الخليج / فهمي هويدي/ متابعات -
محاولة لفهم مفارقة الساعة
هي مفارقة لا ريب، ومصادفة لا تسر بحال، أن تتجمع السحب القاتمة في الأفق الفلسطيني حتى يتواتر الحديث عن انتفاضة ثالثة، في حين تتقدم العلاقات “الاسرائيلية” مع مصر بشكل مطرد، حتى توقع معها اتفاقية لتصدير الغاز، الأمر الذي يجعل من الدهشة عنواناً للمشهد، ويضعنا بازاء “لغز” يستعصي على الفهم فضلاً عن الحل.
(1)
يوم الأربعاء الماضي (30/6/2005) نشرت الصحف “الإسرائيلية” الرئيسية الثلاث (هآرتس ويديعوت احرونوت ومعاريف) قصة فتى فلسطيني اسمه هلال المجايدة (16 عاماً) اقتحم المستوطنون منزله، واستولوا عليه بعد طرد سكانه منه، ولم يكتفوا بذلك وإنما انهالوا بقضبان حديدية حملوها على الفتى هلال، حتى سقط فاقداً وعيه والدم ينزف منه. وفي حين وقفت عناصر الشرطة والجيش “الإسرائيلي” متفرجة على المنظر، فإن مراسلي الصحف الذين قدموا لمتابعة حدث الاستيلاء على البيت هالهم الأمر، فتدخلوا لإنقاذ الفتى قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وتم نقله بعد ذلك في حالة حرجة إلى مستشفى خان يونس بقطاع غزة.
في اليوم نفسه كان بنيامين بن اليعازر وزير البنية التحتية “الاسرائيلي” يوقع في القاهرة اتفاق تصدير الغاز ل “اسرائيل” (7.1 بليون قدم مكعبة بقيمة تتراوح بين 2 و3 بلايين دولار)، ويصف الاتفاق بأنه “تاريخي”، ودال على عمق وقوة العلاقات بين مصر و”إسرائيل”. وكان حفل التوقيع أحد بنود برنامجه الذي تضمن لقاءات أخرى مهمة مع بعض المسؤولين المصريين.
ربما هان الأمر لو أن ما جرى في خان يونس كان مجرد حادث تعرض له هلال المجايدة، ولكن الحاصل أن عملية الفتك التي طالت الفتى لم تكن سوى تعبير عن حالة الفتك بالشعب الفلسطيني المصلوب، منذ استفرد به “الإسرائيليون” وتخلى عنه الجميع. الادهى من ذلك والأمر أن ذلك الفتك لم يتوقف حتى في ظل الهدنة أو التهدئة التي أعلن عنها رسمياً بين الطرفين الفلسطيني و”الإسرائيلي”.
يذكر الجميع ربما أن ثمة اتفاقاً على التهدئة أعلن في شرم الشيخ (في 8/2/2005)، عقد برعاية مصرية، وحضور أردني، وبمشاركة من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس وزراء “اسرائيل” ارييل شارون. وقد عقد ذلك الاجتماع في أعقاب موافقة فصائل المقاومة الفلسطينية على اقتراح التهدئة في اللقاءات التي عقدت بالقاهرة قبل ذلك التاريخ. وكانت النقاط الأساسية في اتفاق التهدئة تقضي بوقف تبادلي للعمليات العسكرية من الجانبين، والبدء في إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين الذين يتراوح عددهم بين 7 و 9 آلاف أسير. والبدء في الانسحاب “الاسرائيلي” من المدن الرئيسية في الضفة الغربية، تمهيداً للانسحاب الكلي من قطاع غزة.
منذ ذلك الحين التزمت فصائل المقاومة الفلسطينية بالاتفاق، باستثناء عملية واحدة تمت في تل أبيب قامت بها مجموعة من حركة الجهاد، دون علم مسبق من قيادتها. أما “الإسرائيليون” فإنهم واصلوا عملية الفتك بالفلسطينيين.
(2)
في أجواء التهدئة والهدنة التي استسلم لها بعض العرب وراهنوا عليها، اتخذ شارون اكثر من قرار له مغزاه في اتجاه تكريس الفتك بالفلسطينيين. إذ فضلاً عن الممارسات التي أشرنا إليها تواً، فإنه اختار لأهم منصبين أمنيين في الدولة العبرية، اثنين من عتاة مجرمي الحرب واشهر قتلة الفلسطينيين. الأول هو الجنرال دان حلوتس، الذي عينه لهيئة أركان حرب جيش الاحتلال؛ وكان منذ اندلاع انتفاضة الأقصى قائداً لسلاح الجو. وسجل وهو في منصبه ذاك “المناقب” و”الأمجاد” التي امتدحته بسببها النخبة “الإسرائيلية”. ولم تكن تلك الأمجاد سوى إشرافه الشخصي على عمليات تصفية المقاومين، التي تمت 80% منها عن طريق استخدام مروحيات “اباتشي” أمريكية الصنع، ولاحقاً عن طريق الطائرات من دون طيار من طراز “سيتشر”. ولذلك وصف في الأوساط “الاسرائيلية” بأنه “متعهد عمليات التصفية”. وعرف عنه انه كان يتخير لقيادة مروحيات القتل اكثر الطيارين عنصرية وبغضاً للعرب. وقد لجأ إلى ذلك بعدما اخبره الطيارون الذين شاركوا في بدايات عمليات التصفية بأنه لا مناص من إصابة الكثير من المدنيين الفلسطينيين.
الاختيار الثاني لشارون كان من نصيب يوفال ديسكين، الرئيس الجديد لجهاز المخابرات الداخلية (الشاباك). وهو الجهاز الذي يأخذ على عاتقه مهمة مواجهة حركات المقاومة الفلسطينية. ولئن وصف حالوتس بأنه “متعهد” عمليات التصفية، فان ديسكين يوصف على نطاق واسع بأنه “مهندس” تلك العمليات. ذلك انه أخذ على عاتقه تنسيق عمليات التصفية عندما كان نائباً لرئيس الشاباك في الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2003 وهو الذي حول المعلومات الاستخبارية المتوفرة لديه عن المقاومين الفلسطينيين إلى قذائف وصواريخ0 تغتالهم أثناء وجودهم في سياراتهم أو في مكاتبهم ومنازلهم. وقد نجح ديسكين في إقناع الحكومة “الاسرائيلية” برفع مستوى عمليات الاغتيالات لتشمل في البداية القيادات السياسية لحركات المقاومة، وبعد ذلك طالت القيادات والمرجعيات الروحية. كما انه يتباهى بأنه هو الذي اقنع شارون بضرورة تصفية الشيخ احمد ياسين.
(3)
القادم أسوأ مما يتصور كثيرون. إذ الحديث متواتر في “اسرائيل” عن استعدادات يقوم بها الجيش لمواجهة احتمالات الانتفاضة الثالثة خلال شهر سبتمبر/ايلول القادم، بعد اقل من شهر على تنفيذ الانسحاب من غزة، أو خطة “فك الارتباط” كما توصف في الخطاب السياسي “الإسرائيلي”. والتعيينات الجديدة التي مررنا بها تدخل ضمن التحسب لذلك الاحتمال. ولم يعد في ذلك الحديث سر، لأنه خرج إلى العلن، وتجاوز الدائرة العسكرية. فهذا عكيفا الدار كبير المعلقين السياسيين في صحيفة “هآرتس” تحدث في الموضوع صراحة على القناة الثانية للتلفزيون “الاسرائيلي” (في 15/4/2005) قائلاً انه من الطبيعي أن تنفجر انتفاضة ثالثة، ومن يستبعد ذلك أو يستهجنه إنما يحاول ذر الرماد في عيون الجمهور “الإسرائيلي”. فالفلسطينيون لا يمكن أن يستسلموا لما يدبره شارون. وتساءل في هذا الصدد قائلاً: أليس من حق الفلسطينيين أن ينتفضوا ضدنا. وهم اكثر من يدرك أن شارون يريد من خطة فك الارتباط تكريس احتلال الضفة الغربية، وتعزيز المشروع الاستيطاني بشكل غير مسبوق، والتغطية على تواصل بناء الجدار الفاصل الذي من المقرر أن يبلغ خمس وأربعين في المائة من مساحة الضفة الغربية، من دون المساحة المقامة عليها المستوطنات. والاستنتاج نفسه توصل إليه القيادي اليساري يوسي ساريد.
ليس في هذا الكلام مبالغة، لأن “اسرائيل” ترى في فك الارتباط شيئاً غير الذي يحاول البعض ترويجه في بعض العواصم العربية، زاعمين انه إنجاز كبير، وسبيل إلى الاستقرار في المنطقة.
(4)
إذا استحضرنا تلك الخلفية الشائكة، فإن المرء لا يسعه إلا أن يستغرب أجواء التفاؤل غير المبرر التي يشيعها البعض في أجواء العلاقات العربية “الإسرائيلية”، ويقترن الاستغراب بالدهشة حين نجد أن ثمة مراهنة على مسألة الانسحاب من غزة، الذي يصوره البعض وكأنه قفزة نوعية متقدمة على طريق التسوية، تسوغ المزيد من مد الجسور وتبادل الزيارات، وتبرر غض الطرف عما يجري على الأرض.
الخلفية ذاتها تستدعي العديد من التساؤلات حول مدى الملاءمة وطبيعة المصلحة في عقد اتفاقية تصدير الغاز المصري ل”إسرائيل”. وهي تساؤلات أكثرها متعلق بالجانب السياسي الذي أوضحنا ابرز معالمه، وبعضها متعلق بالجوانب الاقتصادية والفنية التي لا يمكن تجاهلها.
ارجح أن يكون الذين ابرموا عقد بيع الغاز لديهم حجج يدافعون بها عن هذه الخطوة، كما إنني أتصور أن موضوع الملاءمة السياسية لم يكن مغفلاً في القرار، ولأن الأمر أثار التباسات عدة، فقد تمنيت أن تكون مناقشته وإحاطة الرأي العام بملابساته وموازناته قد جرت قبل التوقيع وليس بعده. حتى لا يتكرر مع ما جرى في موضوع اتفاق الانضمام إلى الكويز، الذي فوجئ به الجميع ذات صباح، وأثار ما أثاره من بلبلة ولغط لا يزالا مستمرين إلى الآن.
ترى متى يمكن أن يقتنع أهل القرار بأن ثمة رأياً عاماً في البلد من حقه أن يفهم ما يجري من خلال بعض الشفافية، على الأقل لكي يطمئن الناس إلى صواب الخطى التي تتخذ، وتؤثر في المصير في الحاضر والمستقبل؟