الضالع / المؤتمرنت / صالح علي الجبني - رحلة في أعماق التراث الشعبي لمدينة جبن رتبت أوراقي، واسقيت قلمي حبراً، استعداداً لبدء رحلتي التي اشتقت إليها طويلاً، وأحببتها كثيراً، استفدت منها بشكل كبير، انتقلت عبرها إلى أماكن جميلة متفرقة، والتقيت خلالها وجوها باسمة متعددة خلال رحلتي هذه التي بدأتها من مدينة جبن- مدينة الملوك – لا أخفي أنني استمتعت بالغوص في بحر تراثها الشعبي ولم أجد له شاطئاً، ومرحت في واحة شعرها الأدبي، وتذوقت حلاوة قصائدها الجميلة، وشربت من ماء عاداتها وتقاليدها العذبة، واستقرأت فيها حقيقة مرحلة تاريخية هامة من مراحل التراث الشعبي لمديرية جبن العريقة.
في رحلتنا هذه لم نكشف كل محتويات ومكنون التراث الشعبي لمديرية جبن بجوانبه المتعددة، وأشكاله المتنوعة، ومفرداته المختلفة، وإنما توقفنا على جانب واحد (القصيدة الشعبية) والشعر المليء بالحكايات الحقيقية الصحيحة، والزاخر بقصص شعراءها الواقعية المثيرة.
بدأنا محطتنا الأولى في هذه الرحلة مع الفنان/ فضل اللحجي- في مغناته لقصيدة الشاعر المرحوم الشيخ/ أبو بكر ناصر عبدالرب ويس الذرحاني- المولود في مدينة جبن حوالي القرن التاسع عشر للميلاد تقريبا والمتوفى بها أيضا، والتي تقول بدايتها:
يا الله يا من على العرش اعتليت * يا عالماً كل ما عبدك نوى
هذه القصيدة رددها وتغنى بها كثير من الفنانين والشعراء اليمنيين وغيرهم من دول الخليج العربي حتى أصبحت جزءاً من التراث الشعبي اليمني نظرا لجمال أبياتها وروعة كلماتها واصالة لحنها- كان الفنان المرحوم/ فضل اللحجي- هو أول من غناها بعد أن أعطاه إياها ـ الشيخ ناجي الهاجري- أحد أحفاد لشاعر المرحوم- في فترة الخمسينات من القرن الماضي تقريبا- وانتشرت بشكل كبير وسريع ولكن اسم شاعرها لم يكن مقترناً بالقصيدة بسبب النمط الذي اتبعه الفنانون في تلك الفترة- حيث أنه ليس من الضروري أن يسجل اسم الشاعر أو المؤلف أو حتى ذكر مكانه أو بلده- وهذا من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى إهمال اسم الشاعر لتلك القصيدة المغناة- بالإضافة إلى عدم البحث من قبل الغنائين الذي تغنوا بهذه القصيدة لمعرفة مؤلفها أو كاتب كلماتها وإنما التفوا بأنها مسجلة ضمن التراث الشعبي اليمني ولهذا عند مراجعتنا القصيدة أنها ليست كاملة وشاملة لجميع الأبيات والكلمات كما صاغها وكتبها الشاعر المرحوم/ أبو بكر ناصر – وينقصها كثير من الأبيات كما سنوضح لاحقاً.
قصيدتنا هذه (الذئب) لها حكاية ظريفة وقصة رومانسية جميلة، خاضها الشاعر وعاش أحداثها وترجم قصته في تلك القصيدة الجميلة ذات الأبيات والمعاني الرائعة، والكلمات والتشبيهات الأدبية المستوحاة من اللغة العربية، يتجلى ذلك عندما يقول:-
مغلوب ياذيب لو تدري بكيت * عندك دواء لي وعندي لك دواء
لا فذت الشمس ياذيب انطويت* إذا كنت جاوع فما لك من قوى
أما بالنسبة لحكاية هذه القصيدة فإن الشيخ ناجي الهاجري- يرويها لنا كما عرفها من أجداده فيقول: كان الشيخ أبو بكر ناصر أحد المشائخ القبليين في جبن يتمتع بشخصية قوية، واتزان ملحوظ واطلاع واسع أكسبه حكمة في الرأي، وتميزاً بأشعاره وقصائده- وشاءت الأقدار أن يتعرف على فتاة من مدينته – جبن- أحبها بشغف وأحبته بجنون، ولكنها ليست من قبيلته، فطلبها للزواج غير أن طلبه رفض من أهل الفتاة ليس لعيب فيه، أو انتقاص من مكانته، أو عدم قبول بشخصه، وإنما بسبب أنه متزوج بأخرى ولديه منها أبناء، ولا يرغبون أن يكون لابنتهم طبينة (ضرة)، في الوقت الذي ظهر إصرار الفتاة على زواجها منه، حتى انتشر وذاع خبر هذا الحب- يقابله إصرار أهل الفتاة بعدم تزويجهما- مما أدى إلى الإسراع في تزويج الفتاة من أحد أقاربها منعاً للقيل والقال، والحد من انتشار الخبر أكثر وأكثر. ويضيف الهاجري- أن هذا الزواج لم يدم طويلاً ولم يستمر كثيرا وسرعان ما انتهت هذه الزيجة خلال أيام قليلة لم تتعد الأسبوع.
لنعد تلك هي حكاية القصيدة، وقصتها الحقيقية مأخوذة من الواقع، ولكن بشكل مختصر وسريع ونخوض في قراءتها والاستمتاع بكلماتها وأبياتها لإظهار بعض معانيها الجميلة المعبرة.
كما هو معروف أن أغلب شعراء مديرية جبن قد اتبعوا نمطا يكاد يكون موحدا حيث تكون قصائدهم وشعرهم وأشعارهم دائمة مقسمة ومرتبة تحتوي على المقدمة المرتبطة بالله سبحانه وتعالى والموضوع أو الحدث والنهاية وغالباً ما تبدأ القصيدة أو الشعر بذكر صفات الله وقدرته كما في قصيدتنا هذه
يا الله يا من على العرش اعتليت * يا عالماً كل ما عبدك نوى
خالق ومن بعدما تخلق كفيت * مسلم وكافر ورازقهم سوى
بعد هذين البيتين فإن الشاعر يبدأ في حكايته بذكره الوقت وعيب الزمان وتقلباته فيقول:
قال ابن ناصر في أبياتي حكيت * الدهر غلاب ماهو شي سوى
يا ذيب ياذي من الداير عويت * أيش اخرجك وانت من خلق اللوى
قد كنت ياذيب تفعل ما اشتهيت * واليوم أنا وانت في المحوى سوى
ونلاحظ هنا أن اللغة العامية أو اللهجة الدارجة تتخلل بعض كلمات وأبيات القصيدة ومحاولة مزجها باللغة العربية، وهذا يعطيها نكهة مختلفة عن بقية أنواع الشعر الشعبي، ووقعها عند النطق بها جميل وخصوصا عندما يكون لحنها شجياً ليستمر الشاعر في سرد حكايته ومعاناته جراء هذا الحب وما آلت إليه أحواله فيقول:
مغلوب ياذيب لو تدري بكيت * عندك دواء لي وعندي لك دواء
لافذت الشمس ياذيب انطويت * إذا كنت جاوع فما لك من قوى
شوقي لبنت السميطي لو غزيت * إذا كنت ياذيب جنبي في الغوى
وما للذكريات من حلاوة حال الرجوع إليها وتذكرها وخصوصاً عندما تكون ذكريات لحب طاهر وشريف ومواقف جمعت ما بين المحبين وعفة كست لقياهم على أمل العيش تحت سقف واحد – غير أن ما صادف هذا الحب من عقبات حالت دون الجمع بين الحبيبين تسبب في هيام الشاعر من خلال قوله:
ياذيب عادك بتذكر أو نسيت * إن كان ذاكر زمن ذاك الهوى
واليوم أنا وانت نفعل ما بقيت * نقضي ونمضي ونفعلها سوى
لو كنت صادق في القول يوم حكيت * ما يرضي القلب والخاطر سوى
لو كنت ياذيب مثلي ما هويت * البيض والسمر ماهن شي سوى
تعبت ياذيب وكم فيها سعيت * لا عدل عندك ولا قسمة سوى
أما نتيجة هذه الحب العذري الذي ملأ قلب الحبيب الشاعر وما آلت إليه أحواله فقد انعكس بطريقة مباشرة، فتغيرت حياته، وتكدرت أيامه، والنار أشعلت قلبه وكيانه.
ولأن ما صنعه الحب وما خلفه من ألم وجرح في فؤاد الحبيب الشاعر كان غافل عنها لا يدري بما يخفيه الزمن في ثناياه من أحزان وفراق للمحبين وعدم تحقق حلمه بالزواج ممن عشقها وأحبته نرى أن الشاعر يترجم هذه الحقيقة ومرارتها بالأبيات:-
من يوم جاء الحب ما ساعة سليت * والحب في قلبي بناره قد كوى
لو كنت عارف أمانه ما جريت * ولا تكدر فؤادي بالنوى
عشقت بيض الغواني لا سقيت * وآثار عشق الغواني به غوى
ضامي مكاني ولا يوم ارتويت * ولا روي يوم ثاني لا ارتوى
ويختتم الشاعر المهيم قصيدته بالصلاة والتسليم على رسولنا الكريم بهذا البيت
واذكر نبيي عدما طافوا ببيت * او كلما الحاج الى مكة نوى
وبهذه الخاتمة فإن رحلتنا الأولى تتوقف،ولكن لا بد من الايضاح بأن القصيدة (الذئب) المغناة من قبل بعض الفنانين ليست كاملة كما أسلفنا ولم تشمل جميع الأبيات ونجد أن عدد أبيات القصيدة كما في أصلها عشرون بيتاً بينما المغنى منها وما نسمعه في أشرطة التسجيل (الكاسيت) لا تتعدى الثمانية الأبيات أضف إلى ذلك أن بعض كلمات القصيدة قد صيغت بطريقة مختلفة (ارتجالية) ليست كما جاءت في القصيدة الصحيحة. |