الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 12:30 ص
ابحث ابحث عن:
كتب ودراسات
الإثنين, 30-مايو-2005
علي ربيع -
دراسة..تجليات الواقع في القصة القصيرة
شكلت مرحلة التسعينيات منعطفاً خطيراً وهاماً في الحياة اليمنية، إذْ تم في هذه المرحلة تحقق الوحدة اليمنية، وبدأت بذلك مرحلة جديدة في الحياة السياسية، والاقتصادية، والفكرية والاجتماعية. والأكثر من هذا هو تغير المساحة المتاحة للحرية, والفكر، والإبداع، إذْ صارت أرحب وأوسع من ذي قبل، وصارت فرص النشر متاحة عبر الصحف والملاحق الأدبية والثقافية، فضلاً عن تبني الهيئة العامة للكتاب لمواهب الشباب وإبداعاتهم، ومن ثم نشرها وخاصة في الفترة الأخيرة.
وفيما يخص القصة القصيرة فقد استطاعت أن تقدم نفسها في التسعينيات كما لم تقدمه في قبل وعلى يد كتابها الجدد الذين انتزعوا الاعتراف بالقصة من الجميع، وجعلوها على قدم المساواة مع الشعر من حيث الإصدارات، والنشر والحضور في المنابر والمهرجانات وتوجوا جهودهم بإنشاء نادي القصة.. الذي ينشط نشاطاً واسعاً في خدمة القصة وكتابها( ) وفي ظل هذا المشهد الجديد الطارئ على القصة القصيرة في اليمن، ظل كتاب القصة القصيرة في الفترات الماضية يتواصلون معها على تنوع مواضيعها، وبمختلف أشكالها الفنية.
وظهر جيل جديد شاب من كتاب القصة القصيرة، نحسبه قد أثر تأثيراً كبيرا على مسار القصة كماًّ وفناًّ وموضوعاً.
وتتفاوت اتجاهات هؤلاء الكتاب الشباب بين القضايا الاجتماعية، والرومانسية، والذاتية والسياسية. بينما ظهرت اتجاهات أخرى مثلت شكلاً مغايراً لما هو مألوف، ويظهر ذلك في قصص وجدي الأهدل ذات الطابع الباراسيكلوجي الفنتازي، وقصص أحمد زين الموظفة للغة في خلق نص جمالي محض.
بينما تظل أسماء كثيرة من كتاب القصة تدور في مدارات تتفق وتختلف في توجهاتها وأدواتها الفنية، وكل منها يضع بصماته الخاصة به فيما يكتبه من قصص، نذكر من بين هؤلاء: محمد الغربي عمران- زيد الفقية- صالح البيضاني، وأفراح الصديق، وهشام شمسان، ومحمد القعود، وهدى العطاس، وأروى عبده عثمان، وسامي الشاطبي، وعبدالكريم المقالح، ومها ناجي صلاح، وآمنة يوسف، وفؤاد الجيلاني.. والقائمة تتطور، والأسماء كثيرة، ويبرز من بين هؤلاء جميعا وجدي الأهدل بأسلوبة المتفرد، وفنياته المغايرة، وهو ما حملنا على تخصيصه بهذه القراءة السريعة التي تناول تجليات الواقع ومظاهرة في قصص وجدي الأهدل وتحديدا في مجموعتين هما:" زهرة العاير" و" صورة البطال". فمن المعلوم أنه لا يوجد عمل أدبي أو فني لا يحمل رؤية تجاه الواقع من نوع ما، سواء أكان هذا العمل قصيدة، أو لوحة، أو قطعة موسيقية، أو قصة، أو رواية رؤية الواقع.
ولعل القصة بشكل عام أوضح نوع أدبي تتجلى فيه سواء أكانت هذه الرؤية فلسفية أو سياسية أو اجتماعية، ويختلف القصاصون في بث رؤاهم من خلال القصة، وتظهر هذه الرؤية من خلال مجموع العمل الفني القصصي لكاتب ما، وتسمى حينئذ الرؤية العامة، كما تظهر الرؤية من خلال قصة معينة، وتكون حينئذ خاصة بهذه القصة، إلا أن هناك نوعا آخر من الرؤى يمكن أن نسميه بالرؤى الجزئية، وهي عادة ما تكون متنوعة ومتعددة داخل القصة الواحدة، وتظهر لنا من خلال السرد أو الحوار، أو من خلال حركة الشخوص أنفسهم، وتدل عليها عبارة أو جملة أو حتى كلمة.
والواقع في أي عمل فني -مهما كان نوعه- لابد من وجوده، إذ أن لكل علة معلول ولاشيء يـني كم ى شيء، فالكاتب إنسان يعيش في محيط متنوع بالحياة، ولا يمكن له أن ينفصل عن الوجود الذي يحياه ويؤثر فيه ويتأثر به، بل حتى تلك الأعمال الفنية التي تنتسب إلى اللامعقول، أو تلك التي ينسبها النقاد إلى المدرسة السريالية أو العبثية، تحمل في طياتها رؤى من نوع ما، كما هو الحال عن " كافكا" في "المسخ" و"المحاكمة" وعند " شارتر" في " الذباب"( )
وحين نتأمل قصص وجدي الأهدل من خلال مجموعتيه القصصيتين: زهرة العابر، وصورة البطال، فإننا نستطيع أن نلمس كثيراً من الرؤى التي تطرحها تلك القصص، وإن كان الطابع العام الذي تحمله هذه الرؤى هو طابع الرؤية الساخرة والناقدة للواقع بكل ما فيه من سوداوية وقتامة.
ومن قراءتنا لمجموع قصص المجموعتين يمكننا ملاحظة ثلاثة جوانب لتجليات الواقع في القصة القصيرة عند وجدي الأهدل وهي الجانب الاجتماعي، والجانب السياسي، والجانب الفلسفي، ويمكننا تفصيل القول فيها كما يأتي:
1. الجانب الاجتماعي:
لا يمكن أن يعيش الإنسان بمعزل عن المجتمع الذي يعيش فيه، ومن المؤكد أنه يتفاعل مع ما يجري داخل هذا المجتمع سلباً وإيجاباً، يهتم لهمه ويفرح لفرحه.
ولا شك أن الأديب إنسان في الدرجة الأولى، يعيش في مجتمع معين، غير أن ما يميزه عن بقية أفراد المجتمع هو أنه يتفاعل مع مجتمعه تفاعلاً شعورياً خلاقاً، يتجلى في شكل إبداعي: شعراً أو نثراً، ومن هنا فهو يعبر عن تجاربه الحياتية التي نفعل بها في قالب فني متميز، على عكس الإنسان العادي، والذي لا شك أنه ينفعل، ويتأثر، ويعايش مواقف كثيرة، لكنها تتلاشى تدريجياً دون أن يستطيع التعبير عنها تعبيرا فنيا مبدعا.
ووجدي الأهدل قاص يعيش في مجتمع يهيئ له واجبات دسمة من المواقف والتجارب المختلفة، وبحكم موهبته الفنية وثقافته المميزة، استطاع أن يسجل لقطات حية عن طبيعة المجتمع الذي عايشه، ويعايشه في صورة ناقدة ساخرة، عكست الكثير من السلبيات السائدة في المجتمع يمكن أن نشير إليها تفصيلات من خلال مجموعتيه القصصية الأولى" زهرة العابر وصورة البطال".
* انتفاضة في وجه الجهل.
يوجه وجدي الأهدل سهاماً للاذعة عبر قصصه إلى الحال التي يعيشها المجتمع، يسبب الجهل المستشري في أوصاله. ففي قصة رسالة من طالب جامعي، يصور لنا القاص حالاً مزرية من حالات الجهل الثقافي، إذ أنه داخل الحرم الجامعي لا يستطيع قراءة صحيفته اليومية، بسبب تزاحم الطلاب والطالبات عليه لقراءة ما يستطيعون قراءته من الصحيفة، وكأن الصحيفة لديهم شيء غريب ومجهول، إن القاص يريد أن يقول إن شبابنا الجامعي جاهل، إنه لا يقرأ حتى صحيفة، وإن كان هذا هو حال الشباب المتعلم فكيف الحال بالآخرين؟ أليست هذه صورة واضحة من صور الجهل البشعة يصورها لنا وجدي الأهدل في مطلع الألفية الثالثة.
وربما قال قائل إن تجمع الطلاب والطالبات عليه وهو يقرأ صحيفته سمة طيبة، إذْ يبحثون عن المعرفة وعن الجديد بقوة واضحة، غير أن القاص يفسد علينا هذا الرأي من خلال بقية القصة، إذْ يضطر للهرب منهم إلى أسطح القاعات، إلا أنه لا يعدم من يتسلق وراء " ليسألني عن نتيجة مباراة في كرة القدم، أو كاريكاتير الصفحة الأخيرة، وهل يشبه الوزير الفلاني، أو يشبهني، أو يشبه أمه، وأخرى تسألني عن برج الثور الذي تنتمي إليه( ).
بينما نرى صاحب " البوفية" يريد الصحيفة ليلف فيها الشطائر وبعض الطلاب يريد من الصحيفة مزقةً ليجلس عليها
ولا نعدم صورة أخرى من صور الجهل العالق في ذهنيات كثيرة من الناس في قصة " رسالة من إنسان الألعاب ما وراء الورقية" حيث نرى صورة من صور التفكير الخرافي، المتعلق بالسحر والشعوذة، والذي لازال راسخاً في ذهنيات كثير من طبقات المجتمع، حتى المتعلمين منهم، ولعل جعل القاص شخصية تلك القصة حقيقية معروفة بالأسم، وهو من الشباب المثقف والمتعلم، وشاعر مبدع كذلك- هو وسيلة من وسائله لتعميق تلك الصورة وإيصالها مؤلمة تدعو للرثاء.
إن الزمان يمر إلى الأمام وفي كل لحظة جديدة يبتكر العالم شيئا جديداً، عبر طرق التفكير العملية والمنهجية. وفي قلب مدينة صنعاء تجد ألواناً من تلك الكتب التي تقتل الإنسان، وتجعله يعيش خارج الزمن، إنها كتب الشعوذة والسحر، ومجلات الخلاعة والعري، وكتب الحب والغرام والجنس، هذا ما يريد أن يفصح عنه وجدي الأهدل بطريقته الفنية الخاصة، وهي في نفس الوقت دعوة إلى التحرير من قيود الجهل والتطلع نحو وطن يعج بالعلم والمعرفة والتفكير البناء والمثمر.
* بين البؤس والفوضى:
من الطبيعي جدا أن يفتقد أي مجتمع نظامه، طالما أن الجهل ينخر في كيانه بهمة دئوبه، بل من المشكل جّداً أن يغدو نظام اللانظام هو المسيطر على اوجه الحياة المختلفة، ولعله من فضل القول أن نقول إن أي أمة تفتقد للنظام فقل عليها السلام.
ووجدي الأهدل في قصصه كثيرا ما يبتئس لحالة الفوضى التي لاحظها في المجتمع، ونحن هنا نقتص بعض تلك الصور التي تعكس فوضوية الحياة وانعدام المجتمع المدني الحديث فنجده مثلاً يقول: كان وصول موزع الصحف إلى منزلي مستحيلاً، إلاَّ إذا كان من رجال المظلات الممتازين" الحرس الجامعي بدأوا ينظمون نوبات لتنظيم نوبات القراء، وأحياناً استلام رشاوى من بعض الطلاب والطالبات..
بل إن طريقة وجدي الأهدل في كتابة قصصه في حد ذاتها تعبير عن جحيم الفرضى الحياتية، ويلمح ذلك من لا معقولية الحدث وفنتازيته في قصصه مثل" رسالة من سائق الباص العظيم" ورسالة من طالب جامعي" و" صورة البطال" بل إن " ولد الكوتشينه" قصة رمزية تجسد تلك الفوضى التي يعيشها العالم، والتي تستعصي على التفسير، وتخرج عن المعقولية، إنها أشبه بحالة مرضية نفسانية، نوع من الجنون أو الهوس الضارب في عقل الإنسان ويمضي القاص في عبارات موجزة، يوجه سهامه الناقدة لبعض الظواهر التي تعكس صورة لتخلف المجتمع وعليه التخلص منها. ونظراً لأن القاص لا يخصص لكل ظاهرة قصة بعينها فإنه يمكننا الإشارة إلى بعض تلك الظواهر من مجموع قصصه التي بين أيدينا.
فنراه مثلاً يشير إلى " بائع حبحب في الهواء الطلق في الحرم الجامعي" في قصة " رسالة من طالب جامعي" ومدلول ذلك واضح جداً، فمن المفترض حتى في غير الحرم الجامعي لا يسمح ببيع تلك الأغذية المكشوفة، فما بالك إذا كان هذا يتم داخل الحرم الجامعي، وما بالك إذا كان طالب الجامعة هو من يمسك كتابه بيد وقطعة الحبحب بيد.
ومن تلك الظواهر إدمان القات والمداعة، حيث يورد على لسان الطفل في قصة " فرصة تعارف" وقوله" ستواجهين معه مشكلة إدمانه للقات حد المهانة، وعشقه لمص فيح التتن من المداعة، وكأنه أنبوبة أو كسجين التي تمده بالحياة في غرفة الإنعاش العظيمة التي يسميها الوطن"
كما لا يغفل التعرض للأفكار الاجتماعية الخاطئة في التربية مثلاً كما في قصة " ولد الكوتشينة" حيث يحظر على الطفل معرفة أشياء كثيرة عن طريقة مولده مثلا، إذ ُيغرَّر عليه بأنه جاء من ركبة أمه، أو فمها، أو إصبعها، كما يحدث في بعض بيئات المجتمع، و" حينما استفسروا منها ما إذا كان ذلك الطفل الخبيث الأنفاس قد فعل معها شيئاً مناقضاً للفكرة المزروعة في رأسها عن طريق مولدها..
أما عن بؤس المجتمع وفقره، فنرى الكاتب لا يغفل هذا الجانب، لأن الفقر هو أيضا يدلي بدلوه في رسم شخصية المجتمع وتشكيله، بل وتحديد كثير من سلوكياتها. ففي قصة " رسالة من طالب جامعي" نرى أثناء السرد مظاهر الفقر بادية من خلال شخصية العجوز الشحاذة، والطفل النشال، وبيع الطلاب لكتبهم القديمة، ونقص الكراسي الدراسية وجلوس الطلاب على الأرض- في الجامعة طبعاً- وأخيراً المتاجرة ببؤس هذا المجتمع من قبل الحكومة مقابل الحصول على قروض أجنبية ثم أحيلت قضيتي إلى مجلس الوزراء الذي قرر إدخال سابقتي الخطيرة ضمن الخطة الخمسية الجديدة للدولة.. وعندما أستفسر عن السبب أجابوني بأنهم يستخدمون قضيتي لأغراض الدعاية لأجل أن تحصل البلاد على المزيد من القروض والمساعدات الأجنبية.
- اللعنة حتى الحكومة كانت تبحث عن فوائد دنيئة من وراء ظهري وأنا أقرأ صحيفتي المفضلة( ).
وفي قصة " زهرة العابر" نرى أن ما حمل اللص على السرقة هو الجوع والحاجة، وفي قصة" رسالة من جزمة الشاعر القلقة" نرى البؤس في أعلى صورة حيث يسكن بطل القصة في غرفة ضيقة، تؤنسه جزمته، وتحدثه بنبوءات عن بلد في الحضيض سيصبح في القمة- إشارة إلى بلد الكاتب- وتحكي القصة بطريقة فكاهية، ساخرة، وفيها رمزية موفقة، عن حياة عليه القوم، وما هم فيه من بذخ.
وفي قصة " فرصة تعارف" نشتم صعوبة الحياة ومرارتها، وفكرة الهجرة إلى أي ثقب في العالم، وفيها معالجة طريفة لصعوبة الزواج في إطار الظروف المعيشية القاسية، فضلاً عن تكاليفه الباهضة.
وفي قصة " حكاية القصص الأربع اللواتي هر بن من درج المؤلف " نرى عجز الفنان والمبدع في هذا المجتمع عن إيصال فنه إلى الآخرين لعدم قدرته على نشره بسبب صعوبة الحياة، وتكاليف النشر.
هكذا يفند لنا وجدي الأهدل فظاعة الواقع، وهكذا يضعه أمام أعيننا، أملاً في أدني فرصة للتغير، وحالماً بوطن صحيح ومجتمع فاضل.
* المرأة والمجتمع
لم يورد القاص قصصاً قائمة بذاتها تعالج قضايا المرأة، ولكنه على عامتة في الكتابة، يقتص في قصصه ذات الطابع الموضوعي العام اللحظات المناسبة لتسجيل فكرة، أو نقد سلوك ما، أو الدعوة إليه.
فإذا ما انصرفنا إلى تتبع ما يخص المرأة في قصص وجدي الأهدل، فسوف يتبين لنا أنه ينظر للمرأة من اتجاهين اثنين.
الأول: يبدو فيه متعاطفاً معها ومشفقاً عليها من رواسب اجتماعية ضارة.
الثاني: لا يفتر جهداً في نقدها، وتقريعها، بطريقته الساخرة.
فمن ما يخص الاتجاه الأول، نراه ساخطاً على حرمان المرأة من التعليم، كما في قصة" فرصة تعارف"( ) الروائي قرر أهاليهن حرمانهن من التعليم والزج بهن في مطابخ أزواج، كروشهم أكثر اتساعاً وعمقاً من عقولهم"
كما ينتقد النظرة الدونية للمرأة، وحرمانها من الحنان الأسرى والرحمة المجتمعية سواء بسواء.
على حين أننا نراه في الاتجاه الآخر يعيب على المرأة سطحية التفكير، وعدم استنهاضها لهمتها في البناء،ونرجسيتها، وتفكيرها في ملذاتها وحسب، دون تفهم لمهام الرجل وأعبائه.
ففي قصة" رسالة من طالب جامعي" يقول" وأخرى تسألني عن برج الثور الذي تنتمي إليه، بدليل أنها نطحتني عدة مرات.
وفي القصة نفسها يتهكم بتلك الفتاة التي سألته وهو يقرأ صحيفته عن درجة حرارة مأرب التي يعمل فيها زوجها البارد على حد زعمها، والمغزى من ذلك واضح " للقارئ اللبيب.
وفي قصة" رسالة من جزمه الشاعر القلقة" رغم زمزية القصة وفنتازيتها، إلا أننا نستشف منها هجوما على المرأة، باعتبارنا أن المرأة هنا هي المعادل الموضوعي للجزمه، حيث يتضح لنا في القصة تهافت النساء على الموضوع وأنبهارهن بالمظاهر الكاذبة، وسعيهن وراء ما هو جديد، وذلك واضح من خلال وصف الحفلة التي حضرتها جزمه الكاتب.
وفي قصة " رسالة من سائق الباص العظيم" يعري الكاتب تفكير تلك الزوجة الساذجة، ويكشف عن رغبتها العمياء في التقيد، وعن حبها للكماليات، دون مراعاة للأولويات، فعلي الرغم من كل المصائب التي واجهها زوجها بسبب الرسالة التي وصلته من أمريكا، إلا أنها لا تعني لها شيء، بل فتحت المسجلة الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
لتسمع أغاني الروك التي لا تفهم منها حرفا واحدا، بل يصل إلى الذروة في تعرية عقليتها وتبيين أنانيتها حين يقول" وحيث أسرعت زوجتي باحتضان المسجلة كما لم تفعل معي وهي تونون" أوه ماذا فعلوا بك يا حبيبتي؟( )
هكذا إذاً نظر وجدي الأهدل نحو المرأة، كان لها حيناً، وضدها أحياناً أخرى، فهو لا يعيب عيها جنسها ولا طبيعتها، ولكنه يريد لها أن تستخدم عقلها لتثبت وجودها جنبا إلى جنب مع الرجل، مترفعة عن سطحية التفكير والتعلق بالقشور، والانخداع بالمظاهر الكاذبة.
المجتمع والقيم.
لكل مجتمع – أي مجتمع بشري- قيمه ومثله وأخلاقياته المتعارف عليها، وهي بذلك تعد نوعا من الثابت الذي لا يمكن زعزعته، وفي الوقت نفسه يعد الخروج عليها صورة من صور الانحراف الاجتماعي.
ووجدي الأهدل في قصصه يشير إلى هذه الخروجات على القيم بطريقة أو بأخرى، فهو يشير إلى أن المادة طغت على كل شيء لدرجة أن الإنسان الحقيقي داخل الإنسان مات أو يراد له أن يموت، ليحل محلة الإنسان الزيف، وهو ما تفصح عنه قصة " رسالة من إنسان الورقة( )
بل يبدو أن المادة تسيدت حياة الإنسان، وقتلت ضميره، حتى أن تلك الأسرة التي زارت أسرة بطل القصة في " قصة ولد الكوتشينة" كما يفضح الكاتب نواياهم لم يكونوا ليزوروهم لأنهم أقاربهم، وإنما تلهفهم لميراثهم هو الدافع الأساس، حيث كانوا يترقبون سقوط منزل أسرة الولد عليهم، ومن ثم موتهم.. لقد انقرضت الإنسانية من داخل الإنسان وتهالكت في أعماقه القيم.
كما أن ثمة بعد آخر نلمسه في قصص وجدي الأهدل، يعكس التشرخ الأخلاقي في السواد من الناس، وهذا يتجلى في كثير من الألفاظ والعبارات الهابطة أخلاقيا والتي تنتشر في قصص وجدي الأهدل، على ألسنة شخوصه، عاكسة بذلك ما نسمعه ويومياً على ألسنة الناس من بذاءات لم تعد داخل دائرة " التابو" أو الممنوع ، ونجد أمثلة لما أوردناه في قصة " رسالة من سائق الباص العظيم" وفي قصة" صحف الألف الثالث" ما ورد على لسان ابن زهر، مثلاً إذْ يقول: ماعدا جارية قشتالية، رأيت منها ما تكرهه حتى الحمير المدنية، فأوصيت خياطة بربرية حاذقة بإغلاق حانوتها، وجعلته وقفاً لإبليس وذريته"
ويقول: " لعل جاريتك النوبية المرهونة عند العطار اليهودي تستطيع أن ترسم بسلحها في باحة ذلك اليهودي، المشهور بضخامة آلته، من أشكال الحيوان وبدعى الزخارف ما يعجز عنه فنان هذا العصر( ).
والفتيات مثلا في قصة" رسالة من طالب جامعي" لم يعدن يتحرجن من قبلة متفق عليها، أو من البوح برغبتهن الجنسية، أو حتى خيانتهن أزواجهن.
حتى من يضرب بهم المثل في علو القيم نجدهم محمومين بالرغبة الغرائزية والانصياع لها، يقول القاص في القصة السالفة الذكر" ولم أعدم أيضا السرقة بالإكراه لصحيفتي المفضلة من قبل أساتذة الجامعة الحريصين على تابط الصحيفة بدلال العجوز المتصابية، ثم إهدائها على اجمل طالبة يصادفونها كتعبير عن الإعجاب( )
إنها صورة كاملة يجسدها لنا وجدي الأهدل في قصصه عن هذا المجتمع الذي نحياه نحن وإياه جميعاً، من خلال رؤاه المبثوثة داخل هذه القصص، والتي يمكننا أن نصفها بالرؤى القاتمة، لما هي عليه من بحثٍ عن المظلم والسلبي، ومن ثم تعريته والتنفير منه على طريقة الفنان المبدع، لا على طريقة الخطيب الواعظ.
2- الجانب السياسي:
السياسة هي مفتاح التحولات، وبقدر ما تكون السياسات منسجمة مع تطلعات شعوبها وآمالها تكون سياسات ناجحة، والقاص يعبر عن آرائه السياسية بطريقته الخاصة، فهو يكره التعسف والظلم والابتزاز للشعوب، ويكره الفوضى واللانظام، ويحمل بقسوة على محتكري الفكر، كل ذلك يعبر عنه وجدي الأهدل من خلال بعدين اثنين هما: البعد الوطني والبعد القومي.
* أولاً: البعد الوطني:
ربما كان اختيار القاص للفنتازيا في كتاباته القصصية من أجل أن يقول ما يريد، كيف يريد، ولذلك نراه يهاجم السلطة بطريقته الخاصة، ويحملها مسئولية معاناة الشعب.
إن السلطة تتاجر بقضايا الشعب، وإلا لما استغلت قضية قراءت لصحيفته- رمزاً لتفاهة تفكير السلطة- من أجل استدرار عطف الدولة المانحة( ).
أن السلطة تفسد كل شيء، وإلا ماسر وجود الفوضى والعبث- الرشوة والاختلاس( ).
أن السلطة في نظر وجدي الأهدل لا تعد وذلك الجلاد الذي يمسك السوط بيد، وعنق المواطن بيده الأخرى، والسلطة نفسها في قصة " صحف الألف الثالث" هي من قمعت المفكر المخترع النابغ" منصور حمير"
أن وجدي الأهدل يبحث عن متنفس للحرية والانطلاق، حتى أنه يرى أن إرغام مجتمع ما على الديمقراطية ما هو الأ نوع من الديكتاتورية المقنعة،
وحتى يعبر عن رفضه لطبيعة الوضع السياسي القائم، لا يفتأ يسخر من أدوات السلطة، حين يصف جندياً أو ضابطاً أو ينتقد ممارسات خاطئة( )
* ثانيا: البعد القومي:
وكما هو دأب الفنانين العظام لا تخلو قصص وجدي الأهدل من نظرة نحو محيطه الكبير، ليعريه وينتقده.
وفي قصصه التي بين أيدينا يتهكم وجدي الأهدل بالحرب إلى حد الضحك المبكي، وهذا لا يدل على سوداوية القاص، أو على الشك في انتمائه، وإنما هي مرارة الواقع وفظاظته، وما يفعله هنا في قصصه لا يعدو تعبير الدكتور عبدالعزيز المقالح عن شعر نزار قباني بعد نكسة حزيران 1967م حيث وصفه بأنه يستعمل طريقة الوخز بالكلمات.
ويبلغ وجدي الأهدل أعلى درجات السخرية من الوضع العربي في قصة" رسالة الأعرابي" وهو في هذه القصة يكشف لهم مدى حقارتهم عند أمريكا، أنهم لا يعادلون سوى ضرطة فحسب.
ولا يترك وجدي الأهدل فرصة مؤاتية إلا واستغلها لتعرية الوضع العربي، كما هي قصة" صحف الألف الثالث" حيث جاب على لسان ابن زهر عواصم العرب كاشفاً لنا عن التفاهة، ومقارناً بين ماضٍ زاهر أفل وحاضر مزر إلى حد لا يطاق.
ومن ذلك قوله على لسان أبن زهر: إن عصركم هذا مقارنة بما توفر في أيديكم من وسائل المعرفة هو أسوأ العصور العربية.
حتى يصل إلى قوله: فأي عذر لكم تنتحلونه في عدم تسيدكم للأدب والثقافة في عالم عصركم، ونحن قد تركنا لكم من الأدب والثقافة ما لم تصل إليه أمة من الأمم..
أليس ما يقوله وجدي الأهدل قمة في السخرية والنقد من حال العرب الراهن، حيث صاروا في مؤخرة قطار العالم، تابعين في كل شيء مستلبين في كل شيء، بعد أن كانوا أسياد العالم قروناً مضت في كل مجال من مجالات الحياة.
* الجانب الفكري:
كما قال علوان مهدي الجيلاني على الغلاف الأخير لزهرة العابر" بأن وجدي الأهدل يبني عالماً إبداعياً مادته الخام كل التشوهات والأخطاء والانحرافات التي يمارسها أهل هذا الزمن.
والكاتب في كل ذلك يبني ذلك العالم في إطار باراسيكولجي فانتازي، ومن ثم بثَّ رؤاه من هذا المنطلق.
وهو يعبر في ذلك عن القلق الوجودي الذي يعتري انشطار الإنسان بين عالم المادة وعلام الروح، سطحية التفكير لدى البشر، وعدم تجاوزهم حدود الذات الحسية وذلك واضح في قصته " رسالة من إنسان الورق" حيث يقول:
" ماذا يمكن للكاتب أن يحكي من قصص لإنسان الزمن الغارق في وحل الذات؟ أية أخلاق وأية مبادئ نروجها لإنسان الزمن الاصطناعي؟ كيف نقيم علاقة وجدانية مع إنسان الديكور والزخارف المشوه الروح؟ مع إنسان الكالونيا اللامع كالمرأة الميت إنسانيا؟
أن طريقة القاص في طرح رؤاه، وفي طريقة كتابته، هو نوع من التفكير المغاير، ومحاولة للبحث عن عالم جديد، غير المألوف والمعاش.
إن الإنسان لدى وجدي الأهدل سر الأسرار، كلما ازددت منه قرباً ازددت منه بعداً، وكلما خلت أنك عرفته جهلته أكثر. وإذا تأملنا قصته" صورة البطال" فإنها توصلنا إلى هوة ما ثلة تفصل بين الإنسان والإنسان، وتفصح لنا عن كيفية تحول الإنسان إلى صورة فاقدة لكل الحواس في عشية غير منطقية، وغموض يوازي غموض الإنسان نفسه.
وفي ناحية أخرى نجد موجدي الأهدل يفصح عن مذهبة الأدبي، أو بمعنى" آخر نظرته في كتابة القصة، حيث يبرز هذه الرؤية بطرية ذكية قي قصته" حكاية القصص الأربع اللواتي هربن من درج المؤلف" حيث يتضح لنا من خلالها أن أي مجموعة قصصية تطبع يجب أن يكون هناك رابط بين قصصها، من حيث الرؤية الموحدة مثلاً. ويورد على لسان إحدى قصصه قوله بأن المؤهلات التي يجب توافرها لأي قصة تذهب للطبع هي اشتمالها على رؤية باراسيكلوجية، وخيط روائي.
ويبين على لسان قصة أخرى، بأن الغموض مطلوب في الكتابة، وأن للكاتب الحق في أن يحمل معه سراًّ للقبر على رأي الروائي المكسيكي وكارلوس فوينتس.
فهو إذن يثور على تقاليد كتابة القصة القديمة، ويحاول أن ينحو بها المنحى ذاته الذي سلكه شعراء الحداثة، حيث نجد الولع بالتجريب ومحاولات الاكتشاف.
ويكشف عن رؤيته أكثر حين يورد على لسان إحدى قصصه قول الكاتب الأرجنتيني" خولو كور ثازار" حينما رد على القراء والنقاد الذين يطالبون بتفسير واضح ومحدد للأشياء، حيث يرى أن الكتاب نوعان: بعضهم يكتب قصته وعندما ينتهي منها تكون قد اكتملت ولا يملك أي تفسير غير ما تطرحه سطور القصة، والبعض الآخر هم من يتلاعبون بصعوبات مصطنعة، وألغاز زائفة وتعقيدات غير حيقيقة.


الهوامش




أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر