د. عبدالإله بلقزيز -
الأمة والوطن في نماذج كونية وفي الحالة العربية
إذا كان الانطباق ممتنعاً بين الدولة والأمة، بين الأمة والوطن، في نموذج الدولة- الأمة الأوروبي الحديث، فكيف يسوغ في نماذج أخرى من الدول القومية المعاصرة دون النموذج الأول انسجاماً وتجانساً وهي الأغلب الأعم من دول العالم اليوم؟
في سائر المجتمعات والبلدان، اليوم، لا نعثر على صلة التطابق بين الأمم والأوطان من نوع الصلة التي افترضها منظرو الفكرة القومية في أوروبا القرن التاسع عشر، أو التي جرب المشروعان الألماني “النازي” والإيطالي “الفاشي” الذهاب بها إلى حد التحقق التاريخي الكامل. أمامنا اليوم ثلاثة نماذج للصلة بين الأمم والأوطان على الصعيد العالمي:
النموذج الأول: نموذج الأمم التي تفيض عن أوطانها فتتجاوز حدود الأمة في حالتها حدود الدولة، الجغرافيا السياسية، في هذا النموذج، دون الجغرافيا البشرية “القومية” مدى ومساحة. يحدث هذا التخالف بين الجغرافيتين لأسباب شتى: ثقافية، اجتماعية، كيانية، سياسية، إقليمية، أو دولية.. الخ مما في حوزتنا من أمثلة على ذلك نسوق ثلاثة: ألمانيا والصين وكوريا، الأمة الألمانية أوسع انتشاراً مما تفيده القومية الألمانية المجسدة في كيان ألمانيا المعاصر. استعادت ألمانيا وحدتها القومية الممزقة الى شطرين أو كيانين- بعد نهاية الحرب الباردة والاستقطاب الدولي وانهيار “المعسكر الاشتراكي” لكنها لم تستعد وحدة الأمة الألمانية سياسياً. ففي بولونيا والنمسا ومقاطعتي الالزاس واللورين في الشمال الفرنسي، مازال ثمة قسم من الأمة الألمانية يعيش خارج كيان ألمانيا ولا يدين لها بالولاء. إن حدودها ليست سياسية، وإنما هي حدود اللسان والتاريخ البحرمانيين.
والنموذج الثاني: نموذج الوطن الخاص بالأمة الواحدة غير الممزقة كيانياً في الغالب “قلنا: في الغالب لأنها قد تكون ممزقة في حالات أخرى مثل حالتنا العربية”، لكنها الأمة التي تعيش داخل وطنها تعدداً أقوامياً يفرض عليها التعايش مع جماعات إثنية أخرى والاعتراف لها بشراكتها لها في الوطن ذاته. والأغلب الأعم من الأوطان في العالم من هذا الضرب: من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا واسبانيا وكندا الى الهند واندونيسيا وماليزيا والبرازيل وجنوب افريقيا تختلف درجة التمايز بين الجماعة القومية الكبرى أو “الأكثرية” وبين الجماعات الأقوامية الصغرى باختلاف النسبة العددية لعدد السكان الإجمالي، لكنها تختلف- في المقام الأول- باختلاف الرابطة السياسية الداخلية التي تشد الجماعات إياها إلى بعضها البعض. كلما كان النظام السياسي ديمقراطياً- كما في البلدان الغربية- أمكن ذلك المجتمع الوطني أن يمتص التناقضات الناجمة عن التعدد الأقوامي وتصريفها سلمياً، أو محو آثارها تماماً في إطار نظام المواطنة وعلاقاته الذي تذوب فيه الجماعات وتعثر على حقوقها كاملة فيه. وكلما كان النظام السياسي مغلقاً، عانى النظام الاجتماعي من نقص متزايد في الاندماج القومي، كما الحال في كثير من مجتمعات الجنوب- فتكون النتيجة مزيداً من الانشقاق الداخلي، وربما مزيداً من الاحتقان ومن خوف الجماعات الأقوامية الصغرى من ابتلاع الجماعة القومية الكبرى لها. وبكلمة، يكون الوطن “الكيان السياسي” أكبر من الأمة، في هذا النموذج، لاحتوائه جماعات أقوامية وغيرها، وهو بذلك يختلف عن النموذج الأول في الصلة بين الأمة والوطن.
