الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 12:00 ص
ابحث ابحث عن:
قضايا وآراء
الإثنين, 22-أغسطس-2005
المؤتمر نت - نزار العبادي المؤتمرنت - نــزار العبــادي -
قيَـم صناعَة الرّأي العـام
في فترة ماضية من التاريخ الإنساني لم تكن أدوات صنع الرأي العام من القوة التي تجعل من الأمر عنوان إشكاليات إستراتيجية، وهموم وطنية وقومية، إذا أن إحساس الأنظمة السياسية بخطورة الرأي الآخر على أسباب ديمومة بقاء ملكها، أو استقرار أجهزة حكمها بالشاكلة التي هي عليها، دفع الأنظمة لاحتكار وسائل صنع الرأي العام، ووضع ضوابط صارمة على أدواته الحكومية، ومساحة تداول الكلمة، لدرجة تحول إستحصال موافقة السلطة العليا للدولة بإطلاق رأي ما إلى ضرورة حتمية لا سبيل للتفريط بها.
ومع أن ذلك الواقع لم يعد ممكنا في زمن انتشار الفلسفة الديمقراطية، واتساع خارطة النظم المتبنية لها، وفقدان سيطرة الدول على فضاءات وتقنيات تصدير الرأي، والمعلومة الخبرية، لكن ظل هناك اعتقاد بأن من يمتك الإمكانيات المادية هو الأجدر بالاستحواذ على اتجاهات الرأي العام، دونما اكتراث لأية اعتبارات أخرى، باعتبار أن من لديه المال لن يصعب عليه اقتناء ما يرغب.
في اليمن وجد مثل ذلك الاعتقاد رواجا في الوسط السياسي والإعلامي، وتهيأت من الظروف الداخلية ما عزز ثقة البعض بصواب منهجه في التفكير، وأسلوبه في العمل. ويأتي هذا على خلفية حداثة تجربة تعدد منابر الرأي، وضعف تأهيل العديد من مبرمجي السياسات الإعلامية في فنون صناعة الرأي العام، ووسائل تسويقه لفئات المجتمع.
إن قيمة التخطيط الإعلامي تتوقف على ما يخلقه من جو ملائم يبعث على التجاوب التلقائي مع البيئة المستهدفة. أي أن هذا التخطيط لا يمكن أن يلقي ترحيبا، وعونا من الجماهير إذا لم تكن له نفس الأسس التي يُقيم عليها علماء النفس المحدثون قاعدة تداعي الأفكار التي تبرز الاتجاهات السياسية للبلاد، أو الجهة المسوقة للرأي.
وهي بذلك فن في صناعة التقرب إلى الجماهير من خلال تأثيرات مختلفة تستقر في نفوسها، وتؤلف كياناً مشتركاً يشغل أفكارها، ويجعلها تعمل بروح من الإنجاز والقابلية لتكوين نفوذ متفوق على تكوينه الثقافي أو الوجداني السابق.
إن صناعة الرأي العام ينبغي أن تنبثق من حقيقة مهمة هي أن الإنسان مستعد للتخلي عن بعض أفكاره، واكتساب أفكار جديدة. وهي حقيقة مبنية على أساس من وجود فئات متعددة في كل مجتمع تتمايز عن بعضها البعض بمصالحها التي تحاول ألاّ يفلت زمامها من أيديها، وهو الأمر الذي يدفعها لتنظيم تأثيرها في الآخرين طبقاً لأغراض سياسية، أو اقتصادية، أو ثقافية أو غيرها من الغايات. وهذا يعني أن كل فئة تُشايع رأيا من الآراء، وتواصل كفاحها من أجل نصرته، وتتفاعل مع بعضها البعض على أساس التزامها بالمسئولية المشتركة التي تقع على كاهلها.
ولكن ذلك كله لا يمكن أن يتحقق بغير ضخ كميات هائلة من المعلومات إلى الوسط الاجتماعي المُستهدف، الذي يتوق- بطبيعته البشرية- للمعلومة الجديدة، وتحديث أنماطه السلوكية، وتطوير كيانه، دون أن يفقد الرغبة في البحث عن المزيد من المعرفة.
ويبدو أن الإشكالية التي تواجهنا في اليمن عند محاولة بلورة رأي عام معين قائمة على خللين، أولهما- غياب التوافق بين الخطاب الإعلامي وبين ظروف الواقع الاجتماعي، الثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، وحتى التاريخية والنفسية، الأمر الذي يُفقد ذلك الخطاب تأثيره ، ويجعله غير ذي قيمة تذكر.
وثانيهما- تغييب التجديد المعرفي بالمعلومات المُسوّقة للجماهير، وتضييق الخناق على المتلقي من خلال تكرار سقيم للمفردات غالبا ما تدفعه لتصديق الأكاذيب والعزوف عن إيلاء الحقيقة الأصلية أي قدر معقول من الثقة، حتى يتعود جهور المتلقين على حرية تداول الأكاذيب، وتصبح أشبه بـ ( المورفين) الذي ُيدمن عليه البعض.
فعلى سبيل المثال- روى الملاحون المرافقون لـ ( فاسكو دي جاما) عام 1497م ما لا يحصى من القصص الغريبة بعد عودتهم، ولكن ما أن ارتاد الناس الجهات التي تحدثوا عنها حتى اكتشفوا أن قصصهم أقرب للأساطير التي يساعد سردها على تبديد الملل والسأم من ضيق الحياة، وكانت النتيجة أنه لم يعد هناك حاجزاً يقوم أمام ما يُقال خطأ عن الأشياء والأحداث، وقد أثر طمس الفرق بين الخطأ والصواب كثيرا على الرأي العام الأوروبي، إذ شق على أنفسهم تغيير العادة التي وقفت وراء الكثير من ممارسات الحقبة الاستعمارية.
لاشك أن تجاهل طبيعة الحياة الإنسانية للمجتمع اليمني، والتركيبة النفسية غير المعقدة للإنسان اليمني في محاولات صناعة الرأي العام لمسألة محددة من شأنه إهدار الجهد والمال، وفقدان الهدف المرجو؛ فقد لا يأتي مائة مقال رأي عن مخاطر شلل الأطفال منشورة في صحيفة ذات إمكانيات مادية هائلة باستجابة مؤثرة كما تفعل صورة طفل مُعاق بائس، أو تحقيق صحافي نوعي تنشره صحيفة صغيرة مثقلة بالأعباء المالية.
وربما يتذكر الكثيرون كيف أن مشهد استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة حشَّد الرأي العام العربي والدولي لدعم الانتفاضة الفلسطينية على النحو الذي عجزت عنه خطابات جميع زعماء العرب، أو المشاهد الأخرى التي نقلتها الفضائيات.
إن الرأي العام المتبلور استمد قوة صنعته من مدى اقترابه الوثيق من الضمير الإنساني للمتلقي، والمناخ النفسي الذي يعيشه، فضلاً عن إتيانه بنتاج إدراكي جديد، ومتميز بعناصر إبداعه الفني.. وهو أمر يؤكد أن صناعة الرأي العام لا يمكن أن تأتي من أساليب نمطية تقليدية كالتي اعتادت عليها أغلب وسائلنا الإعلامية، ومنابرنا الخطابية، ما لم يرافق ذلك تخطيط يكيفه مع بيئته الاجتماعية المستهدفة – سواء كانت محلية أو دولية، إذ أن استعدادات الاستجابة واحدة، وتمثل جزءً من الطبيعة البشرية للشعوب.

[email protected]





أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر