المؤتمر نت- هشام سعيد شمسان -
أدب الصيام بين الغياب النصي، والتأزم الروحي
من التساؤلات المُلحَّة التي تنتصب أمام المبدع والمثقف العربي المعاصر، وأكثرها حدَّة سؤال: لماذا يغيب الأدب والشعر خصوصاً في شهر الصيام، لا سيما أدب المائدة الرمضانية، وقد كان إلى زمن قريب ما يزال يأخذ حقه، ومكانته في مثل هذا الشهر الروحاني، الذي يُعدُّ أكثر الشهور، وأغناها حثّاً على الإبداع الروحي، لا سيَّما، وأن فيه يتصل الإنسان، بمكارم، وأفكار، تسمو عن حصار الغرائز، وسيطرة الشهوات، التي تحفل بها سائر الشهور:
- هل لانحسار المبدع ذاته من منطقة النفح الديني إلى منطقة الطواقيس الحداثية، التي تجعل من الأدب، والإبداع وسائل تجريدية للحياة، والواقع، ولا علاقة له بالأبعاد القيمية التي تؤطر الواقعيات الإنسانية بقيود اللزوميات الأيدلوجية؟
- أم أن الحالة تتعلق بوجدانية عامة، وصارت تتعالى على كل ما هو خاص، وديني بافتقادها إلى وسائل التسامي، وإمكانية التعبير، عن ذلك، تبعاً للنظرة الانحسارية والمتناكصة التي تتمادى، وتزداد كلما أقبل هذا الشهر، وهو الأمر الذي جعل كثيراً من الناس تنسلخ من الانسجام النفسي وأعني به اشتجار المناسبة الدينية بالوجدان، بحيث يضحى المرء متعلقاً بالطقس الإلهي الذي يوحيه الزمان، بمكانته، وعلوّربقته لدى الكائن.
وعندما يصل المرء إلى هذا الضبط الإيقاعي – أي الانسلاخ من الانسجام النفسي- تضحى المناسبة الدينية ليست أكثر من احتفاء إنساني من صنع الروتين والتاريخ، وعندها لا فرق لدى هذا الشخص بين عيد الفطر مثلاً، وعيد الأم، أو مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو"الكرسماس".
وكذلك قُل عن شهر رمضان؛ حيث يختصر الكثير هذا الشهر في ساعات معدودة من النهار، ثم يعود إلى لهوه ومجونه، أثناء الليل، ومن هؤلاء كثير من الأدباء، والمبدعين العرب، المسلمين الذين يحيا معظمهم حالةً من التأزم الروحي، والإنهزام الداخلي، بالرغم من أن الإبداع – كما يقول "يحيى الرخاوي" " هو الذي يحرر الشخصية من أزمتها الداخلية، أو من تناقضها الحاد الذي يبدو عصياً على التجاوز في الحالات العادية".
ومما يعبَّر عن بعض حالات الإنكسار، والإنهزام، والتأزم الديني التي يحيا فيها الشاعر العربي، ما يتجلى في كثير من قصائدهم حتى تلك التي قد تقال في شهر رمضان، وتدخل – مجازاً- في نطاق الإبداع، ومن ذلك قول الشاعر:
رمضان ولَّى هاتها يا ساقي
مشتاقةً تهفو إلى مشتاقِ
وهو تعبير عن مقاييس الخلل، والارتباك، التي تلقي على المدلول الديني للشهر الكريم، صورةً مهزوزة، ورمزية، مجردة من البصمة التقديسية، وكأنه إلصاق تراثي بالعقيدة، حاصلٌ من بناء تشكيل السَّقْط، الذي يغدو تقليداً، مؤسَّسّاً من العادة، والعرف لا سبيل فيه لوصف تجربة نفسية، لها انكشافها الديني، ولا يمكن –بالتالي- مقارنتها – مثلاً- بقول آخر:
إن أيامك الثلاثين تمضي
كلذيذ الأحلام للوسنانِ
كلما سرني قدومك أشجاني
نذير الفراق والهجرانِ
وستأتي بعد النوى ثم تأتي
يا ترى هل لنا لقاءٌ ثانِ (أحمد مخيمر).
إذ تبرز حالة الفرق بين الشاعرين، في أن الأول يجعل من تجربة الصيام مرادفاً للكبت، والحرمان، من المتع الحسية، التي كانت تحركه قبل الصوم، وتتحكم في غرائزه. وتشكيلات هذه التجاوزات، ظللت متحفزة طوال صومه، بحيث لم يستطع الصوم أن يعيد تركيب الطرح النفسي خلال الشهر كله، وهو ما دعا الشاعر لأن يقدم نفسه في شكل مادي، يعترف فيه بعدم الفاعلية والتفاعل بمعطيات القدسية الرمضانية بوجه خاص، ومعطيات التدين بوجه عام.
بينما تطرح الأبيات الأخرى مدلولاً بنائياً لإنسانٍ تماهى، جسداً، وشخصية في يوميات الصوم، فاندفع صوب جوهر المعنى، متوحداً، ومبذولاً فيه، بدليل أن الأيام الثلاثين تمضي مسرعة كلذيذ الأحلام.
لذا فالصوم – هنا- له فاعليته التي تفتح للشاعر أبعاداً من التجاذب، والاشتغالات المحكومة بـ(الفراق واللقاء)، و(الشجو، والسرور)،وهي عناصر تتعلق بتحولات نفسية، لها التقاطاتها الروحية، وإيحاءاتها الوظيفية المنعكسة على العمل، والانسجام الوجداني: قبل، وبعد الصيام.
ونحو هذا اللون من الأدب الرمضاني – الذي يعلو فيه الصوت النفسي – نحسب أنه في اندثار، وانقراض، نظراً لحالة الهيولى التي وصل إليها النص الحديث أولاً، ولاختلال العلاقة – ثانياً- بين مفهوم الإبداع، والدين، وما تمثله المناسبة الدينية- الإسلامية – ثالثاً- من فضاء يقع خارج الأثر الأدبي؛ بحيث يندرج كاتب الأدب الإسلامي -لدى بعض الإرتكاسيين- تحت مسمى "الأدب المتطرف" وهي مسائل تتعاضد، وتتنامى في المحيط الثقافي، والأدبي – الحداثي- وكلها تطرح موت الأدب الرمضاني، والمناسبات الدينية إلا ما كان تقريضاً لمنفعة، أو تكسب مادي.