المؤتمرنت -نبيل عبدالرب -
دَعـــوا المَســــاجد لله
في مشهد استغلال لتدين الناس واستنزاف لمكامن الخير في دخائلهم رأيت في مسجد الحارة ذات مرة شخصا –لا تبدو على هيئته أنه متسول – قام بعد الصلاة وقال أنه قبل اعتزامه السفر بزوجته المريضة من صنعاء خرج ليشتري قاتا فسرقت نقوده الوفيرة في السوق وهو لا يريد أكثر من إيجار السيارة للعودة بأهله إلى بلدته فرق الناس لحاله وجاد كل بما في جيبه وبعد أيام قليلة صادف أن نفس الشخص بهيئته يحكي ذات القصة في مسجد آخر .
مثل هذه القصة يكررها آخرون أفرادا وجماعات حتى غدت بيوت الله ساحة خصبة لضعفاء النفوس فهذا يجفف جيوب المصلين وذاك يعتلي المنبر محرضا على الكراهية بين المذاهب والألوان الدينية وفق منظوره هو لمفهوم الولاء والبراء وثالث يصيّر المسجد غرفة ثانية لأنشطته الحزبية .والمشكلة في كل هذا أن البعض يؤصل للاستغلال المنظم والممنهج للمساجد بالاعتماد على مقولة ما يمكن تسميته مجازا " الدولة المسجدية " التي يمثل المسجد قاعدة أساسية لأي من أنشطتها كما كانت في صدر الإسلام على عهد النبوة خصوصا .
دولة المسجد جزء من ميزة دينية وبنفس الوقت إشكالية ما انفك الفكر السياسي العربي الإسلامي يعيشها حتى اليوم تأتت من كون الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين القيادة الدينية والزعامة السياسية ورثها من بعده الخلفاء الراشدون ومن يليهم حتى أصبح الخليفة مسئولا في الفقه السياسي الإسلامي عن سياسة الدنيا وحراسة الدين، ولظروف نشأة الدولة العربية الإسلامية في عهد النبوة والخلفاء الراشدين تمتع المسجد في تلك اللحظة التاريخية بوضع القاعدة المادية لانطلاق رسالة متعددة الجوانب، دينية، ثقافية، سياسية فجمع بذلك البنية المادية والوظيفية لمؤسسات الدولة الإسلامية واستطاع في العصر النبوي الراشدي أن يحافظ على مكانتة الدينية ورسالته السياسية في إطار المصلحة العامة للدولة والمجتمع الإسلامي.
لكن توسع الدولة الإسلامية في العصور التالية ودخول أقوام جدد من غير العرب في الدين شعّب وظائف الدولة ماحدا برأس السلطة توزيع ما كان يؤديه المسجد في العصر الأول على مؤسسات أخرى انتقل معها الوضع من تماهي المسجد مع مركز قيادة الدولة إلى تابعية للسياسة ساهم فيه ضعف التدين داخل النفوس وتطور مع مرور الزمن إلى استغلال للمسجد كما الدين بصورة عامة استغلالا سياسيا خرج عن الصالح العام للمجتمع إلى توظيفه لخدمة مجموعات بعينها في مواجهة الأخرى، سواء من قبل السلطة أو الحركات المناوئة، وزاد الأمر سوءا في الوقت الحاضر ظهور حركات سياسية دينية أدخلت أنشطة ووظائف الدولة الحديثة ومؤسسات المجتمع المدني إلى المسجد الذي أصبح معها مسرحا لكل شيئ إلا الدين الذي يجمع ولا يفرق، يحبب ولا ينفر، يعلم ولا يجهل، يسمو بتفرعات الحياة نحو السماء ولا يلقي بها في غياهب التعاركات الأرضية، يرفع الإنسان نحو نفحته الروحية ولا يمرغه في أوحال طينيته.
إن إشعال المساجد بالمصالح الضيقة ينتزع منها مسحتها القدسية الدينية ولا يخدم دورها الاجتماعي فياهؤلاء " إن المساجد لله" فدعوها كما أراد الله لها أن تكون.