الخليج/ فيصل جلول /متابعات - لحظة تاريخية هزلية على ضفتي المتوسط هل لعب الاستعمار دورا ايجابيا في العالم؟ نعم.. يقول الفرنسيون فيما يعنيهم ويؤكدون القول في جمعيتهم الوطنية وليس في خبر صحافي. فقد أقر البرلمان الفرنسي في 23 فبراير/شباط الماضي قانونا ينص على أن الكولونيالية لعبت دورا ايجابيا في مستعمرات فرنسا السابقة وخاصة في شمال افريقيا التي تضم دول المغرب العربي الكبير الخمس.
أربع من الدول الخمس لم تتظاهر بموقف مناهض للقانون أو لم تعبأ به مفضلة التزام الصمت على خوض غمار سجال تاريخي يبدو أنه لا يحتل أولوية في همومها المحصورة بقضايا داخلية ضاغطة.
بيد أن السلطات الجزائرية يصعب عليها أن تبتلع بسهولة هذا الوصف الذي يهين أكثر من مليون شهيد جزائري سقطوا في معركة الاستقلال عن فرنسا، لذا قالت الجزائر ومازالت تقول: لا. الاستعمار لم يلعب دورا إيجابيا في بلدنا والقانون الفرنسي المذكور يعبر عن “عمى ذهني” على حد تعبير الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي ذكّر الفرنسيين في خطاب ألقي بالنيابة عنه في مايو/ايار الماضي في ذكرى مجزرة مدينة سطيف في العام 1945 بحرق وخنق الجزائريين في كهوف جبلية سماها “أفران العار” وشبهها بالمحرقة النازية. وعاد الرئيس الجزائري ليؤكد على أقواله أواخر يونيو/حزيران الماضي، معتبرا أن القانون الفرنسي، يشبه الطروحات التحريفية التي تنكر جرائم النازية في الحرب العالمية الثانية ضد اليهود، ووصف الكولونيالية الفرنسية بأنها كانت في الجزائر مؤسسة همجية لا تمدينية وأنها واحدة من أكبر الجرائم ضد الإنسانية.
والجدير ذكره أن باريس لم تعتذر أبداً عن استعمارها للجزائر ولم تحاكم أياً من عسكرييها الذين ارتكبوا جرائم حرب في هذا البلد، مستندة إلى اتفاقيات إيفيان التي تنص على أنه لا يحق للجزائريين مقاضاة فرنسا في المستقبل عن الماضي الاستعماري، وهي أصدرت عفوا عاما عن كل الجرائم التي ارتكبت في هذا البلد، واعتبرت أن صفحة تلك الفترة قد طويت وبالتالي لا شيء يبرر الاعتذار عنها، الأمر الذي كان وما زال يستفز الجزائريين، فما بالك بإصدار قانون يتحدث عن الدور الايجابي الفرنسي خلال مرحلة الاستعمار الاستيطاني التي امتدت في الجزائر إلى أكثر من 130 عاما.
ما من شك في أن الرئيس بوتفليقة محق في التعبير عن استيائه المتأخر من القانون الفرنسي، خصوصا أنه أثار الذهول عند صدوره في باريس نفسها، فهو لا يتناسب مع الحملة التي شنتها ضد حرب العراق ومحاولة استعماره من طرف الولايات المتحدة، ومع النقد القاسي الذي وجهته وسائل الإعلام الفرنسية في العامين 2001 و2002 ضد الجرائم التي ارتكبت في الجزائر. إلا أن الذهول سرعان ما يتراجع عندما نعود إلى وقائع قاهرة لا يمكن نكرانها ومن بينها أن شبان الاستقلال الجزائريين تجمعوا بعشرات الآلاف لدى زيارة جاك شيراك أحد مقاتلي حرب الجزائر وأول رئيس فرنسي يزور بلادهم مطالبين بإنقاذهم من البطالة وبتسهيل دخولهم للعمل في فرنسا. ويتراجع الذهول عندما نسمع في الجزائر نفسها من يقارن بين مجازر الإسلاميين ومجازر الفرنسيين خالطا ما لا يجوز خلطه بين المحلي والأجنبي في أية دولة تحترم نفسها. ويتراجع الذهول أيضا وأيضا عندما نسمع أصواتا تعتبر أن الثورة الجزائرية انتهت إلى الفشل ضاربين بذلك الأساس الشرعي للدولة الجزائرية بوصفها أثرا بارزا للجبهة نفسها.
من جهة ثانية يبدو أن استياء بوتفليقة لا يتناسب مع قرار اتخذته حكومته ويقضي بالسماح ل”الأقدام السود” الفرنسية بالعودة إلى الجزائر والاستثمار فيها وقد تدفق عشرات الألوف منهم بعد القرار ناهيك عن أن الرئيس الجزائري يسعى حثيثا إلى توقيع اتفاق صداقة وتعاون تاريخي مع فرنسا أواخر العام الجاري أي مع الدولة التي يتهمها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في بلاده والتي لم تعتذر عنها وتشرع في برلمانها تلك الجرائم بوصفها عملا كولونياليا ايجابيا!
أكبر الظن أن البرلمان الفرنسي ما كان بوسعه أن يقر قانون فبراير/ شباط قبل عقدين من الزمن، وإذ تقره باريس اليوم فهي تعرف أن الجزائريين والمغاربة عموما قد صرفوا ثلاثين عاما في صراع على رمال الصحراء الغربية استنزف الجزء الأكبر من ثروتهم وتعرف أن الجزائريين دمروا مجتمعهم في حرب أهلية خرجت من صناديق الاقتراع وتعرف أن عمق المغاربة في المشرق العربي يسوده خراب هائل ويخضع لاحتلال أمريكي وغطرسة صهيونية معطوفة على صراعات أهلية في أكثر من بلد وتعرف أن الدول العربية مستقلة بالاسم فقط على ما أكد الرئيس الجزائري الأسبق احمد بن بيلا في حوار تلفزيوني. وتعرف أيضا وأيضا أن عرب شمال إفريقيا يضمرون الحقد بعضهم لبعض أكثر بما لا يقاس من حقدهم على الاستعمار القديم والجديد وأخيرا تعرف فرنسا أن التاريخ حمال أوجه وأن الاستعمار الذي كان يعتبر في حالة المد العروبي جريمة ضد الإنسانية يمكن أن يعتبر في حالة الانهيار العربي الراهنة آية في التحضر والبناء الايجابي.
في كتابه الشهير 18 برومير يعلق كارل ماركس على انقلاب لويس بونابرت في فرنسا ويحلل صراعاتها الأهلية مستشهدا برأي هيغل الذي يعتبر أن التاريخ يتكرر مرتين على الأقل فيؤكد ماركس أن ذلك حدث بالفعل في فرنسا فكانت المرة الأولى مأساوية مع نابليون الأول وهزلية مع حفيده نابليون الثالث الذي زار الجزائر المحتلة حينها وتحدث ملياً عن الدور الفرنسي الحضاري فيها.
أن يعود الفرنسيون إلى الدور الحضاري لبلادهم في الجزائر وشمال إفريقيا خلال المرحلة الكولونيالية أمر هزلي بالفعل، ذلك بأن الشهود على مأساة الجزائر ما زالوا أحياء، لكن الهزل ليس قاصرا على الفرنسيين وحدهم فالرئيس بوتفليقة العروبي لا يرى غضاضة في أن تحتل مواطنته آسيا جبار الأديبة الفرنكوفونية مقعدا في الأكاديمية الفرنسية ويستدرج المستوطنين السابقين للاستثمار في بلاده ويعمل جاهدا لتوقيع اتفاقية صداقة وتعاون يصادق عليها البرلمان الفرنسي نفسه الذي اقر قانون فبراير/شباط المذكور.. حقا التاريخ يعيش هذه الأيام لحظة هزلية للغاية على ضفتي المتوسط.
|