الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 11:41 م
ابحث ابحث عن:
قضايا وآراء
الأربعاء, 24-أغسطس-2005
المؤتمر نت - الكاتب والصحفي نزار العبادي المؤتمرنت- نزار خضير العبادي* -
المؤتمر الشعبي بجدليات ثورة سبتمبر
من واقع ما يثيره النقاش بشأن التوصيفات المناسبة لمنهج العمل السياسي للمؤتمر الشعبي العام يضع البعض سؤالاً حول مدى القبول بإدراج المؤتمر في عِداد الحركات الوطنية الثورية، رغم أن قيامه أعقب الثورة اليمنية بعشرين عاماً، وأنه لم يمثل في حينه تحولاً إلى نظام حكم سياسي جديد..!
ومع أن الحديث في أروقة الدوائر التنظيمية والسياسية والإعلامية للمؤتمر لا تولي هذا التوصيف "الثوري" كثيراً من التخصيص في أدبياتها السياسية ، إلاّ أن تصوراتنا لهذه المسألة تميل كثيراً للأخذ بـ(ثورية) المؤتمر، والالتقاء بهذا الرأي مع جملة من المعطيات الواضحة المستخلصة من معايير ذلك التوصيف ، وحجم ارتباطاتها بواقع ما آلت إليه ساحة العمل الوطني اليمني في ظل قيادة المؤتمر الشعبي العام منذ تأسيسه في 24-29 أغسطس 1982م، وحتى يومنا هذا .
فالثورة هي رديف حقيقي للتغيير والتحول الكامل بأدوات السلطة وفكرها ونظمها السياسية، ومناهج عملها الوطنية.. وعلى هذا الأساس أطلقنا على ما جرى يوم السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م بأنه (ثورة)، تحمل في جوهرها وظروف قيامها، وأهدافها الستة كل المضامين التي أوردناها. وإذا ما سلمنا بذلك الرأي فإن أول ما يتبادر للأذهان هو السؤال: ترى ألن يكون توصيف المؤتمر بـ(الحركة الثورية) أقرب إلى جعله نقيضاً تاماً للثورة السبتمبرية، ومساراً مختلفاً عما كانت تتطلع المضي فيه- وفقاً لما ذهبنا إليه من تعريف للثورة ؟
ربما سيؤول الفهم إلى ذلك المعنى بمجرد الاعتقاد بأن ثورة سبتمبر، والمؤتمر الشعبي العام كيانان منفصلان عن بعضهما، وتحرك فعليهما أداتان مختلفتان ..
في حين أن واقع الحال على العكس من ذلك تماماً؛ فالمؤتمر ضمن البعد التاريخي لانبثاقه كان أشبه بدبيب الروح في عروق جسد الثورة السبتمبرية التي سبقته إلى النزول من رحم الوطن بسنوات، فانكفأت خلالها على وجدانها، تلعق أيامها القاحلة بمرارة، وتبتلع آلامها المستجلبة ، وترنو بصمت إلى انتظارها السقيم للحظة اكتمال الولادة ، والانبعاث حقيقة ، لها وقع يسمعه ويشهده الجميع .
فما كان مخططاً لثورة 26 سبتمبر هو ليس أن تقف عند حدود تغيير النظام من ملكي إلى جمهوري؛ بل أن تجعل من ذلك التغيير أداة لتطوير أسباب الحياة الإنسانية الكريمة للفرد . فالشعوب لا تثور لتأتي بوجه حاكم جديد، أو عنوان عهد مغاير لسالف الأوان . بقدر ما ترمي من وراء فعلها الثوري وتضحياتها النضالية أن تصبح أدواتها الثورية وأدبياتها الفكرية سبيلاً يمكنها من امتلاك ذاتها الإنسانية، والارتقاء بعناصر إدامة بقائها الآمن ، وعطائها الإيجابي ، وإزاحة كل أسباب الشقاء والفناء.
لكن كانت أية مراجعة تاريخية لمسيرة الحقب الأولى من عمر الثورة تضعنا أمام واقع ليس فيه ما يغري بالتضحية لأجله . فقد تعثرت مسيرة الثورة كثيراً، ودخلت مراحلاً من الصراعات والمتناقضات بين الجمهوريين والملكيين دامت حتى عام 1970م بعد المصالحة الوطنية.
وفي الوقت ذاته انقسمت قوى الثورة على نفسها، واستحالت في بعض فتراتها فرقاً مناوئة لبعضها البعض؛ بحيث أنها بدلاً من أن تساعد في تفعيل الهدف الثوري صارت عبئاً عليه.. وتزامن هذا الأمر مع مناصبة العديد من الأطراف الخارجية العداء للثورة، والعمل بجهد حثيث لتعطيل عجلتها، ومحاولة وأدها- وأحياناً- جرها إلى خارج مسارها الوطني.
سجل ذلك الواقع حضوره الكبير في ثقافة عدد من الوطنيين الأحرار، حتى أمسى في طليعة همومهم، ويحظى بجزء كبير من تفكيرهم وتأملاتهم السياسية ، لدرجة أن الرئيس على عبد الله صالح تحدث عن ذلك في مقدمته لوثائق المؤتمر العام الأول واصفاً الحال:
( لئن كان العمل الوطني –منذ قيام الثورة المباركة- يمثل معالم متقطعة في مسيرة الحياة الديمقراطية في بلادنا، إلاًّ أنه ظل يعطي إضافات إلى خبراتنا المختزنة تزيد من رصيد تجربتنا الوطنية، في الوقت الذي دخلت فيه الثورة مرحلة هموم ومشاكل أخرى، وبدأ شعبنا يعاني من آلام جديدة ومستجلبة غير تلك الآلام التي دفنها وتحرر منها وإلى الأبد.. آلام ارتبطت بالتيارات السياسية والفكرية والدخيلة التي ظل يسيل لعابها لهثاًَ لاحتواء مسيرة الثورة واستلاب الإدارة اليمنية وامتلاكها نتيجة الفراغ السياسي المتفاقم الذي أثمر الصراعات الثانوية، وهو ما مثل تهديداً خطيراً للثورة ولوحدة الشعب الوطنية، لطموحاته في تسيير أموره ).
وعلى الرغم من نجاح الثورة السبتمبرية في تحقيق مكاسب نوعية محدودة، إلاّ أن كل ذلك لم يعد ذا أي قيمة تذكر إزاء الظرف الخطير الذي آلت إليه الساحة اليمنية في النصف الثاني من السبعينات بعد أن استشرت فيها الفلسفات الفكرية الغريبة عن ثقافة وقيم وعقائد الشعب ، وتفشت الاغتيالات والتصفيات السياسية التي طالت حتى رؤساء الجمهورية، حتى وقفت الثورة اليمنية قاب قوسين ، أو أدنى من فاجعة المسخ والانحلال والتلاشي .
إذن وفقاً لحساباتنا لما يعنيه ذلك الظرف القاهر نستشف أن الثورة اليمنية واجهت من التحديات الخطيرة ما كان يكبل إرادتها الجماهيرية، ويمنعها من إحداث تغيير ذا شأن، أو إقامة بنى مؤسسية حقيقية، أو صيغ معينة لترجمة خطى أولية على طريق أغلب أهدافها التي حملتها لحظة انبثاقها عام 1962م.
ولكن الحقيقة التي لا محاباة في ذكرها هي أن التفكير بخلق انبعاث تاريخي للثورة لم تشهده ساحة اليمن الوطنية إلاّ في عهد الرئيس علي عبد الله صالح.. إذْ كان الاتجاه نحو صياغة (ميثاق وطني) بمثابة خطوة عملية جادة لتشخيص أدوات ترجمة الأهداف الثورية السبتمبرية إلى برامج عملية واعية تنقلها إلى حالة الكينونة الحية ، والفعل المباشر.
لا شك أن عواملاً عديدة دفعت بذلك الاتجاه، وأن حجم المعاناة اليمنية بلغت شأوا قال فيه الرئيس علي عبد الله صالح في مقدمته لوثائق المؤتمر العام الأولى: (كانت تلك المعاناةًٍ هي الشغل الشاغل لكل الوطنيين الأوفياء الملتزمين بالثورة وأهدافها..)، ولعلها أيضاً كانت تقف وراء الحراك السياسي لاحقاً – إذ يضيف الرئيس قوله: (وهو الأمر الذي جعلنا جميعاً وكل الغيورين على الثورة والوحدة الوطنية على اقتناع تام بضرورة التحصين الفكري الكامل للثورة ومسيرتها، وأنه لا بد في مواجهة التيارات الفكرية الغازية المتسربة من فكر وطني يمني يواجهها، ويكون فعلاً المتراس الذي يتصدى لها، في الوقت الذي يكون المرشد والهادي لمسيرة الثورة.وكان من الضروري أن ننتقل بثورة سبتمبر المجيدة إلى مرحلة أكثر اكتمالاً وقدرة).
