آنيا سييزادلو -
الإنتخابات اللبنانية: حرّة إنما غير عادلة
كلّ أسبوع، نستقلّ أنا وزوجي سيّارة تاكسي قديمة ومترنّحة إلى منطقة "حزب الله”. يختفي وسط بيروت الزمرّدي وراءنا مع أبنيته العالية الفخمة والبرّاقة، وتلوح أمامنا كما سفن الأشباح مبانٍ مهدّمة يزيّن الغسيل جدرانها التي صدّعتها القذائف.
سرعان ما نترك بيروت الفعلية ونصل إلى الضاحية – الهلال الشيعي المكتظّ بالسكّان والزاحف، نصفه شبيه بضواحي العواصم ونصفه أحياء فقيرة عند الحدود الجنوبية للمدينة. في الضاحية حيث يسكن أهل زوجي وعدد كبير من سكّان بيروت، تبدو التظاهرات الأخيرة المناهضة لسوريا والتي عُرِفت بـ"ثورة الأرز" بمثابة حكاية خرافيّة. قال لي أحد طلاّب الجامعات في آذار عندما كانت التظاهرات في أوجها في ساحة الشهداء "نحن في منطقة الضاحية غير معنيّين بما يجري في وسط بيروت. نعتبر ما يحدث دعابة".
لكنّ الرايات الملوّنة وطلاب الجامعات المتعدّدي اللغة حرّكوا مخيّلة الملايين حول العالم. أصبح إجراء الانتخابات البرلمانية في الوقت المحدّد بعيداً من النفوذ السوري المطلب الجامع الجديد لإحلال الديموقراطية. وحذّر الرئيس بوش من تأجيل الانتخابات المقرّر إجراؤها على أربعة آحاد متوالية بدءاً من 29 أيار الجاري.
لكنّ بوش وأميركيين آخرين ذوي نيّات حسنة يتجاهلون مشكلة أساسية: مع رحيل سوريا، ستكون الانتخابات اللبنانية حرّة إنما غير عادلة. في لبنان، أصوات المسلمين، لا سيما الشيعة منهم، أقلّ وزناً من أصوات المسيحيين بكلّ معنى الكلمة.
تعود عدم المساواة هذه إلى عام 1943 عندما سلّم الفرنسيون لبنان للنخبة المسيحية المارونية الناطقة الفرنسية وأسّسوا ما يُعرَف بالنظام الطائفي حيث تتوزّع المناصب النيابية والتنفيذية بين المذاهب الدينية الأساسية. نظرياً يؤمّن هذا النظام توازناً بين القوى الدينية لكنّه عملياً، يسبّب عدم توازن قويّاً – ويشكّل وكراً للفساد، حيث يؤلّب النفوذ الخارجي على غرار النفوذ السوري بسهولة طائفة على أخرى.
يخلق القانون الانتخابي في لبنان شبكة بيزنطيّة من الأقضية والمحافظات مقسّمة بعناية لمنح كلّ من الطوائف الثماني عشرة عدداً معيّناً من المقاعد في المجلس النيابي. ولا علاقة لعدد المقاعد التي تحصل عليها كلّ طائفة بثقلها الحالي في السكّان. بحسب تقديرات وزارة الخارجية الأميركية، نسبة المسلمين في لبنان 70 في المئة مقابل 23 في المئة للمسيحيين. (تختلف التقديرات لأنّه لا إحصاء للسكّان في لبنان منذ 73 عاماً لكنّ قلّة تشكّك في أنّ المسلمين يشكّلون الغالبية مع تفوّق عدديّ للشيعة على السنّة). ومع ذلك، ما زال مجلس النواب يُقسَم حتى يومنا هذا بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين. في الانتخابات الأخيرة عام 2000، كان على السياسيين المرشّحين في الجنوب ذي الغالبية المسلمة الحصول على عدد أصوات يبلغ ثلاثة أضعاف عدد الأصوات التي يحتاج إليها المرشّح في بعض المناطق المسيحية.
وفي خطوة تبقي على هذا التشويه السياسي، يفرض القانون الانتخابي اللبناني على كلّ الناخبين العودة إلى مسقط رأسهم للاقتراع بغضّ النظر عن المنطقة التي يعيشون فيها أو حتى مكان ولادتهم. يجب أن ينتقل الشيعة إلى "منطقة شيعية" للتصويت لمرشّحين شيعة في غالبيتهم وهكذا دواليك. يُضطرّ إذن والدا زوجي اللذان يعيشان في الضاحية منذ أكثر من أربعين عاماً إلى التوجّه إلى بنت جبيل قرب الحدود الإسرائيلية كي يصوّتا. إنّهما عجوزان وضعيفان، وعلى الأرجح أنّهما لن يتكبّدا مشقّة رحلة تستمرّ ساعتين لانتخاب شخص لن يمثّلهما حتى. قالت حماتي بينما كانت تضع على الطاولة أطباقاً لذيذة من القَرع المحشوّ وأوراق العنب الملفوفة "لا أحد يستحقّ العناء!".
ومن الغرائب الكثيرة في النظام اللبناني أنّ أحد السياسيين البارزين في لبنان لا يستطيع أن يصبح رئيساً للجمهورية، ويُمنَع عليه تولّي منصب رئيس الوزراء حتى إنّه ليس مخوّلاً أن يصبح رئيس مجلس النواب. لماذا؟ لأنّ ذلك السياسي – زعيم المعارضة وليد جنبلاط – مسلم درزي. والنظام الطائفي يفرض "ترويكا" معيّنة حيث يجب أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً ورئيس الوزراء مسلماً سنّياً ورئيس مجلس النواب مسلماً شيعياً – بدلاً من اختيار الشخص الذي يملك أفضل المؤهّلات للمنصب.
يمتدّ هذا التمييز الذي تدعمه الدولة إلى أدنى مستويات القطاع العام حيث تختار الحكومة موظّفي الخدمة المدنية من عناصر الشرطة إلى أساتذة الجامعات بحسب الطريقة التي يصلّون بها.
وكان لصديقنا، أستاذ العلوم محمود فرج، تجربة شخصية في هذا الصدد. فمحمود الذي يحمل دكتوراه فرنسيّة وله 18 مؤلّفاً أكاديمياً، مؤهّل للعمل في أيّ جامعة لبنانية. لكن بما أنّ إحدى الكلّيات التي تقدّم بطلب للعمل فيها كانت لديها حصّتها من الأساتذة الشيعة، قال له العميد "سنحاول أن نتدبّر لك مكاناً لكن لا تخبر أحداً". يتدبّر له مكاناً؟ شعر محمود بالقرف. ويعلّق قائلاً "لا تنتمي إلى هذا الوطن بل إلى طائفتك".
في الولايات المتحدة التي عاش فيها طوال 17 عاماً، عمل محمود في إحدى الشركات الواردة على قائمة مجلّة "فورتشن" لأكبر خمسمئة شركة في العالم وصوّت – مرّتين – لجورج دبليو بوش. أما في لبنان، وإذا تكبّد عناء التصويت، فليس لديه خيار غير "حزب الله"، الميليشيا الشيعية المسلّحة التي تسيطر على لائحة المرشّحين في قرية أجداده. وهو يفكّر في وضع ورقة بيضاء في صندوق الاقتراع.
في الولايات المتحدة، شعر محمود أنّ صوته مهمّ أمّا في لبنان فالأمر مختلف. ويقول مع ابتسامة حزينة "عمري خمسون عاماً ولم يسبق لي أن صوّتّ مرّة واحدة في بلدي. ومع النظام المعتمد حالياً، أظّن أنّه لن يكون هناك أيّ معنى لصوتي".
كلّ أسبوع، أعاين نتائج هذا الحرمان من الحقوق. في الصيف عندما يتحوّل نسيم البحر في بيروت هواء حاراً، تتوقّف شركة "كهرباء لبنان" عن تزويد الضاحية بالكهرباء. فيلجأ الناس إلى "الاشتراك" حيث يدفعون مبلغاً معيّناً كلّ شهر لثريّ في الحيّ يملك مولّداً كهربائياً. أينما نظرتم في الضاحية، لا يمكنكم رؤية السماء إلا من خلال أسلاك الكهرباء المتشابكة التي تنقل "الاشتراك" من مبنى إسمنتي إلى آخر.
هنا يأتي دور "حزب الله" الذي هو بمثابة ماكينة سياسية للأشخاص المستبعدين من النظام السياسي. وضْع الحزب الخاص كفصيل مسلّح هو جائزة الترضية التي يفرضها الواقع على الشيعة تعويضاً عن حرمانهم حقوقهم. بالنسبة إلى الغالبية الشيعية غير الممثّلة جيداً في لبنان، السلاح هو العنصر الأفضل للتساوي مع الآخرين: تتدفّق الأسلحة والأموال عبر سوريا من إيران التي يُعتقد أنّها ترسل ملايين الدولارات كلّ شهر إلى المجموعة المقاتلة. في الضاحية وجنوب لبنان، أصبح "حزب الله" حكومة ظلّ قويّة وأسّس شبكة من المدارس والمستشفيات والمؤسّسات الخيرية.
هناك إجماع خارج لبنان على ضرورة نزع سلاح "حزب الله" كما ورد في قرار مجلس الأمن الرقم 1559، وعلى أنّه ينبغي على الحزب أن يأخذ مكانه في الديموقراطية اللبنانية السائرة نحو الأمام. لكن السؤال هو، كيف؟ في السياسة اللبنانية القائمة على المساومات المستمرّة، سيطالب "حزب الله" بتعويض ما مقابل تسليم سلاحه. إذا لم يعد الحزب سلاح إيران في مواجهتها مع إسرائيل، فهو لن يخسر النفوذ السياسي وحسب بل أيضاً ملايين الدولارات. لن يوافق "حزب الله" على التخلّي عن هذا كلّه في وقت الأوراق السياسية اللبنانية ليست أبداً لمصلحة الشيعة.
يبدو أنّ إدارة بوش تنتظر إلى ما بعد الانتخابات لمعالجة مسألة "حزب الله”. لكنّ الانتخابات المقبلة فرصة نادرة: إذا أراد بوش مساعدة لبنان في نزع سلاح "حزب الله" بطريقة سلمية – وإذا أراد أن يستحقّ سمعته كمحرّر لشيعة العالم العربي المضطهدين – يجب أن يشجّع مسيحيي لبنان على التخلّي عن امتيازاتهم. وإذا كان أمين عام "حزب الله"، حسن نصرالله، براغماتياً كما يُعرَف عنه، ينبغي عليه القبول بمشاركة الحزب في الانتخابات ترشيحاً واقتراعاً وبإحصاء سكّاني مقابل تخلّيه عن قاذفات الصواريخ.
ينصّ اتّفاق الطائف الذي وُقِّع عام 1989 ونظّم الحياة السياسية اللبنانية منذ الحرب الأهلية، على إلغاء النظام الطائفي. لكن حتى الآن، قلّة من السياسيين بذلوا جهوداً صادقة لتحقيق ذلك. غير أنّ اللبنانيين لديهم شعور مختلف. فقد أظهر استطلاع آراء أجرته أخيراً مؤسّسة زغبي أنّ 63 في المئة يؤيّدون إلغاء الترويكا و69 في المئة يؤيّدون انتخاب الرئيس بحسب مبدأ "شخص واحد صوت واحد" بدلاً من اختياره من البرلمان كما هي الحال الآن.
ليس مفاجئاً أنّ الموارنة أظهروا انقساماً في المسألتين في حين أنّ المسلمين فضّلوا بوضوح النظام العلماني. وفي الآونة الأخيرة دعت مجموعة لبنانية جديدة منبثقة عن المجتمع الأهلي اسمها "هيا بنا" إلى تنظيم استفتاء بهدف وضع حدّ للتمييز الإيجابي على أساس الدين. ينبغي على إدارة بوش والأمم المتحدة دعم هذه المجموعة – ليس لأنّ هذا قد يساعد في نزع سلاح "حزب الله" وحسب بل أيضاً لأنّه إجراء ديموقراطي.
في هذه الأثناء، يُلصق السياسيون في معظم أنحاء بيروت صوراً لوجوههم التي ترتسم عليها ابتسامة عريضة. لكن في الضاحية، قلّة يتكبّدون عناء توزيع صورهم لأنّ معظم الأشخاص الذين يعيشون في هذه المنطقة لا يصوّتون فيها. وعدد كبير من هؤلاء الأشخاص ينوون عدم التصويت في الانتخابات، وحماتي واحدة منهم.
هل تصوّت لو كان بإمكانها أن تفعل ذلك في بيروت على مقربة من المنزل؟ لم تصدّق السؤال وقالت بتهكّم بينما كانت ترفع الأطباق عن المائدة "هل تظنّين أننا في أميركا؟".
ترجمة نسرين ناضر
كاتبة مستقلّة مقيمة في بيروت أعدّت تقارير من لبنان وسوريا والعراق
لمجلّة "نيو ريبابليك" وصحيفة " كريستشن ساينس مونيتور"