الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 12:35 ص
ابحث ابحث عن:
قضايا وآراء
الخميس, 17-مارس-2005
رشيد الخيُّون -
سالم صالح محمد وقول ما لا يمكن قوله في زمن السلطة
سالم صالح محمد وقول ما لا يمكن قوله في زمن السلطة
ذكريات وأحاديث وأسئلة في شأن التعافي العربي
رشيد الخيُّون
يأتي كتابا سالم صالح محمد «ذكريات وأحاديث عن النضال الوطني الوحدوي» و«متى يبدأ التعافي العربي» (صنعاء 2004)، وهو وزير الخارجية والأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني بعدن وعضو مجلس الرئاسة بصنعاء، توثيقاً لأحداث جسام، خيرها وشرها، في تلك الدولة المضمحلة، أو المذابة في كيان جديد هو الجمهورية اليمنية. وما كان لي تناول كتابي سالم صالح محمد لولا معايشتي لتلك الأحداث كمراقب عبر ما كان يجري في الشارع. فبعد قراءة الكتابين استرجعت ذكريات أحد عشر عاماً عشتها مدرساً في مدارس عدن. كان يجلس في الصف الدراسي طلاب تخاصم آباؤهم المسؤولون وتقاتلوا، بل أبناء المنتصرين والمهزومين معاً ينظرون إلى قافلة السيارات العسكرية وهي تنقل المتهمين بمؤامرة وانشقاق إلى قاعة المحكمة. وهذا ما لا أشهده بالعراق والبلاد الأخرى. كان خبر المؤامرة أو المنجز الثوري أو أي أمر خطير آخر ينتشر في المدرسة أو الشارع قبل إذاعته في وسائل الإعلام الرسمية، فلا توجد سرية في الدولة إلا بحدود ضيقة، ما تقبض عليه دوائر الدولة تسرحه جلسات القات، أو يتلاسن به أبناء المسؤولين علانية. قابلت سالم صالح محمد، مرات قليلة، وهو في السلطة، ومرات كثيرة ما بعد السلطة. وكان كغيره من قادة الجنوب بسيطاً متواضعاً. تراه حاملاً كفنه على كتفه، لكثرة الصراعات ودورات الدم بين رموز الدولة، وإن تحدث تجده متسربلاً بالأمل والحيوية وغارقاً في التفكير في المشاريع الأبدية. فمحاولتهم تشجير ساحل أبين الرملي والمشمس حتى الاحتراق، وسفح جبل شمسان البركاني المحيط بعدن، وهذا ما لم تقدر عليه بريطانيا العظمى، كانت إيماءة إلى مشقة المهمة، التي قيدوها بخطط اشتراكية طموحة. فعبد الفتاح إسماعيل كان يريد لعدن حدائق مثل حدائق موسكو النظيرة، وكان علي ناصر محمد يتغزل بطبيعة أديس أبابا في وسائل الإعلام. قال أحد العقلاء المغتربين، بعد أن تسلم أمر تعيينه مدرساً في ثانوية جعار في محافظة أبين، «أي اشتراكية ستبنى ولا أرى أثراً لمقهى مناسب؟»، وهكذا كانوا يتجاوزون المشاريع الصغيرة لمشروع كبير استحالته مثل استحالة تشجير الجبل البركاني في لظى الصيف، وشدة عطش المدينة.
لقد غُلفت الصراعات على السلطة باختلافات في المبادئ والأفكار، والتجاوز على المشروع الاستراتيجي، الذي عجزت موسكو وبراغ وصوفيا، مع نعيمها البيئي، عن اشادته، حتى ازدحمت وسائل الإعلام بمصطلحات حفظها الناس على ظهر قلب. مثل: اليسار الانتهازي، والطغمة، والزمرة وغيرها. وكم تبدو هذه المصطلحات مؤثرة عندما نسمع أن مديرية محشورة بين الجبال القصية من مديريات أبين، والمحسوبة على يافع قبلياً وجغرافياً، وهي مديرية رصد، احتج حزبيوها بطريقتهم ضد موسكو نفسها، ذلك لتراجعها عن الاشتراكية والشيوعية في زمن غورباشوف، واعتبروا الأخير تحريفياً! حاول سالم صالح محمد في كتابيه كشف العديد من هذه الأحداث، لكن بروح الشاهد العادل لا الحاكم المحابي لانجازاته. كان أحد الفاعلين في تلك الفترة. بدأ معها من قبل الاستقلال، وظل فاعلاً فيها كأحد أبرز أقطاب السلطة في جمهورية اليمن الديمقراطية حتى مايو (أيار) 1990، يوم اعلان الوحدة، وحتى مايو 1994 وقت الحرب داخل الجمهورية اليمنية. كشف عن تفاصيل الصراع الحقيقي منذ بداية الدولة نوفمبر (تشرين الثاني) 1967، مروراً بحركة مارس (آذار) 1968، ثم حركة يونيو (حزيران) 1969، التي في أثرها تبنى جنوب اليمن الاشتراكية طريقاً في الحكم.
وهنا يأتي توالد النزاعات، وكأن هذه الدولة أو السلطة لم يمكن لها العيش بلا صراع ونزاع. فمن الخلاف والقتال في 13 يناير (كانون الثاني) 1966 بين الجبهة القومية ومنظمة التحرير، قبيل الاستقلال، إلى الخلاف بعد السلطة على طبيعة الحكم. فخرج من الحلبة، إلى المنافي أو المقابر، رجال كانوا السباقين إلى الحرب على بريطانيا ليصبحوا بين ليلة وضحاها عملاء وأذناب الاستعمار. فغاب عبد القوي مكاوي وقحطان الشعبي، وفيصل عبد اللطيف الشعبي. ثم صفي الحال للاتجاه اليساري. وما هي إلا سنوات ويظهر الخلاف فينتهي سالم ربيع علي متآمراً. ثم يقصى عبد الفتاح إسماعيل ليقتل بعدها بعد نفي خمس سنوات. وتصبح المناصب الثلاثة، رئاسة الدولة وأمانة الحزب ورئاسة الوزراء، بيد علي ناصر محمد. وما هي إلا سنوات ويظهر الصراع من جديد، فتحدث مذبحة المكتب السياسي في 13 يناير 1986. وهو اليوم نفسه الذي شهدت فيها عدن قبل عشرين عاماً قتالاً بين المناضلين على خلفية الخلاف بين بريطانيا ومصر.
تبرز في «ذكريات وأحاديث» سالم صالح محمد مسألة مهمة، وهي دور العامل الخارجي في كل أحداث دولة عدن والحزب الاشتراكي اليمني، دور الحكومات ودور الأحزاب. فالقتال في 13 يناير 1966 بين الجبهة القومية ومنظمة التحرير كان بدفع من مصر جمال عبد الناصر، أو على وجه الدقة المخابرات المصرية، التي وقفت مع منظمة التحرير، ودفعت نحو التوحيد القسري في كيان جديد هو جبهة التحرير. وكان حدث 26 يونيو 1978 الدامي، الذي أقصي إثره سالمين، بسبب مساهمة الأخير في مقتل الغشمي ثأراً لمقتل إبراهيم الحمدي، وبخلفية الفردية التي مارسها في إدارة الدولة. وكل هذا لا يخلو من خلاف أكبر حول الوحدة اليمنية والعلاقة بدول الجوار، وما للخلاف بين بكين وموسكو من أثر في شحن الطرفين. ولا يخفى في حدث 13 يناير 1986 دور أحزاب حركة التحرر العربية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي اللبناني، ممثلاً بأمينه العام السابق جورج حاوي، الذي كان موجوداً بعدن حتى صبيحة الحدث الدامي. وما لعبته إثيوبيا منغستو ماريام في الوقوف بصف علي ناصر محمد وجماعته. فقد كشف سالم صالح أن قوات إثيوبية تحركت صوب باب المندب لدخول عدن. ولا ينسى أيضا دور موسكو في العديد من الأحداث. لكن هذا العامل الخارجي ما كان يتحقق بهذا الثقل لولا وجود النزاع المزمن بين الرفاق. فحسب سالم صالح تعامل علي ناصر محمد بعصبية وضيق بعد عودة عبد الفتاح إسماعيل، الذي يعد مفكراً ومؤسساً للحزب الاشتراكي، وله مكانة لا ينافسه عليها أحد. وعاد علي عنتر، الذي اصطف مع علي ناصر ضد عبد الفتاح ليكون مع الأخير ضد الأول.
وعلى صعيد آخر، مَنْ يتابع تاريخ العمل الثوري في جنوب اليمن، يجده، في كل محطاته، مرتبطاً بشعار الوحدة اليمنية. جاء ذلك إثر ولادة ثورة 14 أكتوبر 1963 بالجنوب من رحم ثورة 26 سبتمبر 1962 في الشمال، بل سبق الجنوب الشمال في تبني شعار الوحدة. كشعار استراتيجي في العمل السياسي. لذا كان نعت الانفصالي من أسوأ النعوت واحطها في نظر الدولة، ولا يسلم مَنْ يرمى به من أقصاء أو تصفية.
