بقلم : د. ابتهاج الكمال -
المؤتمر طريق آمن نحو الوحدة
لم يكن متاحاً أمام القوى السياسية الوطنية في اليمن التطلع إلى الوحدة العربية في ظل الظرف المجزء الذي كان يجثم على ساحتها ويشطرها إلى كيانين منفصلين.. ولم يكن ممكنا أيضا السعي لتوحيد الشطرين وما زالت في كل كيان منهما قوى وفصائل وطنية تتجاذب أطراف الصراع فيما بينها البين وتدور في دوامة لا حدود لها من التناقضات والنفور والخلافات البينية.
لا شك أن صياغة "الميثاق الوطني" وتأسيس المؤتمر الشعبي العام في تلك الفترة شكلا إطاراً أولياً للبناء اليمن الموحد، عبر الوحدة الوطنية الناشئة منهما.. وكان من المفترض أن تكون الوحدة اليمنية (بين الشطرين) هي الخطوة التالية لولا أن الأدبيات السياسية للمؤتمر الشعبي العام تتريث عند هذا الموضع، وتحمِّل المؤتمر مسئولية تهيئة مناخات الساحة السياسية العامة، وتأهيل الوضع في الشطر الشمالي لاستيعاب متطلبات الوحدة بالعمل على فتح قنوات الحوار الإيجابي، وإذابة الجليد المتراكم على العلاقات بين نظامي الشطرين، ومن ثم إبرام الاتفاقيات، وإقامة المشاريع المشتركة وإنما صيغ التعاون والتبادل الثنائي، وإزالة الكثير من المعوقات بمختلف أشكالها من طريق خطوط العمل السياسي الوحدوي ليكون ذلك كله عاملاً معززاً للثقة والمصداقية بين الشطرين، ومرسخا لقيم جديدة تكفل أسباب النجاح لبناء اللبنة التالية من الوحدة.
وعليه اضطلع المؤتمر الشعبي العام بمهام شاقة كان يؤسس خلالها لهدفه الوطني الأسمى وهو إعادة تحقيق الوحدة اليمنية بين شمال الوطن وجنوبه.. فلم يتوقف المؤتمر الشعبي العام عند مسألة إشهار قيامه والإعلان عن أدبياته الميثاقية، ورفع الشعارات الوطنية البراقة التي تستهوي قلوب الكادحين فتخرج للهتاف باسم السلطة- على غرار ما كان شائعاً من تقليد عند أنظمة الكثير من البلدان- بل أن المؤتمر باشر بعد الانتهاء من إعلان تأسيسه بوضع الخطط والبرامج اللازمة للقفز بمشاريع التنمية الوطنية إلى أفق عريض جداً من النهوض والتطور والبناء المتواصل الذي شمل مختلف قطاعات الحياة.. وصار أيضاً يعمل على رفع الوعي الثقافي والتعليمي للمجتمع ويعمق فكره السياسي الوطني بين الأوساط الشعبية، ويستنهض فيها همم العمل المخلص والبذل المضاعف في سبيل التسريع في خطوات التنمية والتقدم.
ومن جهة أخرى، كانت رؤيا المؤتمر الشعبي العام للبناء الوحدوي تقتضي أيضاً تأهيل الممارسة الديمقراطية، وإقامة مؤسساتها الدستورية التي تكفل تطوير تجارب العمل السياسي وصناعة كوادر وطنية على قدر جيد من الإدراك بمسؤولياتها الوطنية، والمشاركة في اتخاذ القرار السياسي للدولة.. وهو الواقع الذي عاشته الساحة الجماهيرية بعد تأسيس المؤتمر سواء من خلال توسيع العضوية في المؤتمر الشعبي العام، أو انتخابات المجالس المحلية عام 1985م، وانتخابات مجلس الشورى عام 1988م، وإنشاء المجلس الاستشاري عام 1989م وغيرها من الممارسات الديمقراطية التي يرى فيها المؤتمر حاجة ماسة لتقويم البناء السياسي للدولة، وكذلك للتحول نحو صيغة اليمن الواحد الذي ما لبث أن حانت ساعته المناسبة وظرفه الصحي وبات حقاً على الجميع قطف ثمار الجهد المضني في الثاني والعشرين من مايو عام 1990م بإعلان قيام الجمهورية اليمنية.
وفي الحقيقة كان الانتقال من وحدة الصف الوطني إلى وحدة الشطرين يعني أنه أصبح من حق اليمنيين التطلع إلى مشروع الوحدة العربية وهم يضعون أقدامهم على قاعدة متينة تسمح لهم بالتحرك على نحو أرحب وأقوى ثقة بالنفس على الإنجاز والانتصار.
إلا أن مثل ذلك الطموح المشروع سرعان ما يصطدم بعدد من المفردات السياسية المعقدة والصعبة التي تتضمنها الفلسفة الفكرية للمؤتمر الشعبي العام في آليات البناء الوحدوي القومي. فأدبيات المؤتمر السياسية تحدد العمل من أجل الوحدة العربية بمجموعة من الضوابط وفقاً لمنهج التدرج في البناء المرحلي التي هي من أقوى السمات المميزة لأسلوب عمل المؤتمر الشعبي العام.. فهو يرى أن العمل من أجل الوحدة العربية يبدأ بالبناء الديمقراطي الصادق في كل بلد من بلدان المنظومة العربية باعتبار الديمقراطية هي الصيغة الأكثر ضماناً للشعوب في إيصال رموزها الوطنية المخلصة والواعية إلى دفة السلطة، وبالتالي فإن ذلك يعني ضمان السعي الجاد والنية الصادقة للنظام السياسي لهذه الدولة من أجل هدف الوحدة العربية،وعدم انحراف سياساته باتجاه ما قد يسبب اختراقاً للاستراتيجيات القومية العربية، أو يزيد من هوة الفرقة والتجزئة.
إن استكمال مهمة البناء الديمقراطي للدولة سيقود إلى إمكانية التحول نحو الخطوة الأخرى – وفقاً لفلسفة المؤتمر- وهي إحداث نهضة وطنية وتنمية شاملة في الاقتصاد والثقافة والأمن والبنى التحتية وغيرها ليكون ذلك مصدر قوة الدولة وأحد أسباب حماية سيادتها الوطنية واستقلالها الذي قد يتعرضا للتهديد الدائم فيما لو داومت على البقاء في ظرفها التبعي المحكوم بالرساميل الخارجية للدول المتقدمة.
ولعل تحرير الاقتصاد وبناء القوة الاقتصادية للدولة سيهيأ لنظامها السياسي فرصاً وفيرة لمد جسور علاقات تعاون ومصالح مشتركة مع جيرانها من البلدان العربية الواقعة ضمن أقليمها الجغرافي.. وبلا شك أن تشابك المصالح وتوثيق صيغ التعاون وما سيرافق ذلك من نوايا صادقة سيكون مرتكزاً لإقامة تكتلات نوعية ثنائية أو ثلاثية أو رباعية.. الخ، تعزز قوة المنطقة العربية اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، وتضاعف من مكانتها الدولية، وتتحول إلى نفوذ مؤثر في صناعة توجهات السياسة الدولية.
وعليه فإن الوصول إلى البلورة العملية للتكتلات العربية النوعية لا بد أن يتحول لاحقاً إلى مشروع في مراحله النهائية للتكامل العربي ووحدة الأمة العربية.
إذن تلك هي تصورات المؤتمر الشعبي العام للطريق إلى البناء الوحدوي الوطني والقومي.. وهي بطبيعة الحال تصورات منطقية للغاية- وإن كانت تبدو مستحيلة في وضعنا العربي الراهن- لكنها في آخر الأمر يمكن عدها من أنضج مشاريع العمل الوحدوي في الوقت الحاضر.