيلة لا وصية لي عندك غير الدراري . ربيهم تربية تليق بنا كمسلمين .نحن نقاتل حتى لا يلوث الاستعمار شرفنا . بيت الإنسان شرفه . ومن لا يحافظ على بيته لا يحافظ على وطنه

(2) . وظلت الأم وفية لوصية زوجها الى أن أجبرها إخوتها ، وأرغموها على الزواج من"يزيد ولد الحاج"، وبهذا الإكراه يتمظهر قمع المجتمع العربي الأبيسي للمرأة باعتبارها كائنا يتصرف في حريته الرجل ويزج به في براثن الإقصاء ، حيث الذ كر هو سيد الموقف ، وصاحب الحل والعقد في شأنه، وهكذا تغدو " للا فضيلة" رافعة شعار الخضوع لسلطة الزوج الجديد المطلقة ، معتقدة أن" السعادة ليست مهمة .الشرف هو المهم "، وستعيش معه، مستبطنة رؤيته للعالم وفلسفته في الحياة وتتحمل كل حماقاته خاصة، وأنه يتسم بغلظة طبعه وسلطويته المطلقة ، ولعله بذلك يمثل رمز النظام البطريكي الذي يقدس الأب ، ويجعله نواة البيت . وقد كانت الأم تدفع ثمن ذلك ، الأمر الذي يظهر صراعاتها الداخلية ، وليس فقط صراعاتها الخارجية ، وهذه الصراعات الداخلية تحدث من جهة بين ذاتيتها وجوانبها الموغلة في الرواسب العميقة(ذكرى الزوج الأول)، ومن جهة أخرى بين ذاتيتها والواقع الخارجي كفضاء للمظاهر الخادعة . ولعل هذا المنحى هو ما يمنح هذه الشخصية التباسها وغموضها ، وبالتالي وسمها بالطابع الحداثي في التناول الروائي : إن الأم غدت " ملتاثة بأفكاره(الضمير يعود على الزوج الثاني) وفلسفته ، بل وتصير المدافع الرسمي عنه في تأويل ما يرتكبه من حماقات وشجارات البيت معها أو مع أولادها"

(3) ، ومسوغة سلوكاته القمعية التعسفية المتشنجة : " رجل صعب ، وعر ، لكن قلبه أبيض كالحليب ، ومتاعبه التجارية كثيرة ، ومشاكله في بيته ومع زوجته الأخرى لا تترك له وقتاً للراحة. تراه يضحك ويسخر فتقول:ما أمتعه. وفجأة ولأتفه سبب يتغير يختلق معارك وشجارات لا تنتهي . هو متعب ويتعبنا معه"(4) . هذا الاحتواء الذكوري ليزيد ولد الحاج على الأم جعلها المحلل الأول بامتياز لأحواله النفسية والاجتماعية ، مكرسة بذلك المنظور التقليدي للمرأة العربية في علاقتها مع الرجل ، رغم أنها – كما سلف- تكوى بنار الصراع الداخلي : " تبدو رازحة تحت كابوس عصي على الشفاء . ذلك الرجل يبدوأنه أدخلها في مدار عصابه ، عاكساً على روحها والأطفال ، حمى دماره الاقتصادي الوشيك"( 5) .

وتأسيسا على ما سلف ، نلفي الأم تلعب لعبة الوجه والقناع أو المرايا المتحركة ، مما يشي بالمعالجة الحداثية في الخطاب الروائي للوليمة ؛ أنها شخصية لا تثبت على حال واحدة، وتكسر جاهزية بناء ونمطيه الشخصية الروائية كما نلفيها في الرواية العربية الكلاسيكية . ولعل ركوب " للا فضيلة" هذا التوجه الآنف كان بغية الكفاح ".. في سبيل استقلالية أبنائها ليبنوا حياتهم ومنازلهم بكفاحهم الذاتي " ، " تأسيساً على عاطفة الأمومة السامية التي تربطها بهم ، وهي ما يكشف عنه السارد في قوله :" في الأسرة كانت تبدو علاقة للا فضيلة بآسيا (ابنتها) شبيهة بحالة عشق خفي ، العشق الذي تكنه الأم للولد البكر والوريث الأول.."(6).

مما سلف ، يبدو جليا أن الصورة العامة لشخصية الأم في الوليمة تنم عن تكريس النموذج التقليدي حيث سلبيتها وانعدام فعلها أمام جبروت وغطرسة الرجل الذي يمارس عليها أشكال القهر والوصاية، ولا يرى في أية امرأة يصادفها أكثر من ثقب .

صورة المعشوقة في " وليمة لأعشاب البحر" :
الكلام عن صورة المعشوقة /الحبيبة / المحبوبة يستدعي الحديث عنها بصفتها محبوبة (موجودة بالفعل) ، وأيضا باعتبارما ستكون عليه مستقبلا في (وجودها بالقوة) كزوجة ، وهذا التصور تتحكم فيه بنية الثقافة العربية الإسلامية . ونموذج المحبوبة هذا هو الذي نصادفه في الوليمة ، حيث تتأسس علاقة المحبوبة / التلميذة "آسيا بلخضر"بأستاذها " مهدي جواد "مدرس اللغة العربية على التعالق البيداغوجي من خلال التزامه بإعطائها دروسا خصوصية ، وستتطور إلى علاقة ودية تنمو شيئا فشيئا لتحطم جدار المكبوت الجنسي في أطوار تكوينها الأولى من خلال ثورة التلميذة على "الحاج محمد"/ رجل الدين ، فتخاطبه بقولها : إذا كان رأسك مليئا بالأخماج والميكروبات فنحن أناس أنقياء وشرفاء". وبعد أسبوع على حادث الجسر ، ستزور التلميذة أستاذها في بيته لتكتشف أنه فصد دم يده في محاولة انتحار من أجلها حبا فيها، لذلك قررت الثورة على الحبل السري الذي يربطها بأسرتها وعلى وصاية زوج أمها عليها لتعيش مع أستاذها أحلى أيام العمر بعد تغلغل الحب بينهما ، يقول السارد على لسان الأستاذ:" حيث لا حب لا توجد حقيقة ، عدم الكون وعدم الحب شيء واحد"(7) ، والعلاقة الصحيحة في نظره بين الرجل والمرأة تنبني على الصخر الذي لا يتزعزع ، إنها " العلاقة التي تتجاوز اليومي والتجاري والجنسي الى الحزن والفرح الكامنين في الخلايا".

إن علاقة الحب بين الطرفين تخطت كل العوائق والاكراهات التي كانت تقف أمامهما، فضربت عرض الحائط التقاليد المحافظة لأسرتها والتركيبة العصبية والأيديولوجية المتطرفة لأستاذها، وهذا ما ينم عنه اعتراف التلميذة "آسيا" لأختها منار بقولها :" عندما أكون معه أشعر براحة طفل في حضن أمه ، حساس ودافئ ، لكنه عصبي ومزاجه كيما النار.." ، "يبدو أحيانا رجلا بلا مستقبل، السياسة في بلادنا محرقة ، المنفى أو السجن أو القبر .."(9) ، لذلك كان السؤال - من بين عدة أسئلة محرقة تطرحها هذه الرواية - " كيف يمكن أن نبتكر الثورة ونحرر الجسد ونعيش الحب في ضوء النهار؟ "(9) ،لأن اللويثان العرب يفترس الحب والثورة.

من خلال ما سلف يمكن القول بأن صورة المحبوبة /التلميذة بأستاذها تختلف جذريا عن المنظور التقليدي الذي يرى فيها مجرد المتعة الجسدية بدليل أن الأستاذ يؤكد على أن المرأة ليست شيئا هامشيا وفائضا عن الحاجة كما توحي طهرانية العقيدة .."(10) ، لذلك سيبحث مع تلميذته موضوع الزواج بعد عودتها من العاصمة، لأن عشقه لها استبد به حتى النخاع، خاصة وأن معظم جوانب شخصيتها ذات بعد إيجابي : تناقش ، تقترح، تقرر بكل جرأة وحرية ، لأنها تتعلم لتتحرر وتستقل ، ولهذا كانت في صورتها، فاعلة ومنفعلة في علاقتها بالرجل/ الأستاذ، وأيضا مع الآخرين .

صورة البغي في "وليمة لأعشاب البحر":
أفضل شخصية تمثل صورة البغي في الوليمة هي " فلة بوعناب" الموسومة بالتعدد الى درجة تصل حد الالتباس الذي ينفي عنها أن تكون امرأة سوية " مزيج مستهترة مع مناضلة خائبة .امرأة حرة "(11) .لقد عاشت حياة مثيرة تزوجت من فاسق يهوى المومسات وبعد طلاقها سترحل الى العاصمة / الجزائر لتمارس حياة غير عادية ، تعمل ساقية في حانة يرتادها الضباط الفرنسيون . وبعد اندلاع الثورة الجزائرية ستنخرط في خلية سرية من خلايا جيش التحرير ، وهذا ما أكسبها تاريخا نضاليا ، لتختار فيما بعد أن تدفن خيبتها وفشلها في الكأس والجنس، داخل فضاء "بونه"/عنابة مدينة الحب والشهوة والخيانة والسمسرة والصلاة والسطوة الاقتصادية، ولعل تحررها العميق ، ورغبتها في إشهاره بين الناس ، ووعيها بوضعية المرأة العربية ، وخيبتها من مجتمع الاستقلال تعد أهم العوامل التي طوحت بها الى الاستدارة نحو الرحم الشهوي كاستعاضة عن ذلك ، وتبرز مدارات حياتها خطوط الزمن الغادر الذي حول جسدها شجرة افريقية وارفة تحط عليها أسراب الطيور المهاجرة لترتاح، وتتفيأ في انتظار إشراقة الصباح لتنقر الثمر المباح ، وترحل ضاربة في عمق سماوات جديدة ، فصارت الى ما يشبه المومسات ، حيث انتهى دورها الاستثنائي ، وهي بذلك ترمز الى المرأة التي خانها الزمن ، فتمردت عليه ، هاتكة ستر القلب والروح عنها ، ممارسة عشقها الفاسق ، لتقتنع في نهاية المطاف أن " كل شي يصدأ في النهاية ، والحب أكثر الأواني قابلية للصدأ.هذا هو قانون الطبيعة" (12) . إن شخصية "فلة بوعناب " لا تقدم لنا بهذه الكثافة لنتماهى معها ، وإنما لتثير فينا –كقراء- أسئلة مقلقة ومحرقة ، وتوقع بنا في النهاية في موقف الشك والحيرة ، فهي تعبر في الواقع تعبيرا عما هو هامشي وخفي ، معرية الواقع العربي الذي تكثر فيه الأقنعة التي تجعل من الشخصية عالما غامضا يتأبى عن التحديد ؛ ف" فلة بوعناب"" يرسم مزاجها للمرأة الجزائرية وجوها ثلاثة : الوجه الأول وجه المناضلة والثاني وجه العاهرة والثالث وجه الأم "(13) ، أما الوجه الرابع ، الذي أضيفه ، فهو وجه المرأة العاشقة والوفية المختزل في حقل من اللهب.

على سبيل الختم:
إن كثافة صور المرأة في تعددها واختلافها بادية على مساحة الوليمة ، ويمكن تأويلها بتعدد وجهات نظر الشخصيات التي تنتج رؤيتها للعالم عبر جوانبها الجوانية والبرانية ، مستجيبة لمفهوم الإنسان باعتباره كتلة معقدة المشارب والنوازع ، ومعبرة عن الواقع العربي في كل أبعاده المتعددة والمتناقضة أحيانا. وكل النماذج(النسائية) لا يستحب النظر إليها بمعزل عن الشخصيات الأخرى(الذكورية) ، بل في علاقتها معها ، بغية التعبير عن العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع.





الهوامش والإحالات:

(*) - حيدر : " وليمة لأعشاب البحر (نشيد الموت) " ط 4 ، 1992 ، دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان .
(1) - المرجع نفسه. ص37
(2) - المرجع نفسه .ص:38
(3) - المرجع نفسه ، ص:65
(4) - المرجع نفسه ، ص :64
(5) - المرجع نفسه .ص :244
(6) - المرجع نفسه .ص :165
(7) - المرجع نفسه .ص:174
(8) - المرجع نفسه .ص :300
(9) - د محمد برادة :" وليمة لأعشاب البحر : " اللويثان يفترس الحب والثورة "، مقال منشور في " اليوم السابع"،ع 11/6/1984، وحصلت على نسخته الأصلية عبر مراسلة خاصة مع الكاتب بتاريخ22/12/1993، ص:5
(10) - الرواية ، ص :358-359
(11) - المرجع نفسه، ص:30
(12) - المرجع نفسه، ص : 178.





أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر