الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 11:56 م
ابحث ابحث عن:
ثقافة
الثلاثاء, 24-مايو-2005
المؤتمر نت - جونتر وهو يلقي المحاضرة في تعز جونتر أورت -
ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الألمانية
نص محاضرة ألقيت في صنعاء وتعز في 16 و17/5/2005

لقد قارن الباحث والكاتب السوري الراحل بو علي ياسين ترجمة الكتب من لغة إلى أخرى بعملية التصدير في عالم الاقتصاد، ولاحظ في هذا السياق أن "التبادل الترجماني" بين الوطن العربي وبقية البلدان ضئيل عموماً وأن العالم العربي يترجم عن اللغات الغربية أكثر بكثير مما يترجَم عن اللغة العربية إلى بقية اللغات.[1] أرى أن هذا الوضع يعكس الحال القائم في الاقتصاد، حيث يستورد العالم العربي كماً هائلاً من البضائع من الخارج، بينما تظل الصادرات العربية متواضعة باستثناء النفط، فيظل الميزان التجاري يميل دائماً لصالح الدول الصناعية.

ليس من قبيل الصدفة أن نجد هذا التشابه بين الوضع السائد في الاقتصاد والأدب، إذ أن علاقة الأقوى والأضعف سياسياً تنعكس في مجالات أخرى أيضاً. ولكن لا أود أن أركز على هذا الموضوع، أي السياسة والاقتصاد، بل أود أن ألقي بعض الضوء على "الاستيراد الثقافي" عبر الترجمة بالتركيز على الوضع الخاص بترجمة الأدب العربي الحديث إلى اللغة الألمانية.

لا يمكن المقارنة المباشرة بين الاقتصاد والأدب، فالعرب لديهم ما يصدرونه بشكل كبير، هو النفط، كما قلت، والطلب عليه كبير، أما الأدب العربي فليس مطلوباً – للأسف – مثل النفط. ما أسباب ذلك؟

الإقبال على الأدب العربي في ألمانيا

قدّم معرض فرنكفورت للكتاب، وهو أكبر معرض من نوعه عالمياً، العالم العربي كضيف شرف في العام الماضي، وحضر إليه عدد كبير من الأدباء العرب وعدد لا بأس به من الأدباء اليمنيين. لقد كان الاهتمام الألماني بالأدب العربي في فرنكفورت يعود إلى الرغبة في التفاهم بين الثقافات في ضوء ما يسمى بالصراع بين "الإسلام" و"الغرب"، وجذب الحضور العربي المتميز انتباه الإعلام الألماني بشكل ملحوظ. ولكن إلى أي مدى أدى ذلك الحدث الثقافي الهام إلى تغيير طويل المدى في تلقي الألمان للأدب العربي؟ هل حصلت طفرة حقيقية تستفيد منها الثقافة العربية نتيجة فرنكفورت؟ عموماً لا يجب أن نتوقع حدوث المعجزات. فبينما جاءت الفعاليات العربية في المعرض ببعض المفاجآت الأدبية الرائعة، انتقد العديد من الأدباء العرب – والإعلام الألماني – سوء تنظيم بعض المنابر والنقاشات والقراءات التي أقيمت هناك، ولا نلاحظ الآن، بعد مرور نصف عام، صدىً كبيراً للحدث، وظل الوضع القائم بخصوص الأدب العربي المترجم كما كان عليه مسبقاً بشكل عام.

يمكن وصف وضع الأدب العربي في البلدان الناطقة بالألمانية كالتالي: يوجد اليوم حوالي 500 كتاب أدبي لكتّاب عرب باللغة الألمانية. إلا أن ما تُرجم منها عن اللغة العربية هو حوالي 200 كتاب فقط، أما بقية الكتب فمعظمها مترجمة عن الفرنسية، وألفها كتّابها بالفرنسية باعتبارها اللغة التي يكتبون بها، كما هو الحال لدى العديد من الأدباء في بلدان المغرب العربي.

أما الكتب المترجمة عن العربية فثلاثة أرباعها تقريباً قصصٌ وروايات، وتتوزع على البلدان العربية كالتالي: 79 كتاباً من مصر، 28 من لبنان، 23 لكتّاب فلسطينيين، 19 من العراق، و15 من سوريا، بينما يقل عدد الكتب المترجمة من بقية البلدان العربية عن عشرةٍ لكل بلد. ولا يوجد إلا كتاب واحد لقصص يمنية مترجمة إلى الألمانية، وهو الأنثولوجيا "Gesichter und Orte" (ويعود العنوان إلى مجموعة "للوجوه والأمكنة" لعز الدين سعيد أحمد). أما عن عدد النسخ المطبوعة لكل كتاب عربي مترجم إلى الألمانية فلا يزيد عادة عن ثلاثة آلاف، وقلما يصل إلى عشرة آلاف، ولم يصل إلى ذلك المستوى إلا أعمال نجيب محفوظ بعد تقديم جائزة نوبيل له في عام 1988. وقد بيعت من الأنثولوجيا اليمنية التي أصدرتها إلى الآن، أي بعد سنة من صدورها، ما بين 400 و500 نسخة. الملاحظ إذن أن هذه الأرقام ضئيلة ومتواضعة، إذا قارنّاها مع الروايات الشائعة في ألمانيا، حيث تباع الواحدة منها بمئات الآلاف في كثير من الأحيان، مع العلم أن نسبة حوالي 40% منها مترجمة عن لغات غربية أخرى! وتشير الإحصائيات أن نصيب الكتب التي ألفها كتّاب عرب في سوق الكتاب الألمانية يصل إلى 0،3% (صفر فاصلة ثلاثة بالمئة) فقط.[2]

أسباب قلة الترجمات عن العربية

ما سبب قلة الترجمات عن العربية في سوق الكتاب الألمانية؟ الجواب هو أن عدة أسباب تتداخل ببعضها البعض، منها:

- الطلب هو الذي يحدد العرض في الأساس. فإذا كان الطلب على سلعة ما محدوداً، فلا تُعرض هذه السلعة لأنه لا يُتوقع تحقيق أرباح من وراء عرضها. فإذا افترضنا أن يحصل في يوم من الأيام أن يرغب القارئ الألماني في قراءة الأدب العربي بشكل كبير في إطار "موجة موضة" مثلاً، ستحاول دور النشر سد الحاجة بالتأكيد، وعندها ستكلف المترجمين بنقل ما يمكن من الروايات العربية إلى الألمانية. لا أتوقع حدوث مثل هذه الموجة في المدى القريب، كما لا يُتوقع ذلك أيضاً بالنسبة لأدب الهند أو الصين أو اليابان مثلاً. باختصار شديد نستطيع القول إن أدب اللغات غير الأوربية والسلافية تواجه صعوبات في دخول الأسواق الغربية بشكل عام، لأنه لا يلتقي مع الأذواق السائدة هناك، أو لأنه لا يوجد ما يشجع الجماهير الغربية على تذوق الآداب غير الغربية. وفي هذا السياق لا بد من التذكر بأن العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط إجمالاً يُنظر إليها باعتبارها منطقة أزمات ومشهد صراعات هي بغنى عن تعريفها هنا، بالإضافة إلى وجود التوترات من حين إلى آخر بين الأوروبيين والمسلمين المقيمين في أوربا. لا يخلق كل ذلك فضولاً لدى القراء الأوروبيين لمعرفة أدب الشعوب المسلمة. من ناحية أخرى تشكل الوضعية المذكورة أساساً خصباً للمؤلفات السياسية التي تدور حول مسائل الإرهاب والصراع العربي الإسرائيلي وما إلى ذلك، علماً أن معظم هذه الكتب، المنصفة منها والجائرة، يؤلفها ألمان وأوروبيون، وليس عرباً. ويبقى كتاب أدبي عربي واحد دائماً في مقدمة الكتب الأكثر مبيعاً في ألمانيا، وهو "ألف ليلة وليلة"، فعندما صدرت ترجمة ألمانية جديدة لها في العام الماضي، تحدثت وسائل الإعلام الألمانية عن ذلك فترة طويلة، وعُرض الكتاب للبيع في آلاف المكتبات في ألمانيا. ويشير ذلك إلى أن القارئ الغربي يميل إلى هذا الصنف الأدبي العربي المشهور أكثر من ميله إلى قراءة الأدب العربي المعاصر.

وإذا تحدثنا عن الذين يهتمون بالأدب العربي في البلدان الناطقة بالألمانية، فتثبت التجربة أن معظمهم يقرؤونه بسبب وجود صلة بالشرق لديهم، أي أنهم كانوا قد عاشوا أو اشتغلوا في بلد عربي أو يحبون الوطن العربي من وجهة نظر سياحية أو يصادقون عرباً وما إلى ذلك، ونادراً ما نجد قارئاً ألمانياً يبحث عن أدب عربي دون وجود دافع شخصي معيّن من النوع الذي ذكرناه. والاستثناء الوحيد عن هذه القاعدة هو كتب رفيق الشامي، ذلك الكاتب السوري الأصل العائش في ألمانيا والذي يكتب عن مواضيع شرقية باللغة الألمانية بدلاً من العربية والذي يعتبر اليوم من أنجح المؤلفين في ألمانيا. (للأسف له تصريحات سلبية جداً عن الأدب العربي الذي نعته بالهابط في أكثر من مناسبة.)

- لا تستطيع دور النشر الألمانية أن تبحث عن أعمال أدبية عربية جديدة بنفسها، وهي تحجم عن تكليف المترجمين بذلك. بالعكس، فإن المترجمين المتخصصين باللغة العربية هم الذين يقومون بالمبادرة ويقرؤون ويترجمون، ثم يبحثون عن دار للنشر ويقدمون الترجمات عليها، ثم تقرر الدار بنشرها أو عدم نشرها. وانطبق ذلك عليّ أيضاً، وواجهت صعوبة كبيرة في تقديم فكرة كتاب عن الأدب اليمني. لم يقل لي أحد في بداية التسعينات: اذهب إلى اليمن وابحث عن أدب هناك، بل أنا الذي طرحت فكرة تأليف بحث في الأدب اليمني في إطار أطروحة الدكتوراه، ثم قررت أن أترجم بعض القصص اليمنية. (ويعود فضل ذلك أيضاً إلى صديقي د. كريم ثابت الذي درس في ألمانيا آنذاك.)

ويُعد ذلك تفسيراً أيضاً لظاهرة نجاح أدب أمريكا اللاتينية النسبي وانتشاره في أوروبا، بل عالمياً. إذ أن اللغة الإسبانية باعتبارها لغة الأدب في بلدان أمريكا اللاتينية تسهّل الاتصال ولا تحتاج قراءتها إلى كثير خبرة وتخصص، فتستطيع دور النشر الأوروبية بالتالي أن تكتشف ما هو جدير بالترجمة من تلك البلدان بنفسها. ويشبه هذا الوضع إذن ما أشرنا إليه بالنسبة لكتاب المغرب الكاتبين باللغة الفرنسية.

- ومن العوامل التي تقف في طريق استيعاب القارئ الألماني والغربي للأدب العربي أيضاً خصوصية المواضيع الأدبية. فإشكاليات المجتمعات العربية التي يعالجها الأدب ليست هي دائماً نفس ما يهتم به الجمهور الغربي من قضايا إنسانية، أضف إلى ذلك أن المجازات الأدبية العربية ليست دائماً مفهومة للقارئ الغربي من أول وهلة. لا يهتم القارئ الألماني بضرورة بمأساة الفلسطينيين أو إشكالية هجرة اليمنيين إلى الخارج، ولا يُفهم رمزٌ طبيعي كالمطر مثلاً في ألمانيا أن المقصود منه شيء إيجابي، وليس سلبياً! ويمكن ذكر العديد جداً من الأمثلة على الاختلاف في الرموز والمجازات بين الأدب العربي والغربي.

اختيار الأعمال للترجمة

ولكن ليست المشكلة فقط قلة الترجمات عن العربية وقلة الإقبال عليها من قبل القراء. نسمع في مناسبات كثيرة أيضاً أن الجانب العربي ليس راضياً كثيراً باختيار الأعمال التي تترجَم. فإذا صدر كتاب مترجَم لكاتب عربي ما، نجد عادة لدى النقاد العرب من ينتقد قرار ترجمة هذا الكتاب. ويثار سؤال لماذا تمت ترجمة هذا ولماذا لم يترجم ذلك؟ بل يصل الأمر إلى قول البعض أن حركة الترجمة هي عبارة عن مؤامرة، حيث لا يترجَم إلى اللغات الغربية إلا ما يكرس صورة التخلف الشرقي والأوهام الاستشراقية! ففرض الغرب، وفقاً لهذا القول، على العرب ترجمة نجيب محفوظ بمنحه جائزة نوبيل في 1988، وترجم محمد شكري لأنه يخالف التقاليد العربية، وترجمت نوال السعداوي لأنها تكتب عن معاناة المرأة العربية، وتُرجم إدوار الخراط لأنه قبطي، وترجم الليبي إبراهيم الكوني لأنه يكتب عن الصحراء والتقاليد البدوية، إلخ[3]. في ذلك الاتهام نصيب صغير من الصحة، والكثير من المبالغة غير الموضوعية. تكفي نظرة سريعة إلى أسماء الأدباء العرب الذين ترجمت بعض أعمالهم إلى الألمانية لتثبت أن أهم الأسماء الأدبية العربية موجودة باللغة الألمانية: طه حسين، يحيى حقي، صنع الله ابراهيم، نجيب محفوظ، جمال الغيطاني، رشيد بوجدرة، إلياس خوري، محمود درويش، أدونيس، غسان كنفاني، سحر خليفة، الطيب صالح، حنا مينا، وغيرهم الكثيرون...

أما إذا تحدثنا عن غياب أسماء أخرى كثيرة، فلا بد من السؤال عن نشاط الجانب العربي في هذا السياق. لقد طرح أمين عام اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين محمد حسين هيثم في فرنكفورت في العام الماضي فكرة إنشاء لجنة عربية ترشح أعمالاً أدبية عربية للترجمة بهدف ترويج الأدب العربي دولياً بشكل أكثر فعالية. وإذ نرحب بمثل هذه الفكرة إلا أن ذلك يحتاج إلى عمل منظم ودعم مالي. ولم تقدم الجامعة العربية أو غيرها من المنظمات إلى الآن، وفق معرفتي، مثل هذا الدعم للأدباء العرب أو المترجمين. وما دام الوضع كذلك، ستظل تسود الفوضى في حركة الترجمة، ويختار كل مترجم ما يحلو له من أعمال. وربما كان هذا التصرف مناسباً في بعض الأحيان، لأن ترجمة الأدب تتطلب برأيي كشرط أساسي أن يكون المترجم مقتنعاً بجودة ما يترجم، وإلا لن يقدم ترجمة ممتازة. وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أيضاً أن المترجم الألماني المقيم في ألمانيا يستطيع ربما أكثر من غيره أن يقدّر ما هو مطلوب ومفهوم لدى القارئ الألماني. لا يعني هذا لهاثاً وراء الموجات التي تأتي وتختفي بسرعة، بل يعني اختيار تلك الأعمال التي قد تفتح نافذة لفهم المجتمعات العربية المعاصرة ولاستيعاب هموم وقضايا الإنسان العربي المعاصر.

وقمت أنا أيضاً باختيار القصص التي ضممتها إلى الأنثولوجيا اليمنية وفق المعايير الشخصية، حيث أعتقد أن الأعمال اليمنية التي ترجمتها هي على مستوى رفيع، رغم أن ذلك لا يعني إطلاقاً أن ما ليس موجوداً في كتابي ليس مهماً. ولكني حاولت في الوقت ذاته أن أقدم صورة متنوعة وشاملة إلى حد ما عن الأدب القصصي اليمني، فاخترت أدباء من كل أنحاء اليمن شمالاً وجنوباً، وقصصاً تدور أحداثها في الريف وفي المدينة، قصصاً قديمة من الستينات وأخرى حديثة تماماً، قصصاً سياسية وفكاهية، وقصصاً كتبها رجال ونساء. ورغم هذه المحاولة في الإنصاف قدر الإمكان، لا أدعي أن اختياري هو المثالي والكامل ولا يقبل أي نقاش، وبإمكان غيري أن يترجم أعمالاً يمنية إضافية مستقبلاً بالطبع. ويجدر القول إن ترجمتي لهذه القصص (ورواية واحدة، هي لسعيد عولقي) لم يدر علي بأي ربح، ولكن بعد تلك السنين الطويلة التي قضيتها في دراسة القصة اليمنية شعرت بضرورة نشر بعض نماذجها للجمهور الألماني.

مراجعة الكتب العربية

في صدد الحديث عن العوائق أمام نجاح الأدب العربي في الخارج لا بد من التطرق لموضوع آخر، هو أن أكثر المؤلفات العربية تُنشر دون مراجعة، لأن الكاتب العربي، كما يبدو، يرفض أن يشكك أحد في قدرته، والناشر لا يرغب في زيادة التكلفة نتيجة إنشاء هيئة تحرير لكل كتاب. ولكم هذه الأمثلة على ذلك:

نشرت دار العودة اللبنانية خمسة كتب لمحمد عبد الولي، منها كتاب "الأرض يا سلمى"، ويحمل هذا الكتاب صفة "رواية" رغم أنه مجموعة قصص قصيرة، ولكن ظلت عبارة "رواية" موجودة على الغلاف حتى في الطبعات المتأخرة! ولا يخلو متن النص أيضاً من الكثير من الهفوات. فلنستشهد ببعض المقاطع من رواية "يموتون غرباء" لمحمد عبد الولي والتي صدرت من نفس دار النشر، علماً أنها من أهم الروايات اليمنية على الإطلاق. نقرأ فيها الجملة التالية مثلاً:

(العمل قبل الأكل) هذا هو شعاره انه لا يفقد أي انسان يدخل وكأنه مرة؟ (ص 15)

الجملة مبهمة وغير مفهومة، والأرجح أن المقصود هنا "وكأنه يدخل دكانه لأول مرة"، فضلاً عن عدم ضرورة إشارة الاستفهام في نهاية الجملة.
ونقرأ هذه الجملة عن "طائتو" عشيقة بطل الرواية:
واصبحت هي وبيتها عميلاً دائماً لدكان عبده سعيد .. وقد يكون شخصاً ما رآها تنسل في الظلام اليه .. (ص 22)
لا نعرف ما المقصود بعبارة "هي وبيتها"، وأما عبارة "شخصاً ما" فغلط من ناحية الإعراب.

ونقرأ عن الفقيه "السيد" في الرواية نفسها ما يلي:
... سمع انه يحضر صلاة الجمعة دائماً في مسجدين اثنين في الشهر في المسجد الأقصى حيث اسرى بالنبي ومرتين في مكة، وأخرى في المدينة ... (ص 54)

نلاحظ أن المؤلف كتب "مسجدين اثنين"، ثم ذكر ثلاثة مساجد! وكان بإمكان أي شخص يقوم بتنقيح الرواية قبل نشرها أن يصحح مثل هذه الأخطاء المنطقية والنحوية إضافة إلى الإملائية. عندما ترجمتُ رواية "يموتون غرباء" إلى الألمانية وعرضتها لدار نشر قامت هذه الدار برفضها بحجة ضعف بنية الرواية رغم أهميتها من ناحية الموضوع والأحداث، ورأيت في هذه الحجة بعض الحق. ولكن لم أستطع كمترجم أن أغير الرواية من أساسها، ففي هذا الحال لم أعد مترجماً وفياً، بل أقوم بإعادة تأليف الرواية، مما يعني تجاوز حدود المهنة.
وقد يُذكر هنا أن محمد عبد الولي وقع ضحيةً لإهمال دار نشر أخرى أيضاً: فأصدرت دار نشر عربية مقرها في ألمانيا رواية "صنعاء مدينة مفتوحة" باللغة العربية، ولكن مع تشويه لاسم المؤلف، فالرواية صدرت هناك باسم "محمد عبد المولى"!
ينطبق ما أشرت إليه بخصوص محمد عبد الولي على كثير من الأعمال الأدبية اليمنية والعربية. ويجد المترجم نفسه في صعوبة عندما ينقل عملاً لم يخضع للمراجعة إلى لغة أخرى. يقول جمال شحيّد بشيء من الانتقاد في سياق حديثه عن الكتب العربية المترجمة إلى الفرنسية: "أما المترجمون الذين انكبوا على ترجمة أدبنا فيتمتعون عامةً بجدية وتمكن في باع الترجمة. ولكنني ألاحظ أن بعض الفرنسيين منهم يتعاملون مع النص الأصلي بفوقية تجعلهم يجيزون لأنفسهم تشذيب النص و"تمتينه". ... فيعيدون كتابة النص ويجردونه من بعض التفاصيل ويقدمون ويؤخّرون حتى "يستقيم" النص. فكأن الكاتب العربي ما زال في نظرهم طفلاً يحبو ولم يشتد عوده. ..."[4]
ولكن هل هذا الناقد بدوره منصف بما يقول؟ أود أن أشير في هذا الخصوص إلى ما قالته إحدى أهم المترجمات للأدب العربي في ألمانيا، هي ليلى شماع، تقول: "أشعر أحياناً أنه يقع على عاتق المترجم في عملية الترجمة تحرير النص العربي الأصلي بما في ذلك الاختصار وحذف الزائدات والتصحيح وصولاً إلى التنقيح الكامل."[5] وإذا كان في هذا الحكم شيء من القسوة يجدر التنويه إلى أن جونتر جراس صديق اليمن والحائز على جائزة نوبيل للأدب قد كلف شخصاً يراجع له جميع أعماله قبل النشر، وأن العمل التحريري يعتبر بديهياً بالنسبة للمؤلفين والناشرين في أوروبا، ولا يُفهم أبداً مساساً بكرامة الكاتب، إنما المتفق عليه أن المراجعة والتنقيح يفيد الأدب ويزيد من قيمة الكتاب. حتى أفضل الأدباء ليس معصوماً من الخطأ، ولا بد من المترجم أيضاً أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار، إذ أن الأدب المترجم لن يجد قارئه إلا إذا كان يقدَّم بصورة سليمة وخالياً من العثرات والإهمال. لا بد من تشجيع القارئ كبداية عبر التقديم السليم.

ولكن، وبعد ما جاء في هذا العرض من وصف يدعو إلى بعض خيبة الأمل، نلاحظ مع ذلك أن "التبادل الترجماني" أصبح في السنوات الأخيرة نشيطاً أكثر من ذي قبل. فبينما بدأت ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الألمانية – طبقاً للمصادر المتوفرة لدي – في عام 1973، عندما ترجمت ماريانه لابرت جزءاً من رواية "الأيام" لطه حسين، ولم يل ذلك كتاب عربي مترجم إلا بعد أربع سنوات، صدر 126 كتاباً عربياً مترجماً من إجمالي المئتين المذكور منذ عام 1995، أي أكثر من 60% من الكتب المترجمة عن العربية إلى الألمانية صدر خلال العشر سنوات الماضية فقط. نستطيع أن نستنتج من ذلك أن حركة الترجمة، وإن كانت بطيئة ومحدودة سابقاً، قد كسبت نشاطاً متسارعاً، ربما سيزيد في الأعوام القادمة تمشياً مع ديناميكية النتاج الأدبي العربي.

نقلاً عن موقع(http://www.targama.de (





أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر