صنعاء / المؤتمر نت/ نزار العبادي -
السلطة السياسية للإعلام
ذات يوم وقف أحد الزعماء الروس الثوريين بين رفاقه ليقول لهم: (أعطني صحيفة أعطيك ثورة)، فوجم الحاضرون كما البلداء، لا يدرون ماذا عساهم أن يردوا على رجل يسألونه السلاح ليثوروا فينصحهم بالصحف! لكنهم عندما انتصرت ثورتهم بعد بضع سنوات تذكروا (أن الثورات يشعلها الوعي، وأن الوعي لا تبنيه غير الأقلام النيرة الحرة التي تلامس وجدان الجماهير بأمانة).
بتلك المفردات سرد الكاتب الروسي (ديرايما نوف بوليسكي) شطرا من حكاية الإعلام مع السياسية ليحيي في ذاكرتنا موقف (ميرابو) – خطيب الثورة الفرنسية – يوم كان بين جمهور الوطنيين المجتمعين على مدرجات أحد ملاعب الكرة، فما أن وصلهم رسول الملك ليأمرهم بفض الاجتماع، حتى انتفض بوجهه (ميرابو) صارخاً: (إذهب وقل لسيدك أننا مقيمون هنا بإرادة الأمة ولن نبرح أماكننا إلا على أسنة الحراب).. فما كان من الجمهور إلا أن يهتف باسم الثورة، ويخرج إلى الشوارع ليحطم أسطورة (الباستيل) ذلك السجن الذي لطالما حصدت مقاصله رؤوس الأحرار الفرنسيين!.
لعل تلك القوة التي تمتلكها الكلمة الصادقة، وتدك بها معاقل الظلم تفسر لنا بجلاء لماذا وصفت الصحافة بأنها (السلطة الرابعة)، و (صاحبة الجلالة)، وكلاهما يعني أنها صانعة قرار سياسي.. لكن – بلا شك- عندما يكون ضمير الشعب، ولسانه الفصيح، وإرادته العامة، وليست منابر مزايدات سياسية، فئوية أو حزبية ضيقة كالتي تمثلها الكثير من صحفنا المحلية.
ويبدو لي أن مصدر إخفاق الإعلام في تبوء سلطة سياسية حقيقية قادم من جهل صفوته القيادية لاستراتيجيات عمل الإعلام الثوري الذي يمتلك قدرة التأثير في فكر وثقافة الرأي العام، وليس في عواطفه، وانفعالاته التي من خواصها السيكولوجية التقلب السريع، والتحول المفاجئ إلى غير ما كانت عليه بتأثير ردود الأفعال للحدث الطارئ.
ففي بيئة كاليمن، تفتقر إلى قاعدة ثقافية شعبية بمساحات عريضة، وبوعي ديمقراطي واسع يصبح أي جهد فكري سياسي للإعلام مجرد تبديد طاقات، وهدر أموال لتسويق نتاج كاسد تستهلك جزءً يسيراً جداً منه فئة من أصحاب القناعات المسبقة التي من الصعب تصديع قناعاتها بأقلام غير ماهرة، أو لا تحترف لعبة الإعلام السياسي..
ولعل ظاهرة كهذه ما كانت لتنشأ في السوق الإعلامية اليمنية لولا أن وسائل الإعلام قفزت على الواقع، ولم تضع أي استراتيجيات عملها أن عليها أولاً أن تؤهل القواعد الجماهيرية لتلقي رسالتها الإعلامية الفكرية والثقافية، واستيعاب مفرداتها.. وتلك مهمة صعبة، وتستغرق وقتاً تستهلكه وسائل الإعلام في دفع المجتمع نحو التعليم، والممارسات الاجتماعية السليمة، ومكافحة المواريث التقليدية البالية، وتنمية الروح الوطنية، وشرح مدلولات الممارسات الديمقراطية والحقوق الإنسانية، وغيرها من الأمور التي تعد أساسيات معقولة تهيء فرص الاستثمار الإعلامي السياسي، وأي تغيير مرغوب به.
فالحالة القائمة اليوم لدى وسائل الإعلام لا تكترث بشيء لهذه الحقيقة، بل إنها تمعن في التغابي إلى الدرجة التي يتحدث بها البعض عن نسبة أمية تصل 43%، وفي نفس الوقت الذي يكرس فيه معظم صفحات صحيفة للحديث عن نظرية (آدم سميث) في الاقتصاد، أو عن (العولمة)، و(الحركات الليبرالية العالمية)، و (قانون ضريبة المبيعات) وغيرها من المسائل- المهمة للغاية- والتي تستدعي خلفيات ثقافية مناسبة لفهمها.
أما القسم الآخر من هذه الوسائل الإعلامية فإنها تتلذذ في تحويل صفحاته إلى جبهات معارك حامية الوطيس مع خصومه (في المنافسة الديمقراطية)، دونما اعتبار لترك مساحة تلبي الحاجة الشعبية من المعرفة، والتوجيه، وتقويم أساليب الحياة الاجتماعية.. كما لو أن الحزبية هي الوظيفة الوحيدة للوسيلة الإعلامية!
وعلى هذا الأساس يغيب منطق التغير، وكل ما يتصل به من قيم ثورية، وتحولية من الوظيفة الإعلامية، وبالتالي فإنه يفقد سلطته السياسية، وأدواره في توجيه القرار السياسي للدولة، أو - على أقل تقدير- التأثير على دوائر صنعه، والمعادلات المرسومة له.. وكل هذا يحدث لمجرد أن صفوة القيادات الإعلامية آثرت القفز نحو غايات متقدمة دونهما اكتراث لضمان أرضية صلبة لإسناد خطوة القفز، وهو – بلا شك- يمثل نقص معرفي، وتقني لا بد أن يتسبب بمشاكل جمة للبلد، من خلال الفوضى التي يثيرها الإعلام غير المسئول، ومن خلال الضرر الذي يلحقه ببرامج التنمية الوطنية الذي تناط به تمثيل أحد أقطابها المهمة.
اعتقد أن غياب السلطة السياسية للإعلام ليست إشكالية اليمن وحدها، بقدر ماهي صنعة غالبة على واقع الإعلام العربي، الذي بدأ مؤخراً غريباً جداً عن بيئته، وقضايا شعوبه، وحاجاتها الأساسية.
ولكن مازالت هناك مسألة معقدة تستحق تأملاً طويلاً، وهي: ماهي احتمالات تبوء الإعلام سلطة سياسية عندما تموت رغبة مطالعة الصحف أو استماع الإذاعة لدى صناع القرار السياسي في الحكومة، ويمسي أحدهم بانتظار من يلفت نظره لمتابعة ما نشر بحق وزارته أو مؤسسته!؟
سأترك الإجابة لغيري، فما زالت في اليمن رموز إعلامية، ومنابر ثقافية تدرك مسئولياتها تماماً وماضية في شق الطريق إلى سلطة سياسية إعلامية تستحق نيلها بجدارة.