يقيناً أن أفكار (الميثاق الوطني) لم تكن بديلاً لأهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، لكنها بكل تأكيد كانت تشخيص للصيغ العملية لها، وشرح تفصيلي لمعانيها، وتعيين دقيق للأدوات والوسائل المناسبة التي تساعد الجماهير على إذابتها في صورة الواقع اليمني المعاش؛ فالميثاق الوطني ليس إلاّ فلسفة ناطقة بلسان الثورة ، وفكر يستلهم أدبياته من إنسانيتها وأخلاقياتها، ومدلولاتها التاريخية، وتراثها الثقافي..
إلاّ أنه- في الوقت نفسه- ينقل الأزمة، وخلفيات التطورات السلبية التي زجت بالثورة في مأزقها الوطني الخطير.. فلم يكن من الصواب البحث عن حلول مناسبة بمعزل عن الحيز الزماني الذي آلت إليه.. وهو الأمر الذي يجعل من التفكير بكل معطيات الوضع القائم لما قبل عام 1980م أمراً يقترب كثيراً جداً من صيغ بلورة أي فكر ثوري تحرري.
الرئيس علي عبد الله صالح كان يمتلك رؤية دقيقة لما ينبغي عمله في اللحظة الحاسمة، والحال نفسه بالنسبة لكثير من الرموز الوطنية اليمنية. فمقتضى ما يمليه الواقع السياسي هو ما ذهب إليه الرئيس بالقول:
( كانت جميع الآراء مشيرة غلة أهمية وضرورة وجود ميثاق وطني يمثل نواة الوحدة الكريمة ويتضمن الأفكار التي يلتقي حولها جميع أبناء الشعب اليمني بما يكفل إيجاد حصانة فكرية للمواطنين حتى لا يكون نهباً للتيارات الفكرية، والارتهان السياسي، ولكي لا تكون الوحدة الوطنية معرضة للاستلاب والتشقق، وحماية الثورة من الجيوب ا لخفية التي تحاول أن تقتنص إرادتها وأن تحتويها، وبما يكفل فعلاً ملء الفراغ السياسي..).

ونلفت الانتباه بهذا الصدد إلى أن الرموز الوطنية اليمنية التي أسهمت في كتابة أفكار الميثاق الوطني، ثم الذين تشكلت منهم اللبنة الأولى للمؤتمر الشعبي لعام هم في غالبيتهم العظمى- إن لم نقل جميعهم- من ثوار السادس والعشرين من سبتمبر، وممن أسهم في الدفاع عن الثورة، وحمايتها من الانتكاس، أو الفشل في مراحل مختلفة من تاريخها.
إن هذا يؤكد أن المؤتمر الشعبي العام لم يكن إلاّ جزء أصلي في الحركة الثورية اليمنية، ويصبح من الخطأ الكبير الزعم بأن المؤتمر كيان منفصل عن الوجود الثوري، أو مقلد للتجربة السبتمبرية. فواقع حال المؤتمر الشعبي العام يقول أنه بمثابة الديناميكية الصحية التي كان ينبغي أن تنتقل إليها الثورة اليمنية بعد الإعلان عن قيامها مباشرة ، مع أننا مازلنا مقنعين بأن لتلك الفترة خصوصية لا تسمح بمشاريع مماثلة لتلك التي على شاكلة المؤتمر الشعبي العام.
وكما ذكرنا من قبل بشأن المفهوم الحقيقي للثورة، بأنه رديف حقيقي للتغيير، والتحول الكامل، نجد أن ذلك المفهوم لم ينل حظاً كبيراً من الأثر الملموس على أرضية الواقع اليمني؛
فالثورة السبتمبرية نجحت في التحول من الملكية إلى الجمهورية، وفي أن تكون قاعدة قدح شرارة ثورة 14 أكتوبر 1963م في ردفان، ثم العمق الوطني لحركة النضال والتحرر من الاستعمار البريطاني وإعلان الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م.
لكنها تعثرت عن المضي بمسيرتها بعد هذا الحد، ولم تستكمل حتى الشطر الآخر من الهدف الأول الذي كان ينص على: ( التحرر من الاستبداد والاستعمار، ومخلفاتهما وإقامة حكم جمهوري عادل، وإزالة الفوارق، والامتيازات بين الطبقات).
وبالتالي فإن أهمية وحساسية الجدل القائم في بعض الأوساط السياسية اليمنية حول مدى ارتباط المؤتمر الشعبي العام بأهداف الثورة اليمنية، وحجم ما تتبناه برامج عمله السياسي منها، يصبح من الضروري الحديث عن ذلك في إطار استعراضنا لأهداف الثورة، والسعي لتقييم تراجمها الواقعية بشيء من الموضوعية والصراحة من خلال ما يلي :

* الهدف الأول:( التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما، وإقامة حكم عادل، وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات).
