الخليج /عبدالإله بلقزيز /متابعات -
مفاوضات بين الاحتلال والمقاومة في العراق
وأخيراً يتفاوض الأمريكيون مع المقاومة الوطنية العراقية ويعترف أركان البنتاجون بذلك رسمياً، ثمة قاعدة في السياسة والحرب هي أن المعتدي المحتل مثلاً يضطر في لحظة من أزمة القوة إلى التفاوض مع عدُوّه بعد طول إنكار له أو لشرعية وجوده، ويكون ذلك الاضطرار اعترافاً منه بالعجز عن بلوغ الأهداف التي رماها من وراء عدوانه، أو عن كف قدرة عدوه على الدفاع الذاتي أو كسر إرادته في مقاومة ذلك العدوان. وذلك بالضبط ما حصل للاحتلال الأمريكي في العراق.
من النافل القول إن الطرفين الاحتلال والمقاومة يتفاوضان انطلاقاً من جدولي أعمال مختلفين وفي أفق تحصيل أهداف بالغة التباين والتعارض: يسعى الاحتلال، من وراء الحوار، في تحييد سلاح المقاومة من خلال رشوتها بحصّة ما في “العملية السياسية” من أجل تأمين اقامة مريحة لقواته المحتلة في البلد. وتسعى المقاومة، من وراء ذلك، إلى تكريس نفسها مخاطباً رئيسياً في بحث مستقبل العراق، أما الهدف فهو زوال ذلك الاحتلال لاسترجاع السيادة والاستقلال. يعرف كل فريق أهداف الآخر من الحوار والتفاوض؛ لكنه يذهب فيه أملاً في فرض جدول أعماله عند نقطة ما من الحديث. ليست معركة التفاوض معركة حُجة وجدل إقناع، بل معركة قوة، أو قل معركة تقرّر وقائعها وموازين القوى التفاوضية فيها في مسرح الاشتباكات اليومية في المدن العراقية ومواقع انتشار مراكز الاحتلال وجنوده. ولأنها كذلك، تتفاوض المقاومة والاحتلال ويتقاتلان في الوقت نفسه.
لندع جانباً تعارض “الأجندات” السياسية بين الفريقين، ولنتأمل في دلالة إقدام الادارة الأمريكية على فتح مفاوضات مع المقاومة الوطنية العراقية. لا تستبين تلك الدلالة ولا أهميتها إلا حين نستعيد الموقف الأمريكي التقليدي من المقاومة في العراق منذ وقع فِعل الاحتلال عليه قبل عامين ويزيد، فهي كانت، في عرفه، تمرداً وإرهاباً لا هدف لها سوى وأد “العراق الديمقراطي الجديد” أو تخريب بنائه السياسي. وكثيراً ما سعت إدارات الاحتلال المتعاقبة في عهود غارنر وبريمر ونيجروبونتي في اسقاط الهوية الوطنية عن المقاومة وإلباسها ثوباً طائفياً، من خلال التشديد على مقولة “المثلث السني” أو في إسقاط انتمائها العراقي أصلاً بتسليط الضوء الاعلامي على جماعة أبي مصعب الزرقاوي (الأردني) والمقاتلين العرب، وعلى تدفق الرجال من خارج العراق عبر الحدود السورية، للقول أن لا مقاومة في العراق يبديها عراقيون في وجه الاحتلال، وأنهم جميعهم أي العراقيون لا يرون في الوجود العسكري الأمريكي احتلالاً، بل إنقاذ لهم من نظام سابق وإرهاب صاعد.
طوى الأمريكيون، اليوم، ذلك كله وبدأوا يتحدثون بمفردات التمييز بين مقاومة عراقية وبين إرهاب أجنبي يمارس في العراق: ضد المدنيين وضد “القوات متعددة الجنسيات” (أي الاحتلال). هذا مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق مثلاً يصر على بناء الفارق بين ما سمّاه حرفاً المقاومة الوطنية التحريرية وبين ما نعته باسم “المقاومة الجهادية” (غير العراقية)، معترفاً بأن الحوار يجري مع الأولى (العراقية). أما آخرون من العراق خاصة فيؤكدون ان الحوار الأمريكي مع المقاومة استثنى الفصائل الاسلامية العراقية منها (“أنصار السنة”، “الجيش الاسلامي”، “كتائب ثورة العشرين”..) مركزاً على الفصائل المنتمية إلى التيار القومي ومن ضمنها المجموعات التي يقودها ضباط من الحرس الجمهوري، ومن الاستخبارات التي كانت تعمل في ظل نظام الرئيس صدام حسين.
لا ينبغي أن يستوقفنا كثيراً هذا التمييز بين المقاومة الوطنية و”المقاومة الجهادية ولا أن تستدرجنا ايحاءاته إلى ابتلاع نتائج أمريكية يرتبها ذلك التمييز وتلك الايحاءات. فالجميع يدرك أن الضرر يلحق الأمريكيين في العراق من المقاومة الوطنية تحديداً، لا من “المقاومة الجهادية”، لأن الأولى تسدد ضرباتها للاحتلال وأدواته في المقام الأول، وليست معنية بحروب أخرى جانبية يسقط فيها مدنيون عراقيون أبرياء برصاص الجماعات “الجهادية” تماماً كما يسقطون برصاص الاحتلال! وحين يفاوض الاحتلال هذه المقاومة الوطنية، فليس لأنها نظيفة وبريئة من دماء المدنيين الأبرياء وهي كذلك فعلاً ولا لأن أمريكا ترفض التفاوض مع من يُسفِك دماء هؤلاء الأبرياء وهو غير صحيح تماماً وإنما لأن جنوده يسقطون قتلى وجرحى برصاص المقاومة الوطنية. إن شئنا إعادة المفردات الأمريكية إلى مواضعها الحق، بعيداً عن لعبة الاستعارات الزائفة، نقول: ليست الجماعات الإرهابية في عُرف أمريكا هي تلك التي تُهْرق دماء المدنيين الأبرياء في الأحياء والشوارع والأسواق (أي الجماعات “الجهادية”) فهذه تُسدي أجزل الخدمات للاحتلال وروايته عن “رسالته” “الديمقراطية” في العراق وإنما (الجماعات “الإرهابية” عنده) هي مجموعات المقاومة الوطنية التي تصيب جنده بين رَدِيّ ومكلوم. ولذلك، فهو يفاوضها.
الذي يستحق فقط أن يستوقفنا أن الاحتلال سلّم بمأزقه الحاد في العراق، وأجبرته المقاومة التي أرهقته على الاعتراف بها وبدء التفاوض معها. أكثر من اعتراف بذلك المأزق سبق قرار فتح الحوار مع المقاومة، ورافقه، وكان يطل محتشماً، أما اليوم، فبات صريحاً جهيراً، وآخر جَهْرِه بنفسه (كان) في جلسة المساءلة في الكونجرس للقيادة العسكرية الأمريكية، وورد خاصة على لسان الجنرال جون أبي زيد، الذي جَب مكابرات ديك تشيني حين اعترف بأن جميع المعارك التي خيضت ضد المقاومة منذ ستة أشهر لم تؤثر فيها بمقدار، بل تعاظمت قوتها أكثر، وارتفعت نوعية عملياتها فضلاً عن نسبتها العددية وتضخّم جمهور الملتحقين بها من المقاتلين.. الخ، وما لبِثَ رامسفيلد وزير الدفاع أن افصح عن اعتراف شبيه: تستطيع المقاومة أن تقاتل لفترة اثنتي عشرة سنة قادمة.
لسنا مستبشرين بالمفاوضات: قد تكون مصيدة للمقاومة. لكن مجرّد حصولها حدث جسيم في مغامرة الاحتلال الأمريكي للعراق.