بدأ سالم صالح محمد ـ وأغلب قادة الجنوب كذلك ـ نضاله السياسي قومياً. لكن خارج السرب البعثي والسرب الناصري، وسرب دعاة الوحدة العربية قاطبةً. فكان انتماء الجبهة القومية لحركة القوميين العرب، ومن زعامتها كان جورج حبش ومحسن إبراهيم، وكل هؤلاء تحولوا إلى الفكر الماركسي، الذي تبناه حبش في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وإبراهيم في منظمة العمل الشيوعي اللبنانية. وعلى هذا الأساس ظلت قومية قادة الجنوب بحدود شعار الوحدة اليمنية، كوحدة قطر لا وحدة أمة. قال سالم صالح: «لنأخذ الشعارين التاليين: وحدة ـ حرية ـ اشتراكية، شعار البعث. حرية ـ وحدة ـ اشتراكية، شعار الناصريين. هذه الشعارات الاستراتيجية القومية كم رددناها من دون تفكير. وكم نَظرَ وكتبَ حولها المفكرون والسياسيون في حقبة تاريخية معينة. فشل الشعاران من خلال حقائق الحياة، واتضح أن الفريق الأسلم يبدأ من بناء القطر - الوطن وينتهي ببناء الأمة. وليس العكس» (كتاب متى يبدأ التعافي العربي). وبالوقت الذي تعافى فيه سالم صالح محمد مبكراً من الشعار القومي الوحدوي، الذي ظل في دواخله ودواخل رفاقه طوال تبني الاشتراكية والأممية منهجاً في التفكير والعمل من أجل الوحدة اليمنية، تعافى أيضاً من سطوة الاتحاد السوفياتي، التي كثيراً ما كان يمارسها في خطاباته ولقاءاته، ضمن مركزه الرسمي والحزبي السابق، وزيراً للخارجية وعضواً في المكتب السياسي، ثم أميناً عاماً مساعداً للحزب الاشتراكي اليمني. قال: «ثمة دليل آخر هو فشل الاتحاد السوفياتي نفسه وتفككه، بل حتى أيضاً تفكك روسيا الاتحادية نفسها اليوم بعد مضي 75 عاماً على قيام هذه الدولة».
وهنا لابد من تذكر قوة العاطفة صوب موسكو، التي عبر عن ذروتها رئيس لجنة الدولة العليا للإعلام، في وسط الثمانينات، علي عبد الرزاق باذيب، وهو يتوجه مع قادة عدن بزيارة إلى موسكو، وجاء عنوان ما كتب مانشيتاً في الجريدة الرسمية (14 أكتوبر): «وإذا موسكو كما نعرفها وإذا الأحباب جمعاً في الطريق». جاء عنوان رئيس دائرة الإعلام، وعضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، معارضة لكلمات الشاعر إبراهيم ناجي في أغنية «الأطلال» لأم كلثوم، وهي: «وإذا الدنيا كما نعرفها وإذا الأحباب كل في طريق». وللقارئ أن يتأمل ذروة القرب بين عدن وموسكو في تلك الحقبة.
وعندما يُسأل اليوم أحد أبرز الوجوه في ذلك الوفد الرفيع، عن رأيه في التعاون مع واشنطن في مكافحة الإرهاب، يجيب سالم صالح محمد بالقول: «نعم نؤيد التعاون مع واشنطن لمكافحة كل أشكال العنف، والتدمير، والتطرف واستعباد الشعوب والثروات بالقوة والاحتلال... أميركا هي الوحيدة القادرة على معالجة المرض، لأنها تعرف مصدره وأهدافه». فكم تغيرت الدنيا، وتوافقت الأفكار مع الواقع، أن يصدر هذا القول من أحد أبرز قيادة بلد احتجت فيه ناحية أو قرية، كما تقدم، على تراجع غورباشوف عن الاشتراكية وعن الاتحاد السوفياتي، بعد فشل الحركة العسكرية ضده.
في كتاب «متى يبدأ التعافي العربي» طرح سالم صالح محمد أفكاراً وآراء، فيها من المرونة والعقلانية المفارقة كلية للتاريخ الثوري، والتمسك بالعقيدة أو الآيديولوجية كثوابت لا يمكن المساس بها. أفكار تتسع للرأي الآخر، وتطرح التدرج في الحلول، ولا تخلو من نقد لممارسة حرق المراحل، حسب عبارته، أفكار ما كان لها أن تُقال لولا التجربة الطويلة، التي خسر ما خسر فيها أهالي عدن ومحافظاتها، وكذلك كم ربحوا من قوانين اجتماعية، وبناء دولة وكادر ظهرت قيمتهما جلية مع الوحدة، وأخص بذلك النساء والفلاحين، وسهولة الحياة لرخص البضاعة وتصفية البطالة.
* الكتاب الأول: «ذكريات وأحاديث عن النضال الوطني الوحدوي»
* الكتاب الثاني: «متى يبدأ التعافي العربي»
* المؤلف: سالم صالح محمد

عن الشرق الاوسط/17/3/2005م




أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر