فهمي هويدي -
اعترافات المشهد السياسي وأسئلته
التحول الديموقراطي له ثمنه وغايته. والتراشق الذي حدث في مصر بمناسبة الاستفتاء على تعديل الدستور جزء من الثمن. ووحدها الإجابة على التساؤلات المثارة حول خطى الإصلاح التالية على التعديل، يمكن أن تطمئن الجميع إلى صدق التوجه نحو الغاية.
بصرف النظر عن أية تفاصيل، فثمة حقيقة بالغة الأهمية ينبغي إدراكها، هي أن هناك شيئاً يتحرك إيجابياً في مصر، وان صوت المجتمع بمختلف فئاته وشرائحه علا خلال الأشهر الأخيرة بوجه أخص، مطالباً بإصلاح سياسي حقيقي، يكفل للناس حقهم في الكرامة وفي المشاركة والمساءلة وتداول السلطة. وهي مطالب لم تعد مقصورة على أهل الأحزاب وغيرهم من محترفي العمل السياسي، وإنما عبرت عنها فئات عدة من خارج الهياكل التقليدية، وهو ما يعني أن الدائرة أوسع بكثير مما يظن، ومن ثم فالأمر ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد، لان أي تجاهل لتلك الرسائل أو خطأ في قراءتها، قد يكون أمراً باهظ التكلفة، فضلاً عن كونها من الكبائر التي لا تغتفر في حق مصر، وفي حق التاريخ.
ولست أبالغ إذا قلت ان العالم العربي يمور بتفاعلات إيجابية مماثلة، لها تجلياتها المختلفة. والذين تتاح لهم فرص لقاء المثقفين والناشطين العرب في المنتديات والمناسبات المختلفة وأنا واحد منهم يلتقطون الكثير من الإشارات الدالة على حدوث تلك التفاعلات، التي لا تتاح لأغلبها للأسف فرصة الظهور إلى العلن.
لقد شاركت خلال الأسابيع الأخيرة في أربعة ملتقيات توزعت على عواصم عربية مختلفة، مغربية ومشرقية. ولم يكن جديداً ما سمعته عن تجليات النضال المدني والمحاولات الدؤوبة لرفع الصوت والتعبير عن أشواق المجتمعات المتطلعة إلى الحرية. لكن ما لفت انتباهي أن التفاعلات الحاصلة في مصر، رفعت من معنويات الناشطين في مختلف الأقطار، وأعطتهم أملاً كبيراً في التفاؤل بالمستقبل. حتى قال لي أكثر من واحد ان ما يجري في مصر إيجاباً أو سلباً سيكون له تأثيره المباشر ليس فقط على تقدمهم في مسعاهم، وإنما أيضاً على موقف السلطات منهم. ومن هؤلاء من اعتبر أن <<عودة مصر>> بعد طول غياب، وسماع صوت شعبها بعد طول صمت وانحباس، من إرهاصات قيامة العرب (البعض تحدث عن انتفاضتهم)، في القرن الميلادي الجديد.
إذا اعتبرنا أن الدرس الأول في ممارسة الحرية يعترف بحق الناس في الاختلاف، وفي التعبير السلمي عن آرائهم، فينبغي أن نقر بأن علاماتنا في الإجابة على أسئلة ذلك الدرس كانت بدرجة <<مقبول>> في شق، ودرجة <<ضعيف>> في الشق الآخر. كيف ولماذا؟
بدرجة أو بأخرى مورس حق الاختلاف في الصحف، القومية والحزبية والمستقلة، رغم أن بعض كتاب الصحف القومية (الموالية) كانوا أضيق صدراً وأكثر خشونة في اتهام جماعات المعارضين. وفي حالات محددة ذهب نفر من أولئك الكتاب إلى أبعد مما ينبغي، حيث لجأوا إلى تجريح الأشخاص، دون المواقف والأفكار. ولا أستطيع أن أعفي الكتاب المعارضين من <<طول اللسان>>، ولكن يظل وزر الأولين أكبر، لان الصحف القومية هي الأقوى تأثيراً (لأسباب تاريخية لا مهنية بالضرورة)، ولأنها منسوبة إلى السلطة بدرجة أو بأخرى. وإذا ذهبنا في المصارحة إلى ابعد، وتوافرت لنا شجاعة نقد الذات فلا مفر من الاعتراف بأن الصحف المذكورة كانت حزبية بأكثر منها قومية. بمعنى أن انحيازها للحزب الوطني كان واضحاً (صارخاً ان شئت الدقة). ومن ثم فإن موقفها من الأحزاب الأخرى في الجماعة الوطنية اتسم بالتجاهل حيناً وبالتنديد والاشتباك في أحيان أخرى كثيرة.
مع ذلك فلا يسعنا إلا أن نقر بأن حق الاختلاف مورس بشكل واسع على صفحات الصحف، بحيث أتيح كل طرف أن يبسط رأيه في كل الموضوعات التي أثيرت منذ انفتح ملف الإصلاح السياسي، وحركت مسألة تعديل المادة 76 من الدستور مياهه الراكدة، وصولاً إلى صياغة المادة والاستفتاء عليها.
في هذا الصدد فلا مفر من الاعتراف بأن شقة الاختلاف اتسعت كثيراً في أوساط الجماعة الوطنية المصرية، بعد إعلان الصياغة النهائية للمادة 76، التي أحدثت نوعاً من التناقض بين الغاية والوسيلة. ذلك أن التعديل الذي تفاءل به البعض واعتبروه إضاءة على طريق الإصلاح، أراد لجماهير الشعب أن تسهم في انتخابات رئيس الجمهورية بين عدد من المرشحين. وتلك غاية محمودة لا ريب. ولكن الشروط التي وضعت عند صياغة المادة في دهاليز مجلس الشعب، ضيقت إلى حد كبير من فرص المرشحين الآخرين الذين يتطلعون إلى منافسة رئيس الجمهورية، ومن الناحية العملية، فإنها جعلت أعضاء الحزب الحاكم الذين يحوزون أغلبية المقاعد في المجلسين التشريعيين والمجالس البلدية، يتحكمون في مصير أي شخص مستقل يعن له أن يرشح نفسه للرئاسة. وهو ما آثار دهشة أهل السياسة فضلاً عن فقهاء القانون، إذ اعتبروا أن الصياغة بهذا الشكل تجعل من الحزب الوطني ممسكاً بمفاتيح العملية السياسية كلها. فهو الذي يرشح مرشحه، وهو الذي يرشح المنافسين له في الوقت نفسه. وكانت تلك نقطة التحول في مواقف الأحزاب التي دخلت في حوار مع الحزب الوطني من البداية، وغاية مرادها أن تتحسن صياغة المادة 76، بحيث تضع شروطاً أكثر معقولية أو مرونة في الترشيح لرئاسة الجمهورية. إذ دفعتها تلك المفاجأة إلى وقف الحوار مع الحزب الوطني ومقاطعة الاستفتاء على التعديل، والانضمام إلى المربع الذي عارض من الأساس تعديل مادة واحدة في الدستور، مطالباً بإحداث تعديلات أشمل وأعمق.
ثمة حقيقتان جوهريتان للغاية ينبغي أن يعيهما الجميع في المشهد الراهن، الأولى أن التحول الديموقراطي له ثمنه واستحقاقاته، وليس هناك تحول مجاني أو بلا ألم. وصدق التوجه نحو التحول لا يقاس فقط بإصدار المراسم أو تغيير النصوص وتبديلها، ولكنه يقاس بمدى الاستعداد لدفع ثمن ذلك التحول. وهذا الاستعداد يختبر من خلال الموقف من احترام حقوق المعارضة في الجماعة الوطنية. بل أذهب إلى القول بأن قمع المعارضة بأي سبيل كان، لا يسكت صوتها أو ينهكها في حقيقة الأمر، بقدر ما أنه يجهض مشروع الإصلاح وينال من صدقيته. بل ان ذلك القمع يخلّف مرارات ويحدث تراكمات من شأنها أن تهدد الاستقرار والسلم الأهليين، الأمر الذي قد يؤثر في نهاية المطاف على مصالح الذين يصرون على الانفراد باحتكار المشهد السياسي، ومصادرة حق غيرهم في المشاركة.
الحقيقة الجوهرية الثانية أن ثمة متغيرات في العالم لم يعد ممكناً تجاهلها، جعلت أعين المنظمات الدولية مفتوحة على ما يجري في أنحاء العالم متعلقاً بحقوق الإنسان بمختلف عناوينها ودرجاتها. بل فتحت الباب لإمكانية محاسبة تلك الدول وتوقيع عقوبات عليها في حالة إصرارها على المضي في ممارسة تلك الانتهاكات. ولا ننسى أن موضوع الديموقراطية أصبح <<ورقة>> في يد الإدارة الأميركية تلوح بها وتضغط بين الحين والآخر. ولئن لعب الهوى السياسي دوراً في كل ذلك، إلا إنه لا ينفي حقيقة تزايد الاهتمام الدولي بالموضوع، والصعوبات المتزايدة التي أصبحت تعترض طريق الذين يسعون إلى الاستمرار في احتكار السلطة، أو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
لقد أصبح التعديل الدستوري أمراً واقعاً، بعد الإعلان الرسمي عن تأييد الأغلبية له. بالتالي فإنه من الناحية القانونية لم يعد هناك جدوى من المنازعة في شأن المادة المعدلة، رغم أن باب التعامل السياسي معها يظل مفتوحاً، في هذا الصدد، المشهد يثير عندي نقطتين هما:
أن الإعلان عن تعديل المادة 76 من الدستور المصري جاء مفاجئاً، وفي أعقاب توافق التصريحات الرسمية على رفض مبدأ التعديل. ولم تكن المفاجأة هي العنصر الوحيد، وإنما كان ضيق الوقت عنصراً آخر، الأمر الذي لم يوفر فرصة كافية لمناقشة المادة، أو حتى لتفعيلها والتعويل على آثارها في انتخابات الرئاسة التي يفترض أن تتم في شهر سبتمبر القادم. ذلك أن الفترة التي ستتاح للترشيح للرئاسة والتنافس عليها لن تتجاوز ثلاثة أشهر، وهي مهلة غير كافية لخوض معركة من ذلك القبيل، في بلد تعداده 72 مليون نسمة، وفي ظل سيطرة حكومة الحزب الحاكم على أهم المنابر الإعلامية.
النقطة الثانية والاهم هي أن الإعلان عن تعديل الدستور أشار صراحة إلى أن ذلك التعديل هو خطوة على طريق الإصلاح، يفترض أن تتبعها <<خطوات أخرى>>. وعلى أهمية تلك الإشارة إلا أنها لا تخلو من غموض، لان أحداً لم يعرف حتى الآن، ما هي <<الخطوات الأخرى>>، متى ستعلن؟ وما هي أولوياتها؟ وما هي الجهة التي ستحددها؟
إن من شأن الإجابة عن تلك الأسئلة أن تبدد مخاوف الذين أعربوا عن خشيتهم من أن يختزل الإصلاح السياسي في مجرد الإصلاح الدستوري. كما أن إيضاح هذه الأمور مؤد بالضرورة إلى تعزيز ثقة الناس في جدية تقدم وتراتب مسيرة الإصلاح. ناهيك عن أن الإفصاح عنها في وقت مبكر يتيح الفرصة للمجتمع أن يدير الحوار الواجب حولها، بما يحقق المراد منها على أفضل وجه ممكن.
إن السؤال الذي ينبغي أن يطرح في هذا السياق هو: إلى متى يظل المجتمع مؤدياً دور <<حارس المرمى>> الذي يقتصر دوره على تلقي <<الأهداف>>، في حين يظل واقفاً في مكانه لا يتحرك، ولماذا لا يمكن من النزول إلى قلب <<الملعب>>، لكي يصبح شريكاً في توجيه الأهداف؟
وحده الإصلاح السياسي الحقيقي يوفر الإجابة عن السؤال.