أما النموذج الثالث: فنموذج الدولة ثنائية القومية أو متعددة القوميات. وهو غير “النموذج” الثاني لأن الأمر لا يتعلق فيه بجماعات أقوامية بل بأمم كاملة التشكل التاريخي، المثال الأعلى لهذا النموذج في العصر الحديث هو مثال الاتحاد السوفييتي السابق والاتحاد اليوغسلافي “السابق” ثم تشيكوسلوفاكيا “سابقاً” في حالة الدولة ثنائية القومية. وليس معنى ذلك أن هذا النموذج انحصر نطاقاً في روسيا وأوروبا الشرقية، ذلك أن ما يشبهه- ولو في حدود نسبية- عرفته مجتمعات عديدة في الغرب نفسه مثل كندا وسويسرا و-الى حد ما- بلجيكا.
أين نضع الوطن العربي في هذه النمذجة؟
من الصعب وضعه في خانة من الخانات الثلاث. لكنه ليس صعباً أن نعثر على ملامح من بعض تلك النماذج في شخصيته الكيانية. نستبعد النموذج الثالث لأن الوطن العربي ليس دولة ثنائية القومية أو متعددة القوميات، ونستعيد بعض خصائص النموذجين الأول والثاني ونحن نقارن:
قلنا إن الأمة- في النموذج الأول- تفيض عن حدود الوطن، أو قل عن حدود الكيان السياسي. وقلنا إن الوطن- في النموذج الثاني- أوسع حدوداً من حدود الأمة لأن من مكوناته جماعات أقوامية أخرى غير تلك الأمة وإن لم تكن الجماعات تلك منفصلة عنها. والوطن العربي يبدو- بمعنى من المعاني- مزيجاً من النموذجين: فالأمة العربية تفيض عن حدود الكيان السياسي (الدولة الوطنية أو القطرية: إن كان يجوز تسميتها وطناً)، وتتعالى عليه إذ حدودها ليست سياسية، بل قومية وثقافية ولغوية. كما ان حدود الوطن العربي أشمل من حدود الأمة العربية لأن جماعات أقوامية أو ثقافية أو لغوية- كالكرد والتركمان والأرمن وزنوج السودان وموريتانيا والأمازيغ- تعيش جنباً إلى جنب مع الأمة العربية في هذا الوطن وتتقاسم معها الانتماء إليه.
هل يعني هذا أن الوطن العربي يمثل نموذجاً رابعاً للصلة بين الأمة والوطن؟
لا يمثل نموذجاً، ولا يكاد يجد نظيراً له في هذه الحال الكيانية المتلبسة. إنه يعيش وضعاً انتقالياً منذ ثلاثة أرباع القرن، أعني منذ انهيار الرابطة العثمانية الجامعة- الى حد- ودخوله في طور التجزئة الإقليمية: لم تستطع الدول الوطنية (القطرية) أن تشكل أوطاناً نهائية لساكنيها لأن في جوفها قوى اجتماعية وسياسية وثقافية ترفض أن تعترف بتلك الدول أوطاناً نهائية لها. ولم تستطع في الوقت نفسه تصنيع أمم جديدة مصرية ومغربية وعراقية ويمنية على أنقاض فكرة الأمة العربية وعلى مقاس تلك الدول، لأن الأمم لا تصنع بقرار سياسي، ولكن في الوقت نفسه لم تستطع فكرة الوحدة القومية أن تجد لنفسها سبيلاً الى التحقق التاريخي والسياسي في كيان جامع: اندماجي أو فيدرالي أو كونفيدرالي، أما العوامل الاجتماعية- السياسية التي حملت المشروع القومي العربي، فلم تكن دائماً في مستوى ما انتدبت نفسها له من مهام، وقد اقترف بعض قواها أخطاء فادحة حين وصل الى السلطة وحكم باسم الفكرة القومية.
هل يمكن أن تنتهي الدول والوطنية (القطرية) يوماً إلى أوطان نهائية وتذوي فكرة الأمة الكبرى والوطن الكبير، ثم تنشأ من خلف ذلك أمم جديدة تبدو لها الأمة العربية غداً كما تبدو لنا اليوم الأمة الإسلامية: جزءاً من ماضٍ تصرم؟
ليست الوحدة القومية العربية حتمية تاريخية موضوعية يقود إليها التاريخ تلقائياً. إنها مشروع تصنعه إرادة واعية وعمل يخطط. وإذا ما غابت هذه العناصر فقد لا تظل فكرة الأمة الموحدة مجرد طوبى، بل قد ينشأ ما يناقضها وينقضها.