الحياة/ عبدالوهاب بدرخان /متابعات -
ارهابيون «بريطانيون»
الصدمة الثانية للبريطانيين تمثلت في ان الانتحاريين الأربعة بريطانيون، لكنهم يختلفون عنهم بكونهم مسلمين. شبان يافعون، أبناء عائلات وليسوا تربية شوارع، كانوا يعيشون حياة عادية ظاهرياً حتى صباح الخميس 7/7 عندما ركبوا القطار من ويست يوركشاير الى لندن ليزرعوا فيها الموت ويضعوا حداً لحياتهم وحياة أكثر من خمسين انساناً آخرين من كل الانحاء والأعراق والأعمار. أربعة شبان لم تكن لديهم مشاكل استثنائية يمكن ان تدفعهم الى يأس مشترك، وبالتالي الى انتحار جماعي، بل يفترض ان نشأتهم لم ترشدهم الى «بطولة» ما في ما أقدموا عليه، وانما كانت لتعزز لديهم اقتناعات العمل السلمي لخدمة «قضية» مفترضة آمنوا بها.
لا يمكن لأي جهاز أمني، خصوصاً في بلد طبيعي، ان يتقبل ظاهرة هؤلاء الشبان على أنها معزولة وهامشية، أو أنهم لا ينتمون الى تنظيم. لذلك طرحت أمس كل الأسئلة عمن دبر المؤامرة، واي علاقة للمنفذين بـ «القاعدة» أو تنظيمات إرهابية أخرى، ومن أين حصلوا على القنابل، وكيف استطاعوا ان يحافظوا على السر الى حد أنهم لم يثيروا شكوك عائلاتهم أو جيرانهم أو أي «مسلمين آخرين»؟ حتى الاعلام البريطاني الرزين الذي ضبط أعصابه في الايام الأخيرة، انتقل أمس الى لهجة متشددة ومباشرة: المشكلة في الجالية المسلمة.
لذلك وجدت هذه الجالية نفسها متهمة وملامة، تحت الأنظار والضغوط، فالانتحاريون الاربعة جعلوا كل مسلم مشتبهاً به، مثلما اضطروا الناس في القطارات والباصات لأن ينشغلوا في مراقبة بعضهم بعضاً. وكان لا بد والحال هذه ان يعترف بعض رموز الجالية ومنهم منتخبون الى مجلس العموم أو الى مجالس محلية، بأنه بات مطلوباً النظر داخل هذه الجالية و «لعلنا لم نتعامل مع ظاهرة التطرف بما يكفي من اهتمام»، على حد تعبير شهيد مالك، وهو نائب من حزب العمال الحاكم. لكن يجب العمل بسرعة وفاعلية لأن الوقت قد فات في اي حال.
لماذا فات الوقت؟ لأن الجهد الذي بذل في السنوات الماضية كان يجب ان يكفل عدم حصول تفجيرات 7/7، ولأنه بعد حصولها ستتغير الظروف بل لعلها فسدت. فالسلطات ستعوّل على أقطاب الجالية ورموزها لكنها لن تنتظر ولن تواكب وتيرة عملهم. وإذا كان وزير الداخلية يصدر التحذير تلو التحذير من امكان تكرار الضربات، فلأنه لا يملك ما يؤكد له العكس، خصوصاً ان الاجهزة كانت متيقنة بأنه إذا وقع عمل ارهابي فلا بد ان يأتي المنفذون من الخارج، اما ان يكونوا من الداخل فهذا يعني ان البيئة التي جاء منها الانتحاريون متهمة. ولو اقتصر الأمر على السلطة لبقي ضمن اطار القوانين، إلا ان اتهام الجالية المسلمة يشكل فرصة انتظرها اليمينيون العنصريون لينتزعوا «مشروعية» للاعتداءات التي بدأوا شنها في العديد من المناطق. ولم يتأخر بعض الاعلام البريطاني في تقديم بعض التفاهات على انها حقائق ووقائع، مساهماً في النفخ في نار الاحقاد والغرائز.
مع الاعلان عن هوية الانتحاريين، انقلب المناخ الاعلامي، ولعل انقلابه لا يزال في بدايته. فهو سيتجه الى القتلة، والى «البيئة» التي جاؤوا منها، لكنه سيقدم في الوقت نفسه على مراجعة لكل المفاهيم التي دافع عنها وافتخر بأن لندن تجسدها. هناك صحيفة هي «ذي دايلي ميل» دعت امس الى كمّ «صوت التعددية الثقافية الشيطاني». أما «ذي تايمز» فقالت ان مسلمي بريطانيا مطالبون بـ «استئصال» التطرف من جذوره، وهي دعوة لا ترفضها الهيئات المسلمة لكنها لا تعرف على الارجح «كيف» يمكنها ان تقوم بهذا الاستئصال. إذ يمكن قول أي شيء سوى ان الجالية مؤطرة ومنظمة، ثم انها منتشرة، فضلاً عن انها متنوعة وليست من لون واحد، كما ان انقساماتها جغرافية وسياسية وعرقية وثقافية.
من هنا فإن الحديث عن «جالية» يتعلق بشيء وهمي الى حد ما، وإذا حصر الاهتمام بالأوساط الاسلامية المشغولة بالتدين، فإن السلطات الأمنية كانت تعرف كل شيء عن أماكن الاجتماعات والمساجد وقاعات الصلاة، ومع ان الانتحاريين الاربعة كانوا يترددون الى تلك الأماكن إلا انه لم يمكن توثيقهم. بات من الضروري الاعتقاد الآن انهم «قاعديون» من نوع جديد، وان «القاعدة» (او ما يساويها) وجدت صيغة للعمل والتحرك خارج الأطر الموجودة تحت الرقابة.
عندما يتحدث رئيس الوزراء البريطاني عن «اجراءات اكثر تشدداً ضد الاشخاص الذين يحرضون على الارهاب أو يقفون وراء أعمال ارهابية»، وعن «تشديد اجراءات دخول الاشخاص الى بريطانيا» فلا يمكن أحداً ان يلومه، بل على العكس يفترض تشجيعه وحضه على الاسراع. فالجالية المسلمة في بريطانيا تتمنى ان يبقى الأمر في كنف الدولة والقوانين، لئلا تضطر ايضاً الى مواجهة اعتداءات المتطرفين البريطانيين. ويفترض التفكير في تصنيف هذه الاعتداءات بأنها «ارهابية»، والتعامل معها قانونياً على هذا الاساس، لأنها ستساهم بالتأكيد في صنع ارهابيين جدد إذا لم تخضع للروادع. في المقابل لم تعد أمام الجالية المسلمة خيارات التفرج على ظاهرة الارهاب او التبرؤ منها، أصبح عليها ان تفعل روادعها الذاتية لتحمي أرواح ابنائها ومستقبلهم في بلد لا يزال حتى الآن مستعداً لإتاحة الحياة والأمان اللذين لا يتوفران لهم في بلدانهم الأصلية.