يبدو أنه الهدف الأكثر إلحاحاً في أولويات الحركة الثورية التي انتصرت فيه لتدخل العهد الجمهوري عام 1962م في الشطر الشمالي، وعام 1967م في الشطر الجنوبي.. لكن على الرغم من كل ذلك ظلت الثورة بحاجة إلى المزيد من الوقت للمضي بخطوات عملية جادة بشأن تحقيق العدالة التي ترتبط إلى حد كبير بالبنى المؤسسية للدولة، الكفيلة بإيجاد نظم تشريعية متطورة، وأدوات مؤهلة على قدر رفيع من الخبرة الأكاديمية والمهنية ، فضلاً عن ارتباط الأمر بالجهد الحكومي في إصلاح القضاء، ومنحه الاستقلالية التامة، وتحييده من أي تأثير سياسي، أو فئوي. كما أن العدالة ذات علاقة وطيدة بالأسس الفكرية التي يستمد الدستور منها تشريعاته وقوانينه .
لكن الملاحظ أن ما ذكرناه لم يتحقق بأي قدر ملموس في الساحة اليمنية، وربما تطلب ذلك من المؤتمر الشعبي العام سنوات طويلة من العمل المضني في هذا الاتجاه في سبيل تهيئة المؤسسات القادرة على إرساء صيغ متينة للعدالة في المجتمع اليمني-سواء فيما يتعلق بالقضاء أو منظمات ودوائر حقوق الإنسان ، أو النظم الديمقراطية ذات الصلة بفرص المشاركة السياسية في الحكم .
ومن المفيد الإشارة إلى أن الامتيازات والفوارق الطبقية غالباً ما تكون خلاصة فراغ دستوري ومؤسسي في الدولة، وخلل في توازنات القرار السياسي للسلطة، لهذا نجد أن تلك الامتيازات والفوارق الطبقية ما لبثت أن أخذت طريقها إلى الانصهار والتلاشي تدريجياً بعد زمن قصير جداً من تسلم الرئيس علي عبد الله صالح مقاليد حكم اليمن ، الذي ما لبث أن أوجد تنظيم المؤتمر الشعبي العام ليحتوي داخل أطره ما أشرنا إليه من فراغ سياسي ودستوري، وليحوله إلى أداة جماهيرية واسعة لتذويب تلك الفوارق وإلغاء الامتيازات.
ولم يكن ذلك بمنأى عما أوجده الميثاق الوطني من فكر بهذا الاتجاه، إذ أن الحقيقة الخامسة منه تنص على : ( أن مجتمعنا اليمني، كان ولا يزال يؤكد رفضه لأشكال الاستغلال والظلم مهما كانت أصولها ومصدرها،ويؤكد في الوقت ذاته حرصه على الاستقرار والأمن والإيمان).
وبكل صراحة نقول أن كل ما اجتهد به المؤتمر خلال مسيرة عمله الوطني لإيجاد الضمانات المناسبة لبلوغ أكبر قدر من العدالة لا يمكن أن يعني أنه بلغ المنتهى والمثالية الكاملة، فمازال هناك الكثير مما يجب أن يعمله بهذا الصدد.. لكن الذي يهمنا هو أنه كان جاداً في ذلك إلى حد كبير، وأنه مازال عاملاً باجتهاد في تهيئة المزيد من فرص العدالة والمساواة، وتطوير ، وإصلاح كل ذي علاقة بها.. وهو أمر لم يسبق الالتفات إليه بوعي ومسئولية في العهود السابقة.

* الهدف الثاني: ( بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها)
مع أن الجيش اليمني أثبت قدرات فائقة في التصدي لأعداء الثورة ، وبذل التضحيات الجسيمة لحمايتها على امتداد عهدها إلاّ أنه طوال ذلك الوقت كان محط كثير من القرارات اللامسئولة والإقصاءات للقيادات العسكرية ، دونما النظر لما يمكن أن يترتب عن ذلك من أثر سلبي على استراتيجية بناء القوات المسلحة .
كما أن الظرف السياسي المضطرب أحال دون انتعاش الاقتصاد الوطني أو أي تحسن بالمدخول القومي، وبالتالي فإن الحال ذاته ألمّ بالمؤسسة العسكرية، إذ لم تشهد أي تحديث نوعي، وظلت إمكانياتها المادية محدودة، ومتخلفة، ومناهجها الأكاديمية متأخرة .
ولو قارنا وضع هذه المؤسسة في فترة الستينات والسبعينات مع ما آلت إليه في الثمانينات لاكتشفنا حجم اتساع الفارق بينهما. إذ تم استحداث الكثير من المنشآت العسكرية والدوائر الأمنية، فضلاً عن المعاهد والمدارس الفنية والتطويرية للمهارات العسكرية، والأمنية، وتم إدخال التقنيات العملية الحديثة في التعليم أو التدريب والتأهيل، وأمسى العمل -باتجاه ما يلبي غايات الهدف السبتمبري الثاني -يسير على وتيرة متسارعة ، ومواكبة لدوران عجلة التنمية الوطنية الشاملة التي شقت طريقها على مسار واحد مع المؤتمر الشعبي العام على نحو مثير للإعجاب والتقدير إلى أبعد حدود .

* الهدف الثالث: ( رفع مستوى الشعب اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً).
لا شك أن حالة عدم الاستقرار، وما صاحبتها من متغيرات سياسية مفاجئة ألحقت الشلل بجميع مجالات الحياة، وعطلت جميع المشاريع الطموحة التي حملها الثوار الأحرار لوطنهم وشعبهم عشية السادس والعشرين من سبتمبر، لكن بدلاً من وضع أيدينا على واقع مختلف كثيراً عما كان عليه في العهد الملكي، وجدنا أن أحلام الجماهير كانت تتسلل ببطء شديد إلى حدقاتهم، وحتى ما تم إنجازه من مشاريع اقتصادية واجتماعية وثقافية لم تكن بمستوى ما كان مأمولاً أن تأتي به الثورة .
وبانبثاق المؤتمر الشعبي العام أصبح الأمر مختلفاً تماماًُ، فالاستقرار النسبي الذي هيأت مناخاته الصياغة الميثاقية ، برصها لصفوف القوى السياسية الوطنية المختلفة، وجمعها على محور فكري متين وواضح، وأساليب عمل مدروسة بعناية، كلها ساهمت في إحداث ثورة تنموية شاملة، تضاعفت فاعليتها بتوسيع عضوية المؤتمر الشعبي العام وامتداد الحركة الوطنية إلى أقاصي ربوع الوطن ، مما تبلور عن ذلك ولادة ممارسات تعاونية شعبية لم تكن معروفة من قبل – صبّت الجهد العام في صالح الغايات المنشودة بالهدف الثالث للثورة. علاوة على أن قيام الجمعيات والاتحادات والنقابات أضفى على الجهد الجماهيري صبغة برامجية منظمة ، وموصوفة بالوعي والنضوج .
وحتماً – ما كان ذلك ليحدث لولا توفر أسباب الاستقرار، فضلاً عن الرؤى المؤتمرية الثاقبة التي ربطت بين مسارات العمل التنموي وبين مسار العمل من أجل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية .
وهو أمر ألهب حماس جميع القوى الوطنية لبذل كل ما يمكن في سبيل التأسيس لنهضة يمنية حقيقية واعدة . وها نحن اليوم نقطف ثمار ما بذر المؤتمر لحظة ولادته، وربما نقف عاجزين عن إحصاء أو استذكار كل ما تم تحقيقه على الصعيد الاقتصادي، أو ما تحولت إليه الدولة اليمنية من نهوض اجتماعي وثقافي وسياسي .
فاليمن لم تعد تلك البلد المجهولة التي يدرج الأوروبيون الحديث عنها في عداد ما يكتبوه من أساطير العالم القديم، بل إنها تبوأت منازلاً رفيعة على مختلف المجالات، وباتت إحدى الحلقات السياسية العربية المهمة التي يضعها العالم في فلك حسابات استراتيجياته الدولية للمنطقة الشرق – أوسطية، وفقاً للأدوار التي تلعبها فيها ، والمواقف التي تتخذها من القضايا المصيرية للأمة والعالم – على حد سواء .

* الهدف الرابع: ( إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل مستمد أنظمته من روح الإسلام الحنيف).
بمجرد العودة إلى الدستور القائم الذي تم إصداره عام 1970م تتجلى لنا حقيقة الموقف من الديمقراطية، كون المادة (37) منه كانت تحرم الحزبية. ومن جراء ما كان سائداً من رؤى للعمل السياسي وقعت الثورة ضحية الفراغ الدستوري والسياسي الذي زج القوى الوطنية في ظرف جامد يحول دون تطوير مشاريعها وبناء هياكلها التنظيمية، وتشذيب مهارات كوادرها . الأمر الذي يسمح لأيديولوجيات غريبة عن إرث اليمن الثقافي والفكري باختراق الساحة الجماهيرية، وخلخلة اتساقاتها الطبيعية، وتشكيل خطر كبير على مستقبل الثورة .
