نـزار العبـادي -
جدليـة الإعــلام والسلطــة
ينظر البعض إلى الإعلام على أنه صناعة سلطوية محكومة بأيدلوجية النظام السياسي، ومقتضيات دوائر حكمه واتجاهات عملها.. في نفس الوقت الذي ينتقد فريق آخر تلك الرؤية بشدة، ويذهب إلى تأكيد أن الوظيفة الإعلامية متعددة الوجوه، ولا تتماهى خارج الصبغة السياسية، وإن الإبداع الإنساني غير متناه عند حدود ما يتوقف عنده سلطان مؤسسة الحكم، وبالتالي فإن الوعي الإعلامي قد يكون باعثا رئيسا لبلورة أيديولوجية السلطة وتشكيل الأبعاد الأساسية لنظام حكمها.
لكن الفلسفة المعاصرة التي رافقت تنامي الديمقراطيات، والحريات، والمجتمع المدني انقلبت على كلا الفريقين السابقين، ونبذت معايير ( الحاكم والمحكوم) لتستبدلها برؤية تقول: أن الإعلام مؤسسة شريكة للسلطة في قيادة الدولة.
ويدعو هذا الفريق إلى تشاطر مسئوليات التنمية الوطنية، بتداول الأدوار التقويمية لاتجاهات الخيارات الحكومية، لدرجة أنهم يرهنون الكثير من الخطط والبرامج الوطنية بمستوى أداء وتفاعل مؤسسات الإعلام، وهو أمر بدا مرتبطا بالمفاهيم السياسية المعاصرة التي تطورت إليها الدلالة التعريفية للدولة.
وطبقا لما هو كائن اليوم تسعى السلطة في اليمن للأخذ بمنطق بناء شراكة وطنية مع مؤسسات الرأي، وتتطلع - بحسب تصريحات عديدة للرئيس علي عبدالله صالح شخصيا - إلى إلقاء مسئوليات مختلفة على كاهل هذه المؤسسات، مثل إزالة مخلفات العهود السابقة، ونشر الوعي الإنساني، ودعم التنمية الثقافية، والتربوية، والسياحية، والديمقراطية، وغيرها من ضرورات التحول الحداثي للدولة اليمنية.
ومع أن الحاجات الوطنية تتعاظم في ظل أتساع مساحة الأدوار المناط باليمن لعبها، يأتي السؤال: إلى أي مدى ترحب وسائل الإعلام اليمنية بفلسفة تقاسم المسئوليات مع السلطة ؟ وهل ينعكس الجدل في هذا على واقع الحياة اليومية!؟
لاشك أن الحقيقة القائمة – رغم كل ما يثار عنها من انتقادات – تؤكد تنامي الوعي الديمقراطي بمسئوليات التنمية الوطنية لدى كل من المؤسسات الإعلامية والسلطة ، باعتبار أن ارتفاع حدة النقد الإعلامي لبعض أنماطه المهنية هو بحد ذاته يمثل استشعارا متنامياً بالأدوار التي ينبغي لعبها من قبل الإعلام، وبالمخاطر المترتبة عن جنوح الإعلام إلى غير ما هو مرسوم له، ولعل من أكبر الأخطاء أن يتم تفسير الجدل القائم حول أخلاقيات الحريات الصحافية بأنه محض انتكاسة في مسيرة الأعلام اليمني، بقدر ما يجب فهمها كفاصل تقويمي، أو ( مراجعة) غالبا ما تسبق عمليات التحول في مختلف التجارب الحياتية.
وبطبيعة الحال أن كثيرا من الجدل حول ما آلت إليه الحالة الإعلامية من بعض المفترقات المسلكية مع السلطة، والشد الناجم عن ذلك ما كان ليحدث إطلاقا لولا أن بعض الوسائل الإعلامية- وأحيانا بعض الأفراد فيها- قيدت نفسها بعجلة إرهاصات العمل السياسي ( الحزبي) وأذابت وظائفها المتعددة في أنموذج تنظيمي بحت، يقصيها عن مسئولياتها الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية وغيرها.
أي ان بعض وسائل الإعلام تحولت إلى مجرد وسيط لنقل بيانات الحزب، وصراعاته الحزبية المحدودة الأفق وبالتالي نجد أن هامش اختلال بموازين التجاذب فرض حساباته على معادلة الشراكة المفترضة بين هذه الوسائل وبين السلطة.
إن إحدى إشكاليات الجدل فيما هو كائن التباس المصطلح اللغوي لمفردة ( السلطة) عند بعض أجهزة الإعلام ممن نجدها تحصر المعنى بشخص رئيس الدولة، أو رئيس الحكومة، فتكرس جهدها بذلك الاتجاه من غير الالتفات إلى كون ذلك يصح على الأنظمة الديكتاتورية ولا يصح في الأنظمة الديمقراطية ذات السلطات الثلاث (تشريعه، تنفيذية وقضائية).. وبالتالي فإنه عندما توصف الصحافة بأنها (السلطة الرابعة) فإن ذلك الوصف ينيط بها المسئولية الرقابية التقويمية لأداء السلطات الثلاث.. ومن هنا تستمد قوة شراكتها في العمل الوطني كلاعب أساسي في توجيه القرار السياسي للدولة. ولعل إغفالها تلك الحقيقة- أو بعضها- قد يخل في توازنات الحراك السياسي والتنموي للبلاد.
ولاشك أن الحالة الطبيعية لعلاقة الإعلام بالسلطة لا يمكن أن تتحقق في ظل التسابق على (من يحكم من؟) لأن منطق كهذا يضع الطرفين في حلبة (صراع الأنداد)، في الوقت الذي يدرك الجميع تماماً أن الخيارات الديمقراطية ليست إلا وسائل توطيد شراكة سلطوية- جماهيرية من أجل مصالح وطنية تسمو باعتباراتها الإنسانية على أي شيء آخر .
[email protected]