فيليب كينيكوت* -
قراءة غربية فى معرض عن اليمن القديم
لاكثر من 1.500 عام، منذ نهاية العصر البرونزي حتى وصول الاسلام في القرن السابع، ازدهرت حضارة التُجار في طرف شبه الجزيرة العربية. وبخلاف العرب في الشمال لم يكونوا متجولين، لكنهم اصبحوا اغنياء بسبب تجارة البخور والصمغ. وقد بنوا المدن الحجرية والمعابد والسدود لحجز مياه الامطار الموسمية حيث كانوا يستخدمونها لجعل الصحراء ارضاً خصبة.
ومن اجل تدوين الاحداث الكبيرة والمراحل الهامة في حياتهم- كتخليد ذكرى مبانيهم واحداث وفاة شخصياتهم البارزة- كتبوا نصوصا بخطوط عمودية ومنحرفة كما هو الخط العربي طولي ومتعرج. ونتيجة للتغييرات التي حصلت في الاقتصاد العالمي والصراع الطائفي واخيرا انتشار الاسلام، ،تلاشى عالمهم.
واليوم يتم عرض ما تبقى من حضارتهم المكتوبة والمنحوتة والمنقوشة في معرض أرثر ساكلمر بعنوان"ممالك القوافل، اليمن وتجارة البخور القديم".
ان اهتمامنا بالماضي العتيق محكوم بسحر علم الآثار. فالمصريون والاغريق والرومان وشعب المايا – يؤثرون بشدة على خيالنا. اما الحضارات الاخرى التي هُجرت فتتحدث عن الصناعة وليس الفن المعماري اوالمقابر وليس الأدب وهي مثل اليتامى الذين يطلبون الاهتمام المُلائم لكنهم لا يتلقونه ابدا. ويقع الشعب الذي اقام فيما يسمى الان باليمن في التصنيف الثاني.
فالثقافة المكتوبة التي اورثوها لنا لا تصل لمستوى الادب، وفيما تركت ثرواتهم تأثيرا قويا على العالم القديم، الا ان تاثيرهم لم يكن بنفس القدر او يستمر كالمصريين والرومان والاغريق. والخيط الملموس الذي يربطنا بتراث جنوب شبه الجزيرة العربية رفيع وانجيلي: فمن بين اكثر ممالكها الصغيرة القوية والمحترمة، مملكة سبأ والتي تُعرف لقُراء الانجيل بـ "شيبا".
ولما قد يكون لاغراض دعائية، يخبرنا مؤلف كتاب العهد القديم عن الملوك بان ملكة سبأ زارت سليمان وحاولت إرباكه بالاسئلة لكنها فشلت وغادرت وهي مبهورة بروعة وفخامة بلاطه. حيث يقول الانجيل:"عندما رات ملكة سبأ كل تلك الحكمة لسليمان والقصر الذي بناه، انبهرت تماما".
ويشكك الباحثون في امر وجود أمراة حاكمة من سبأ ويعتبرون زيارتها بعيدة الاحتمال جدا. (وكتب نيجل قروم في كتالوج المعرض قائلا:"انه لأمر منافٍ للعقل تقريبا"). لكنه يوضح امتداد سمعة سبأ في العالم القديم – ويستخدم (أي الكتاب) تلك السمعة لتعظيم الملك اليهودي.
ويبقى امر الشعب الذي استوطن سبأ والممالك حولها – وغالبا ما كانوا في حرب مع بعضهم واحيانا يتحدون - غامض ومحير على الرغم من الجهود المضنية لرعاة هذا المعرض الجديد. ومنحوتات المرمر المعروضة تٌقَدَم بشكل حديث وليس تقليديا أو طبيعيا وبتواضع غريب. فمن بين افضل التماثيل المحفوظة في واجهات العرض تماثيل صندوقية لشخصيات بشرية بارتفاع قليل ذات سواعد تخرج من الزوايا اليُمنى للجسد.
وبعض التماثيل تحمل ابتسامات خفيفة وهادئة على وجوهها. وامر الابتسامات، عبر قرون طويلة، غامض ومحير. فأغلب ما وصل الينا من الماضي البعيد من خلال ذاكرة المحاربين والكهنة والملكيين كان دائما جادا تقريبا. وليست هذه الشخصيات التي تبدو اكثر ارتياحا واطمئنانا بصمتهم من تماثيل الحضارات الاخرى.
ومن بين الاشياء الاكثر جمالاً منحوتات خاصة بالدفن مع رؤس مرمرية مفصلة موضوعة داخل ركائز جيرية صلبة وبدائية. وكأن الجير عبارة عن كفن موضوع على نحت وجه ناعم تبدو عليه معالم الحياة اكثر.
وتقول آن جينتر، وهي ترعى معرض فن الشرق الادنى القديم في متحف جينتر،"ليس لدي ادنى علم عن شيء مماثل في ثقافات الشرق الادنى القديمة"، وتضيف ان التركيز والاهتمام المنصب على الوجه البشري في تلك التماثيل المركبة بشكل غريب هي معالم مميزة لحضارة جنوب شبه الجزيرة العربية القديمة.
وقد نحت القدماء في جنوب شبه الجزيرة العربية ايضا موائد قرابين تحاكي الفن المعماري لمعابدهم. وهذا تشابه مُفاجئ مع الاساليب المعمارية التي ربما عرفناها من فيينا بداية القرن العشرين، وهي عبارة عن خطوط مستقيمة ومتناسقة تذكرنا باسلوب تصاميم فترة العشرينات او الثلاثينات من القرن الماضي.
وترى جينتر وحدة فنية للمنتوجات المتنوعة للمنطقة و"فكرة مجردة رسمية تجذب الذوق الحديث". وتضيف مُسلِّمةً انه من الصعب القول ان أي ثقافة مختلفة عن ثقافتنا قد تعتبر رموزها مجردة. والسبب في ان التجريد يجذبنا هو اننا نلمس فيه مميزات الابداع والتنفية والذكاء الفكري التي تعتبر إضفائنا الكامل على فنانيين حرفيين عملوا ضمن قيود التقليد والفطرة.
غير ان الحديث لا مفر منه، فخلال تجولك في المعرض تصبح التأثيرات الاغيريقية والرومانية اكثر وضوحا وكأن التماثيل المصندقة التي تحمل وجوهاً واجسادا تنبض بالحياة.
احد اجزاء المعرض الهامة واقعي بشكل رائع، وهو مؤخرة حصان تمت استعارته من دامبراتون اوكس (مدينة قديمة) عندما كان ذلك المتحف تحت التجديد. فـ "التجريد" في الغرف القديمة والفطرية بشكل اصيل يُشعرك وكأنك في زمن اخر.
وفي كلمتين أُلقيتا قبل افتتاح المعرض اكد مدير معرض ساكلير، جوليان رابي ووزير الثقافة والسياحة اليمني على استمرارية الحضارة اليمنية. لكن لا يجب الخلط بين هذه الاستمرارية للحضارة اليمنية بالرابط القوي للحاضر. في الحقيقة ان عالم اليمن القديم منقطع بشكل كبير عن العالم الاسلامي الذي حل محله. فمخطوطاته قد تلاشت ومعابده مدمرة والهته منسية. ومعروضاته لتماثيله البشرية قد تمنع في معظم اجزاء العالم الاسلامي.
ولان الحضارة الاسلامية الاولى كانت وبشكل خاص تعادي الماضي الوثني، يبدو وكأن المجتمعات مثل سبأ تأفل بخفة- ومع ذلك فقد تلقي الاكتشافات والبعثات المستقبلية ضوءا على الأفول السريع الواضح.
ومع ذلك، قال الرويشان, "ان اليمن هي ام الحضارة العربية". ربما. وتقول جينتر ان بعض مظاهر حياة القدماء- قراءتهم وكتابتهم وتقنياتهم المعمارية- استمرار للحضارة العربية الحديثة. لكن الحقيقة الباقية للتاريخ هي قيمته – مثل ملكة سبأ- كدعاية اعلامية للحاضر. فلا شيء يُعرِّف حضارة مثل الظهور الفعلي المقبول في متحف محترم.
ووراء النقاش في ان يمن اليوم الحديث – حليف في الحرب على الارهاب، لكنها ايضا مرتع لمعاداة اميركا- هي استمرار للشعب الذي صنع تلك المنحوتات الرائعة، هناك رغبة عميقة لربط البلد الذي يجده العديد من الاميركيين مخيفا بماضي يمكن التمتع به كعرض مرئي. وتلك هي السياسة. ولحسن الحظ، فهي لا تُقلل من متعة "ممالك القوافل".
صحيفة الواشنطن بوست
ترجمة: خديجة السنيدار