إلاّ أنه، وفي أوج صخب الأزمة الثورية جاء التفكير بصياغة (الميثاق الوطني) كخطوة عظيمة لفتح ساحة العمل الوطني أمام ترجمة عملية للهدف الثوري الرابع .
خاصة وأن الحقيقة الرابعة منه جاءت مؤكدة على ما نصه: (إن مجتمعنا اليمني بدون الديمقراطية والعدالة الاجتماعية غير قادر على تحقيق وحدته، وغير قادر على استغلال ثروته المادية والبشرية وإحداث التطور والتقدم والحفاظ على السيادة الوطنية).
حيث إنه عرض وسائل التحول في إطار ما يمكن أن يشكل مفردات الهوية الإسلامية لفكر ونظم حكم الدولة اليمنية، ثم ذهب إلى جعل المؤتمر الشعبي العام نواة الهدف الديمقراطي الأكبر، التي من خلال احتضانها للتعددية السياسية تسعى لإنماء التجربة مرحلياً وتطوير كوادرها وممارساتها إلى الأنموذج الكفيل بإطلاق عنانها للعبور صوب التعددية الحزبية .
وبكل تأكيد - إن الخصوصية بصيغها الماثلة أمامنا اليوم لا يمكن إلاّ أن تكون صناعة مؤتمرية خالصة، وجريئة في الوقت ذاته، لأنها تتجاوز الأنانية والاحتكار السلطوي لتجعل من المؤتمر ليس أكثر من طرف واحد بين أطراف عدة تتجاذب المنافسة الديمقراطية على السلطة، رغم كون المؤتمر صاحب الفضل الأول في كل ما تحقق من إنجازات .

* الهدف الخامس: ( العمل على تحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة).
من واقع ما كان سائداً في مرحلة ما بعد الثورة رأينا أن القوى الوطنية اليمنية أخذت بالتشتت إلى فصائل وفرق متأخرة عجزت عن بلوغ أية صيغة مناسبة للاجتماع معاً، وتوحيد الصف والجهد- لكن بفضل الفلسفة الفكرية للرئيس علي عبد الله صالح -التي استدرك بها المرحلة، واستوعب ظروفها- كان تجميع القوى الوطنية على المنهج الفكري الميثاقي هو الأساس الذي نشأت على أرضيته ديناميكية العمل من أجل الوحدة .
إذ هيأ ذلك مناخاً من الاستقرار الداخلي، وعزز من الثقة بالمؤتمر الشعبي العام كوسيلة واضحة وذات غايات نبيلة يمكن لقيادة الشطر الجنوبي – سابقاً- الالتقاء معها على خط عمل مشترك يمهد لإعادة تحقيق الوحدة اليمنية .
أن أمراً كهذا جاء متداخلاً بجدلية ربط ، تلافي بها عناصر مختلفة أفصح عنها الميثاق الوطني في مضامين ما نصت عليه أولى حقائقه، القائلة : ( إن شعبنا لم يصنع حضارته القديمة إلاّ في ظل الاستقرار والأمن والسلام )، ولا نظن تلك الفلسفة الفكري إلا أن لخصت أهداف ثورة "26 سبتمبر"، وأضفت عليها بعداً تساهمياً يؤلف بين ضروراتها بمنطق تكافلي يضعها جميعاً على مستوى واحد من الأهمية والحاجة للجهد الوطني .
وبلا شك أن الشفافية والوضوح والمرونة التي سلكها المؤتمر الشعبي العام في حواراته ومفاوضاته من أجل الوحدة كان لها دوراً عظيماً في بلوغ المنجز الوحدوي – إلى جانب هذا فإن إيمان المؤتمر بالديمقراطية، والاستعداد المبكر للتعددية جعلت من العبور إلى الوحدة اليمنية بصيغ الشراكة والتقاسم أمراً مقبولاً عند قيادة المؤتمر الشعبي العام ما دام ذلك يمثل الصيغة المناسبة لإعادة الأمجاد اليمنية ، وحماية الهوية التاريخية والحضارية للوطن اليمني وشعبه.

*الهدف السادس: ( احترام مواثيق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والتمسك بمبدأ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، والعمل على إقرار السلام العالمي وتدعيم مبدأ التعايش السلمي بين الأمم).
عملت الثورة السبتمبرية بمناهج ما يمليه هذا الهدف من مفردات منذ الأيام الأولى لانبثاقها. فالثوار انطلقوا في حركتهم الوطنية من واقع الحقوق الإنسانية المشروعة المكفولة للشعوب في مواثيق الأمم المتحدة ،كما كان حرص الضباط الأحرار كبيراً على إسناد ثورتهم باعتراف دولي يكون مظلة المسار الجمهوري الجديد في العالم الخارجي .
ولما كانت الثورة تحمل همومها الداخلية الخاصة، وتتطلع إلى خلق ظرف مستقر وآمن يتيح لها التفرغ لمعالجة مواريث الماضي وصنع غد الجماهير، لذا آثر مناضلوها الوقوف على الحياد مما كان يدور من صراع بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي، وعدم الانحياز لأي طرف منهما خشية الوقوف في محظور اللعبة الدولية .
كما بدا واضحاً أن الثورة السبتمبرية كانت تجنح إلى السلام في مختلف مراحلها، إذ تعددت مبادرات إصلاح ذات البين مع الملكيين ، وإخماد نيران الحروب التي كانت دائرة طوال الستينات، وبفضل صدق النوايا انتهى الأمر إلى المصالحة الوطنية بين الطرفين في عهد القاضي عبد الرحمن الإرياني. ولعل هذا اللون من التوجه السلمي سلك طريقه أيضاً إلى الخلافات والحروب التي كانت تنشب على مناطق أطراف الشطرين وجيرانها أو دول إقليمها، وظلت على الدوام في مقدمة الداعين إلى الحوار الإيجابي والتعايش السلمي بين الشعوب والأمم.
إلاّ أن حكمة الرئيس علي عبد الله صالح نقلت الصناعة السلمية إلى فلسفة أكثر وضوحاً وفصاحة بعد أن تبوأت صدارة الحقائق الفكرية للميثاق الوطني، التي استهلها بالنص: (إن شعبنا لم يصنع حضارته القديمة إلاّ في ظل الاستقرار، والأمن والسلام..).
إذ كانت صيغ الفكر الميثاقي، وأدبيات العمل السياسي للمؤتمر العام يقدمان السلام والاستقرار كشرط أساسي لأي عمل وطني حقيقي، ولأي جهد تنموي أو وحدوي، وهما قاعدة صلبة يؤسسها الحوار الإيجابي والشفافية في العمل السياسي لتجاوز الأزمات الإقليمية والدولية بالقدر الذي يحمي السلام العالمي، وينمي علاقات الشعوب والأمم .. الأمر الذي سيعود على البشرية جمعاء بالخير الوفير.
ومن تلك المنطلقات كان المؤتمر الشعبي العام كلمة اليمن للمرور من بوابة الانفتاح الخارجي ومشابكة المصالح مع العالم، وحل الخلافات الحدودية، ونزع فتيل الأزمة مع إرتريا بشأن "أرخبيل حنيش" فضلاً عن أدواره التاريخية في مقتبل تجربته بإخماد الفتن والحروب بين الشطرين، وفي الموقف الحكيم من أحداث عام 1986م على ساحة الشطر الجنوبي.
وقد حمل المؤتمر الشعبي العام هذا النهج السلمي إلى خارج حدوده القطرية، إذ تبنى مبادرات إحلال السلام بين الفصائل الصومالية، كما سعى إلى إبرام العديد من الاتفاقيات، وتوسيع شبكة المصالح مع دول البحر الأحمر والقرن الأفريقي بهدف توثيق العلاقات، وترسيخ الاستقرار في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
علاوة على أن المؤتمر على امتداد مسيرته الوطنية بلور مواقفاً واضحة وشجاعة إزاء قضايا الأمة المصيرية ومسيرة السلام في الشرق الأوسط، والتواجد الأجنبي في المنطقة وكل ذو صلة بأمن واستقرار الإقليم والعالم على حد سواء.. وهو الأمر الذي جعله شريكاً في الحرب على الإرهاب الذي بات خطراً هائلاً يهدد البشرية في كل مكان من العالم .
إذن فالمؤتمر الشعبي العام مثل امتداداً طبيعياً للمنهج السلمي للثورة السبتمبرية، بل أنه أيضا لم يكتف بالصيغ التي ترجمها الثوار بقدر ما ذهب إلى تفعيلها على نحو أكثر تطوراً وجرأة،وصار المبادر إليها وليس المقلد لغيره، مما ترتب على ثوابت تلك السياسة انتقاله نوعية للدولة اليمنية لدرجة أن وصفها البعض بأنها (القطب الرائد لأمن وسلام الجزيرة العربية والقرن الأفريقي).


خلاصـــة :
من خلال عرضنا السابق لأهداف ثورة 26 سبتمبر 1962م وطبيعة ما آلت إليه لاحقاً بدت تجربة المؤتمر الشعبي العام بمثابة الديناميكية الحقيقية التي انتقلت بها الثورة من مدلولها التنظيري إلى واقعها التطبيقي المعاش. فالمؤتمر استلهم أسباب وجوده، وصيغ عمله، ومحاور تحولاته المرحلية من الأفق المعرفي للأهداف السبتمبرية الستة.
في حين استمدت الثورة أكسيد الوجود الحي، ومقومات التفاعل الإيجابي وعوامل التواصل التاريخي من المؤتمر الشعبي العام، وقدراته الفائقة على استيعاب معطيات عصره وانتقاء أدواتها المناسبة الكفيلة بالحفاظ على قدر جيد من التوازن في آليات حركة العمل الوطني.
ومثل هذا التجاذب الجدلي يجعل من توصيف المؤتمر بالحركة الثورية أمراً مقبولاً الى حدٍ كبير من القناعة،حيث أن الثورة آلت إلى مسمى انتقالي للنظم السياسية الحاكمة في اليمن دونما أن يحقق مطلب التغيير الكامل للجوانب الحياتية للجماهير – التي هي غاية أي تحول سياسي للدولة، وموضع أي فعل ثوري تناضل على مساره القوى الوطنية.
وهو ما يدفعنا للقول إن المؤتمر لم يكن مجرد تنظيم عرضي طارئ على مسار الحركة الوطنية اليمنية، وإنما كان الوجدان الثوري النابض على أرض الواقع اليمني، أو بمعنى آخر – كان المؤتمر الطاقة الكامنة لحركة العمل الثوري التي بمجرد أن أزاحت الثورة النظام الملكي انتقلت المهمة إليها – ولو بعد حين- ليكون الأمر كله معلقاً على عاتق المؤتمر الشعبي العام.
فالحقيقة الماثلة أمامنا هو أن المؤتمر الشعبي العام أول من تبنى وضع مناهج عملية وموضوعية للتحول الثوري للدولة اليمنية ، وهو من أخد بأيدي جميع القوى الأخرى للتفاعل مع الواقع الجديد ، والتنامي معه ، والتطور إلى ما يستدعيه من صيغ مسئولة وناضجة . وربما لو تأملنا بإعادة تحقيق الوحدة اليمنية ثم الديمقراطية في إطارها التعددي ، وحاولنا جر قياس ذلك إلى حجم تأثر هذين المنجزين فقط على مسيرة الدولة اليمنية وحياة الشعب اليمني لأدركنا حقاً مستوى ثورية المؤتمر ، وقوة خياره السياسي على التغيير والتحول.
لكن هذا لا يعني بالضرورة أن المؤتمر الشعبي العام لبّى كل غايات أهداف ثورة 26 سبتمبر تماماً ، وتجاوزها إلى أخرى . فتلك الأهداف لا تقف عند حدود معينة – كما هو الشأن في التحرر والاستقلال أو الهدف الوحدوي- لأنها تعد من البديهيات المعروفة النهايات الأخيرة ..

في حين تبقى الأهداف التنموية والتحديثية للبنى المؤسسية للدولة مفتوحة على تطلعات لا آخر لها، وتتزايد كما تزايد الحاجات الإنسانية للفرد واختلاف نظرة كل جيل عن سابقه .
وعليه لن يكون من السهل على المؤتمريين التأمل في بلوغ حلقات الهدف الأخير في برامج عملهم الثوري ، بل على العكس من ذلك تماماً ، حيث أن الاعتراف الشعبي بجسامة ما تحمّله المؤتمر من مسئوليات وطنية وضعه في الواجهة أمام جماهيره لتحميله مسئولية أي إرجاء ، أو تأخير في تلبية الحاجات المستحدثة على الصعيد المستقبلي..
ولا شك أن المفهوم الذي تترجمه القوى السياسية اليمنية المختلفة في وقتنا الحاضر من تلازم في الحديث بين المؤتمر والثورة ، والتعرض لهما كما لو كانا كياناً تنظيمياً واحداً لهو التأكيد القوي على قيادة المؤتمر لحركة العمل الثوري في اليمن ، وعلى كونهما ينطلقان من خندق فكري وحضاري واحد .

* كاتب وباحث من العراق




أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر