صنعاء / المؤتمر نت/ هشام سعيد شمسان -
القصة في اليمن :أوليات السرد والحداثة
لم يكن من السهل – وإلى ماقبل سبعين عاماً – القبول بالقصة في اليمن كفن أدبي له مقوماته ، وخصائصه إلى جانب الشعر ، بسبب من النظرة القاصرة أنذاك إلى القص الأدبي ، ومفهومه ؛ إذ لم تكن تزيد عن كونها وضعت لتزجية الفراغ ، والتسلية ، ولم يكن الأمر مقصوراً على القصة داخل اليمن وحدها ، بل إن نظرة الاحتقار هذه شملت الوطن العربي بوجه عام ، فالرافعي– مثلاً – وفي كتاباته كان ممن يعمقون هذه النظرة إلى القصة ، وكذلك العقاد الذي كان يعد القصة في منزلة سفلى من الأدب ( ) ولهذا كان الشعر هو الذي يحتل مكانة عليا في الأدب ، وكان الحكام يعززون مكانة الشعر باعتباره احدى الوسائل التمجيدية لهم ولايمكن للقصة ان تقوم بهذا الدور. وكان هذا هو حال القصة في اليمن –كذلك – وقدكانت أولى القصص البشارية التي بدأت تتمرد على تلك النظرة القاصرة تلك التي نشرت لأول مرة عام 1938م ، وبالرغم من أن هذه القصة خضعت للمفهوم الكلاسيكي القديم للقص لاعتمادها على أسلوب الوعظ الديني ، إلا أن النقاد في اليمن يتفقون على أن نحو هذه القصة التي نشرت حينذاك في مجلة " الحكمة " عددها الثاني عشر جسدت بداية النهضة القصصية لمشروع القص المستقبلي ؛ لأنها فتحت الكُوى الموصدة أمام الآخرين لتجسيد أفكارهم القصصية بعد ذلك . وصدق الحدس – حقاً – حيث أرخ لنا العقد الأربعيني، ومابعده أسماءً لازالت صداها ، وأفكارها تحيا بيننا حتى اللحظة. فمن منا لم يسمع أو يقرأ لـ( محمد علي لقمان صاحب أول رواية يمنية هي رواية " سعيد " ومحمد أحمد بركات ، وحامد عبدالله ، وحسين سالم باصديق ، ومحمد سالم باوزير ، ومحمد أنعم غالب … وغيرهم ممن احتضنهم العقد الأربعيني ، ولم يكد ينتصف العقد الخمسيني حتى بدأت أولى المجاميع القصصية تتناسل ، وتبزع لأول مرة في اليمن . فنقرأ : " الرمال الذهبية " لـ ( باوزير ) و " ممنوع الدخول " لـ( علي باذيب ) وغيرها . وبالرغم من أن القصة اليمنية بدأت تقليدية في محاكاتها للنموذج الأوروبي ، وسقطت في بعض مراحلها تحت سيطرة الدعاوي الثورية ، والحماسيات مهملة كثيرا من التقنيات الشكلية ، والمضمونية ، واضحت – بعضها – لاتزيد عن أحداث تقريرية ، إلا أن هذه الفترة من الضعف كانت طبيعية بالنظر إلى البعد الزمني الذي مثل مرحلة مراهقة القصة اليمنية أنذاك ، إذ سرعان ماتخلصت هذه المرحلة من اندفاعها وطيشها ، لتدخل فضاء جديداً ، منح الحساسية الجديدة حقها من تحمل المسئولية ، وكانت مرحلة السبعينات نموذجاً حقيقياً لنضح القصة اليمنية بدخول القص عالماً متحورا لاسيما على مستوى الداخل حيث الأبعاد الفلسفية ، وتحليل النفس البشرية ، واعتماد مرجعية " الرمز " كأحد مقومات القصة الحديثة ، وكان أهم من مثل هذه المرحلة بصدق : محمد أحمد عبد الولي ، ومعه : باوزير ، ومطيع دماج ، وأحمد محفوظ عمر …كما ترسخ القص الروائي في هذه المرحلة ليأخذ مكانه كشكل أدبي له خصوصيته الموضوعية ، وفي مرحلة النضج حاولت القصة اليمنية أن تحتذي النموذج الواقعي ، فاستطاعت أن تمثل هذا البعد : سياسيا ، واجتماعياً ، وفردياً ، وبدت أهم مرجعيات القص تتمثل في هذه المحاور :
أولا : الأسرة كمجموعة جزئية من مجتمع كبير ، باختيار نماذج بعضية تمثل حالات الفقر ثم ماينتج عن هذا الفقر من تشتت ، أو انحراف الأبناء ، والفتيات تحت الحاح الظروف القاسية .
ثانيا : الهجرة الخارجية . ولعل أهم من مثّل هذا البعد بتفاصيله هو " محمد عبد الولي "
ثالثا : الحالة السياسية . التي انعكست على المجتمع ، والأفراد سواء قبل الثورة ، أو بعدها .
رابعا : البؤس الفردي ، حيث كانت كثير من القصص تجسد هذا البعد في نماذج فردية تثير الشفقة ، والحزن ، والعطف.
وتأخذ المرأة قاسما مشتركاً في هذا القصص فهي المحبوبة التي لايمكن الوصول إليها بفعل ظرف (ما) أسري ، أو اجتماعي ، وهي الزوجة التي تعاني بُعد زوجها ، وحرمانها منه ، وهي الأم ، والأخت ، وهي الخارجة عن شرفها بسبب من القهر الاجتماعي ، أو الفقر . وإذا كانت " التقليدية " العامة طابعاً لهذه الكتابات ، إلا أن تحولات تقنية ، وفنية بدأت تأخذ طريقها فيما بعد إلى هذه الكتابات ، وكأنها تبشر بالحداثة الجديدة ، بدخول تقنيات سردية حديثة إليها نحو : الاستفادة من البصريات السينمائية كما في قصة . " طفي لصي " لمحمد عبد الولي ، ومحاولات أخرى لدى كل من : " ميفع عبد الرحمن " و " الجرموزي أحمد غالب " وكذلك تقنية " اللاشعور " حيث تبدو الأحلام ، واللاوعي من مؤسسات القص ، ولعل " محمد صالح حيدرة " أكثرمن مثل هذا الجانب في بعض موضوعاته القصصية الممهدة للجيل الأخير من كتاب القصة ( الجيل الخامس ) ، وأعني بذلك : جيل التسعينات من الشباب . وبتأملنا في كتّاب القصة منذ الأربعينات وحتى منتهى الثمانينات سوف تبهرنا كثرة الأسماء التي تراتبت منذ تلك الفترة ، وحتى العقد الثمانيني ، إذْ نستطيع أن نحصر أكثر من مائة وثمانين قاصاً ، وأكثر من عشرين ممن دلفوا مضمار الرواية فنشرت لهم رواية واحدة على الأقل : مسلسة في صحيفة ، أو مجلة ، أو في كتاب نحو : حسين باصديق ، سعيد عولقي ، رمزية الأرياني ، علي محمد عبده ، عبدالله الطيب ، محمد مثنى ، عبد المجيد القاضي ، عبد الكريم المرتضى ( ) ، ولم تكن المرأة ببعيدة عن اقتحام عالم القص حيث ظهرت أولى القاصات اليمنيات أوائل الستينات . ونستطيع أن نحصر أكثرمن خمس عشرة قاصة حتى عام 89م نحو : شفاء منصر ، شفيقة زوقري ، رمزية الإرياني ، سميرة عزام، زهرة رحمة الله ؛ وغيرهن . ومازال البعض منهن متواصلات حتى الآن نحو زهرة رحمة الله ، التي أصدرت عام 1993م مجموعتها الأولى(بداية أخرى) ، منشورات اتحاد الأدباء .
التسعينيون : فتنة القص وتخصيب اللغة :
- إذا كان الكاتب الروسي " مكسيم غوركي " يقول : " لقد خرجنا – جميعاً – ( أي ، كتاب القصة القصيرة ) من تحت معطف " جوجول( ) " فإن الجيل الجديد في اليمن يحق له أن يقول بفخر : " لقد خرجنا جميعا من تحت معطف " الوحدة " ، ذلك ان الجيل الخامس ( التسعيني ) لم يكن له إيما حضور ، أو نفس قبل منجز " الوحدة " التاريخي والسياسي ؛ لأن العقد التسعيني ما إن أخذ يبشر بهذا المنجز حتى بدأنا نشاهد عجباً : عشرات من الكتاب ، والشعراء، والقُصّاص ينثالون على الساحة الثقافية والإبداعية، بفضل التهيئة المناخية التي فُتحت على الثقافة . حيث هبت رياحها لتوقظ النائمين ، وتحرك – مدغدغة – أفكار وحواس المبدعين ، وماهي سنوات بعضيّة حتى بدأت المجاميع الأدبية تتراصّ ، معلنة هذا التوهج الإبداعي المثير . فعلى مستوى الإبداع القصصي – مثلاً – نستطيع أن نحصى أكثر من أربعين إصدارا قصصياً كانت في جلها لشباب لا وجود له قبل عام 1990م نحو " وجدي الأهدل ، هدى العطاس ، آمنة يوسف ، أحمد الزين ، الغربي عمران ، صالح البيضاني ، أفراح الصديق ،ونبيل الكميم ،ومحمد أحمد عثمان وغيرهم . وثمة عشرات آخرون ممن يعدون مجاميعهم القصصية للطبع ، وكل هؤلاء يمثلون –معاً – نواة القص الحديث ، أو الجديد في اليمن ، وإذا ماحاولنا استبطان أغوار هذا الجيل سنجد بأنه يحاول – مااستطاع – أن ينفصل بأسلوبه ، بل وينقطع عن الأجيال الماضية، إلا أنه – بالرغم من ذلك – لازال – في بعضه – يحمل بعض جينات وراثية (أدبية ) تشرّبها ، بوعي ، وبغير وعي ، عن الجيل السابق ، بدليل أن ثمة ممن لازال واقعاً تحت مؤثرات أدبية تحتذي الجيل الماضي نحو القاص " محمد الغربي عمران " الذي مازالت تؤثر به واقعية الجيل الماضي ، متبعاً في ذلك طريقته الأسلوبية : لغة ، وبناء ، رغم محاولته التجديد في الحبكة السردية ، كأن يعتمد – أحيانا – على البناء الجدلي ، وتوظيف العلائق الشخوصية على نحو أقل تشابكاً ، وتعقيداً من السابقين ، واعتماده على الرمز المفتوح نحو قوله " نظرت إلى الوجوه المعلقة حول وجهي نسيت موقعي ، لا عرف كيف اختفت… "( ) ففي نصية " الوجوه المعلقة " نجد انفتاحاً تعبيرياً لايمكن تقييده –مثلاً – بفكرة التزاحم ، أوالنظرات المشخصة إلى الوجه ؛ وإنما يمكن أن نعبر عنه كذلك بالتسارر ، والابتهاج بالنظر ، وبالدهشة كذلك . بينما الرمز لدى " محمد عبد الولي – مثلاً .. يتجه مباشرة إلى المعنى نحو قوله في قصة " كانت جميلة " ( رأيت شبح ابتسامه ، وصدقت حين رأيت أن اسنانها قد تحولت إلى ذهب " .. فتحول الأسنان إلى ذهب يوحي بالانتقال من حالة بؤس إلى سعادة ولكن الابتسامة الشاحبة تنفي " السعادة " لأن في " الشحوب " ، و"الذهب " تضاداً يوحي بأن الذهب إنما كان ثمناً للفرح ، فيكون الموقف الرمزي ههنا " هو الحزن " ولاشيء سواه ، بدليل " وصدقت "( ) وكاتب نحو " الغربي عمران " يضحي بالشكل في سبيل المضمون ، فتظل اللغة الساردة لديه في رتبه تالية للموضوع وهو في ذلك إنما يحتذي من سبقه ، بعكس الكتاب الآخرين ، من ذات جيل " الغربي " والذين تظل لديهم اللعبة اللغوية هاجساً ، وتظل الفتنة المجازية مطلباً حيوياً ، وأولياً لدى الجُل الأكثر من هؤلاء .نحو " أحمد الزين " صاحب " الأسلاك المصطخبة " ، والذي يعد من أكثر كتاب القصة القصيرة اهتماما بهذا الجانب ، ابتداء بعناوينه القصصية نحو : " عنوة يرتطم بالأجدرة " ( راجفة تتهامد الورقة ) ، (قدمان تدريجاً تتعامى ) ، وانتهاء بالنصيات الكتابية نحو قوله ( هائشة غابة الشعر ، تتوزع طيات وجهه . التماع خفيف حاد يضيء جهامة ملامحه ، واذ تأخذ قدماه ثقيلتان في مشي بطيء وذاهل …( ) ونحو هذه اللغة -كما نعلم – تضحي بالموضوع لأن القارئ يظل منشغلا باللغة محاولا تفكيكها للوصول إلى المعاني الداخلية . وأستطيع أن أقول بأن " الزين " هو الذي يتصدر هذا الشكل الكتابي بين جيل التسعينين من كُتاب القصة ؛ إذ بهذا النمط الكتابي يُميّز البعض بين التقليدية والحداثية . لكننا بالمقابل نجد ثمة من يوفق بين الداخل والخارج ، بالجمع بين شعرية القص ، وبنائية الحدث نحو "آمنة يوسف "في قصصها القصيرة ، والأقصر ، "وهدى العطاس " ( )، ثم محمد علي الخوربي ، ومحمد علي عثمان ، وعبد الناصر مجلي ، ونبيل سيف الكميم ومحمد عبد الوكيل جازم ، وغيرهم .. لكن مايجمع هؤلاء هو الطريقة الساردة ، والتي تتخذ من الوصف السينمائ ، والوصف البصري نقطة التقاء ، وبؤرة اجتماع يلتقى عندها معظم حداثي الوطن العربي
.أما عن نوع القص ، فنستطيع أن نقول بأننا في - اليمن – نحيا زمن القصة القصيرة ، ومرادفاتها : الأقصوصة والأقصودة ،والقُصاصة النصية ، ولا مكان للقصة الطويلة ، أو الرواية بين مجتمع هذا الجيل ، وإذا ما حدث أن وجدنا قصة طويلة ، أو رواية بين حين وآخر فهذا من قبيل الشذوذ المتموقع خارج الدائرة القاعدية . ذلك أن " القصة القصيرة أضحت ، ومازالت أقرب الفنون الأدبية إلى روح العصر ، لأنها انتقلت بمهمة القصة من التعميم إلى التخصيص ، فلم تعد تتناول حياة بأكملها، أو شخصية بكل ما يحيط بها من أبعاد ، وحوادث وظروف وملابسات ، و إنما اكتفت بتصوير جانب واحد من جوانب حياة الفرد ، أو زاوية واحدة من زوايا الشخصية الإنسانية ، أو موقف او تصوير خلجة واحدة ، أو نزعة واحدة من خلجات النفس ، ونوازعها تصويراً خاطفا يساير روح العصر … "وأصبحت القصة القصيرة تؤدي مهمة القصيدة من حيث الصور النفسية وتحليل المشاعر"( ) فمن أمثلة القص الذي يمثل موقفا ، أو نزعة من نزعات النفس تصويراً خاطفاً ، أقصوصة " انسكاب" للكاتبة " هدى العطاس " تقول : " كان فضاء الغرفة أضيق من ان يتسع لانهماراتهما . عندئذ سكبت عينيها داخله ،و انسابت "( ). ففي نحو هذه الأقصوصة الخاطفة تتجسد شعرية السرد ، إلى جانب الموضوع الإثاري الذي يوقظ الحواس ، فيدغدغها. فالاقصوصة تجسيد لنزعة نفسية ، ومادية جنسية (معاً) انتُزع منها الزمان ، ولم يبق سوى الفتنة التصويرية ، وطمست أجزاء المكان الموضوعي التام ؛ بجعله مكاناً نفسياً متحركاً؛ بدليل ضيقه الذي اتسع بمجرد الانسكاب في الآخر ، و الانسياب الروحي ، والمادي معاً عند لحظة الالتحام . وقد يعمد بعض القُصاص إلى تقنية " اللاشعور " لتجسيد موقف وجودي ، أو فلسفي (ما) يفسر بعض الأزمات النفسية ، أو الواقع الخارجي كما في بعض أقاصيص " محمد القعود " أو طاهر المقرمي ، ومحمد المقطري ، وسامي الشاطبي ، ومن أمثلة ذلك هذه القصاصة النصية .
" صبت القصبة فوق كسلة اليومي ، كيس ماء فنهض مهرولا ، ومضت أجزاء جسده في كل الاتجاهات " ( ) ، إذ في نحو هذه القصاصة النصية لانلمح سوى هذاء سريالي ، وهذا هو ظاهر النص، ولكن صاحبه لايرمي من خلاله إلى مجرد الهذاء العبثي ، إذ ثمة فكرة موضوعية أراد ان ينقلها إلينا " الناص " ، ناقلاً إلينا حالات من الفزع العصري ، وتشتت النفسية المعاصرة بين حب البقاء ، والاستسلام للضغط النفسي . ومابين هذا وذاك يشتت الجسد ، ويفنى مبكراً ، وبهذا النوع من السرد اللغوي التصويري يستطيع " الناص " أن يخلق جواً مثيراً ، وغامضاً ، يحار معه القارئ ، ويثير فيه القلق والفضول ( معاً ) ، فإما أن يصل إلى المغزى أو يستسلم تاركاً كل شيء .
الرمز ، والرمز الآخر :
- إذا كان الرمز " قد تأصل في القصة المعاصرة على يد " محمد عبد الولي " ثم على يد " محمد صالح حيدرة " في جيل سابق ؛ فإن الرمز في القصة القصيرة في اليمن قد أضحى ظاهرة تميز بها معظم كتاب القصة القصيرة الحديثة . ولكن مايهمنا هنا هو التحول بالرمز لدى بعض أدبائنا من الشباب من مستواه اللغوي الإشاري إلى مستوى جديد قوامه " الفنتازيا " ولعل كاتباً هو " وجدي الأهدل " يعد أكثرالذين يحاولون استغلال القص " الفنتازي " لتحقيق رغبة الرمز في تشكيل الموضوعات من خلال محاولة استيعاب اللحظات الواقعية بأحداثها وفق آليات " فنتازية " تتحرك بالشخوص والجوامد ، والأحداث موحدة بين المعقول ، واللامعقول ، وفي جو قصصي باعث على الغرابة والفضول ( معاً ) ونعتقد بأن كاتباً نحو " وجدي الأهدل " هو الأكثر قدرة على إبراز قبح الواقع من خلال كتابة الواقع المريض،بواقع ( لامعقول ) مسرود فنيّا ، إنه – مثلا – ولكي يبرز بعض الوجوه القبيحة ، وأخرى تثير الشفقة ، يعمد في قصته ( صورة البطال ) إلى مسرودات عدمية ، تثير الرعب ، والمتعة معاً ، فيدلف إلى قصته بلعبة ( الحكي السماعي ) بقوله "أنبأنا الذي نبت شاربه فوق أنفه قال : منذ سبع سنوات ، وأنا اتلقى التعازي . لقد مات أنفي " ( ) وينقلنا بعدها إلى حكاية " النقطة السوداء التي نبتت في وجه البطال، وفي تجويف أذنه ، ثم كيف كبرت ، وتضخمت حتى أضحت في حجمه ، وأرادت الانقضاض عليه ، و ابتلعته ، ثم ينقلنا إلى الخزانة السرية التي تنبعث منها رائحة الجثث المتعفنة . وهو في كل ذلك يتحدث عن صورة معلقة شخصها يتحرك ، ويتكلم ، ولكن صاحب الصورة المتخذة كستار للخزانة ؛ تُنزل أخيراً ، وتمزق إرباً ، وتلقى في منفضة السجائر ، بينما شخصها يرى كل شيء . ولنؤكد – هنا – على تحورات الرمز " الفنتازي " لدى " الأهدل " والذي اتخذ من نصيات معينة منطلقاً لتفسير الحدث نحو / موت الأنف / النقطة السوداء / الجثث المتعفنة / القلم الذي شاخ … الخ .. والفارق – هنا – بين رمزية الجيل الماضي ، ورمزية السرد " الفنتازي " أن أولئك قد يتخذون من الصورة النفسية منطلقاً لابراز رمزية "ما "، فلا يتيه الرمز في الحدث ، بينما يأتي سرد " الفنتازيا " متعدد الصور ، مثيراً للحواس ، والفكر ، لكنه قد ينفلت بسببٍ من تغميض الحدث ، بما قد يعجز – معه – القارئ في تفسير موضوعةِ النص ، وبالتالي عدم الإمساك بقصديّة الرمز " المعطَى " فنتازيا " بما يجعل القارئ حائرا أمام مسرودات كهذه " وما إن وضعت رأس القلم لأكتب سري ، وبالكاد اثبت نقطة سوداء صغيرة ، حتى كانت البقعة السوداء تفر هاربة إلى ركن غرفتي " ) ( وما إن كتبت كلمة " اعترف " حتى شاخ القلم في يدي، وانحنى ظهره ، ثم توكأ على سبابتي بعد فقدانه البصر ") ( كانت البقعة السوداء قد تضخمت ، واستطالت حتى أصبحت في حجمي تماماً ، وقد برزت فيها ستة أذرع لاتكف عن الدوران " ( صورة البطال) . القارئ هنا – لاشكّ – محاصر بأجواء خرافية، تثير رعبه ومتعته – معاً – وقد لايهتم بتفاصيل المعنى ، فيعطيه قيمة عَرَضّية متجاهلاً الجوهر الموضوعي ؛ مكتفياً بما تثيره نحو هذه " النصيات" من اجواء مبهمة وساخرة –أحياناً - ، لكن مجرد الإثارة وحدها تكفي لأن تجعل من القصة تستقر في الذهن ، باعثة على التساؤل النقدي : كيف ، ولماذا ؟ بما يحقق للنص فتنته السردية وجمالياته التصويرية فيرقى به ، ويموقعه كجنس أدبي له طلابه من القراء
الهوامش:
(1) أنظر : سلسلة " أقرأ " المصرية " العدد (33) وفيها تجد قولاً للعقاد في هذا الصدد
(2) للاستاذ / حسين سالم باصديق مقال بعنوان : القصة في اليمن ومراحل تطورها ، حاول من خلالها إحصاء جميع كتاب القصة من الأربعينات وحتى نهاية الثمانينات : الثقافة اليمنية المعاصرة ط.1991م وزارة الثقافة والسياحة .
(3) سيد حامد النساج ، القصة القصيرة ، دار المعارف ، مصر ، ط 1977م.
(4) - من مجموعة "الشراشف" ، "قصة كائنات مضيئة " .
(5) - " وكانت جميلة " / محمد أحمد عبد الولي.
(6) - اسلاك تصطخب ، قصة " قدمان" ، ط 1، 1997م.
(7) - للأولى مجموعة قصصية بعنوان " جوقة الوقت " صدرت عام 1997م ، دار الحوار ، وللأخرى مجموعتان ، الأولى بعنوان " هاجس الروح .. هاجس الجسد " ط:1995م ، والأخرى بعنوان " لأنها " ط : 2001م ، مؤسسة العفيف .
(8) - القصة القصيرة . مصدر سابق .
(9) - أنظر مجموعتها الثانية " لأنها" منشورات مؤسسة العفيف ، طبعة 2001م .
(10) - سامي الشاطبي .
(11) - صورة البطال ، وجدي الأهدل ، ط 1998م ، دار أزمنه .