الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 12:07 ص
ابحث ابحث عن:
ثقافة
الخميس, 27-أكتوبر-2005
المؤتمر نت - مروان الغفوري - شاعر وناقد يمني المؤتمرنت - بقلم : مروان الغفوري -
ضد الملكيّة المشاعة للأداء الشعري
... منذ طرفة بن العبد ، و أبعَد ، و الشعراء يخشون الوقوع في حقل غيرهم الشعري ، سواءً حدث هذا الانزلاق عند مستوى البناء البكر للنص الشعري " اللفظة – الشرائح اللغوية " أو عند مستويات أعلى " البناء و التراكيب ، يدخل في هذا المستوى : الأسلوب و الأداء الشعري إجمالاً " .. وصولاً إلى الحقل المحيط بالنص الشعري ، و نعني به " المشار إليه ، أو الدلالة " . فالفكرة هي رأس مال الشاعر ، و لأجلها يسعى و يكد و يأرق و ليس أعنف ، آنئذٍ ، من أن يرثها عنه غيرُه .

و كذا العرب فقد جعلت من سرقة المشار إليه " المعنى " جريرة لا تغتفر ، كما لم يتسامح كبار النقّاد و الشعراء – قديماً - في المحاكاة و الدخول في جلباب الآخر ، فهذا ابن الحاجب يفضح البحتري – متّهماً إياه بسرقة حبيب بن أوس الطائي " أبي تمام" قائلاً :
كل بيتٍ له يجودُ معناهُ ... فمعناهُ لابن أوسٍ حبيب
الأمر الذي دفع جل الشعراء ، كباراً و صغاراً ، إلى محاولة التبرّؤ من هذه المثلبة و نفيها عنهم متى تسنّ لهم الأمر . و من هنا ، أيضاً ، يتوفّر لدينا فهمٌ ناجز عن قول طرفة بن العبد عن نفسه :
و لا أغيرُ على الأشعار أسرِقها .. عنها غنيتُ و شرّ الناس من سرقا ..

فكأنّ المخافة الأدبية التي نشرها الإمام عليّ بن أبي طالب في قوله " لولا أنّ الكلام يعاد لنفد " و تلك التي جسّدها " رهينُ المحبسين " في قوله " ما نرانا نقولُ إلا معاداً " كانت محاولة لفك شفرة التأزّم الشعري ، و تشابك الأداء الفنّي فيه ، و توطئة لمفهوم مصالحة مع واقع يحتمل الإغارات و الاستنساخ . و جعل بعضهم يقولُ عن البحتري : يغيرُ البحتري على أبي تمّام إغارةً و يأخذ منه صريحاً و إشارة .

و لأن الشعر ظل إلى ما قبل تحولات أدوات الإنتاج المدنيّة في مجتمع الدولة العربية المتّسع و المتنامي ، و منها أدوات الإنتاج الثقافية ، ديوان العرب – حسب توصيف ابن خلدون – فإن قضية السرقة الأدبية ( نقّلت اللفظة في درجات : الاختلاس ، التلفيق ، الاهتدام ، الاستلحاق ، الإدعاء ، الاصطراف ، الإغارة ، ... الغصب .) أخذت حقّها و أكثر من حقّها ، بل أصبح علم " السرقة الأدبية " فنّاً من الفنون له رجاله و ناسه ، كأبي عمرو بن العلاء ، و ابن الحاجب ،و الجرجاني ، و غيرهم ..و لم يكُن من اليسير أن يمر معنى شعري مستنسخ لشاعر على يد شاعر آخر دون أن يقبض عليه بطاركة النقد و الشعر . و في ثنايا هذا الهوجة ، لم تفلح معالجات شعراء و نقّاد حاولوا التهوين من القضيّة ، ربما عملاً بوصية سلفهم علي بن أبي طالب ، كالمتنبي القائل : الشعرُ جادّة ، و ربما وقع الحافرُ على الحافر . غير أن شاعراً كالمتنبي ما كان له أن يعتقد بمثل هذه العقيدة ما لم يكن في معرض رد على سائل يسأله عن تطابق " أسلوب " شاعرٍِ و شاعر آخر لم يسمعا من بعضيهما و لم يرَ أحدُهما صاحبه أو يجايله . كما أنّ المتنبي نفسه لم يُعلم عنه أن أحداً انتحل شعره و نسبه إليه . و أيضاً ، و إن حدث أن سرِق المتنبي ، فإن الذاكرة الجماعية حفظت أصوله الفنيّة و نبذت كل دخيل يقاويه ، أو يحاكيه ، أو يتماحك معه . و من هنا نفهم سر مهادنته في هذا الشأن . كما كان الحال مع شعراء آخرين كبشار بن برد الذي خرج في الناس صارخاً و لاعناً و هو يقول : ابن الزانية دعبل الخزاعي ذهب ببيتي . ذلك أن بشاراً قال :
من راقب الناس لم يظفر بحاجته .. و فاز بالطيّبات القاتلُ اللهجُ ..
فقال دعبل ، من بعده :
من راقب الناس مات غمّاً .. و فاز باللذة الجسور ُ .

و قد كانت العربُ ، و هم لا يفتأون بكونُ الشعرُ " علمهم الذي لا علم عندهم أعلمَ منه ( عن عمر بن الخطّاب ) ، يقولون : يسير شاعرٌ على خطى شاعرٍ فيكون أشبه به من التمرة بالتمرة ، و أقرب إليه من الماء إلى الماء ، و ليس بينهما إلا كما بين الليلة و الليلة . فإذا ما اختلف الشاعران أداءً و أسلوباً يقولون : بينهما كما بين نون و باقي النجوم .( راجع السرقات الأدبية .. د .بدوي طبانة )

و يبدو ، و الحال كذلك ، أنّ الشعر ليس بإمكانه أن يغدو ملكاً مشاعاً ضمن " الكلأ و المرعى و النار " كما عند ماركس ، و لا ضمن " النساء و البنين و الأرض " كما عند المزدكيّة . فأبو تمام ، الذي ضاق ذرعاً بسارقيه ، وقف أخيراً أمام الناس يفضح " محمد بن يزيد الأموي " و هو يقول :
يا عذارى الأشعار صرتن من بعدي ... سبايا تبعن في الأعرابِ ..

و هو ما يعد انقلاباً مبكّراً على نظرية " موت المؤلف " و " الكاتب الحقيقي للنص " . فعلاقة النص بصاحبه علاقة ولادة و بنوّة ، و تلازم أبدي ، سواءً وجد القارئ أم لم يوجد . هو أعلى من الانتماء ، و أقدس من العبوديّة . و هنا يمكننا أن نتفهّّم تماماً ما يذكره مؤرّخٌ و ناقد كابن رشيق في " العمدة" : كانت القبائل تهنّئ بعضها إذا نبغ فيهم شاعرٌ ، أو أنجبت لهم فرس ، أو ولد لهم مولود . فهي علاقة " ميلاد " و أبوّة على المستوى الجماعي و على المستوى الشخصي ، و ميراث كبير بين الشعر و صاحبه و بين الشاعر و الكون و بين الشاعر و النبوّة . هو ذلك الميراث الذي جعل الأثينين يكتبون قصيدة " الأوليمبيّة السابعة " لشاعرهم العظيم " بندار " بماء الذهب على جدران معبدهم المقدّس . كذلك فعلت الأعاريب من بعدهم في " المعلّقات" ، حين رفعها الأعيان و السادة إلى جدران الكعبة ، و حفظها الملوك و الذوات في " خزائنهم " .. لأن الشاعر يخلد في نصّه ، و لا ينبغي أن ينهب . و قديماً قال سذّج العرب : يغار الشعراء على بنات الأفكار كما يغارون على البنات الأبكار .

... أين يقع الانتحال الأدبي ، أو دعنا نكُن أصدقاءًا أكثر :
أين يكون الاحتذاء الأدبي ؟

- يكون عند المستويات الإبداعية المتدرّجة للنص الشعري .
1- اللغة ، كأدوات أولية ، و مشغل مليء بالخرز و الإبر و الخيوط المتباينة و أقمشة جاهزة أو مجهّزة .
2- مستوى التركيب .. و يدخل فيه " الأسلوب ، بتكنيكاته المختلفة ، خانة الاستدلال ، حقول التعاطي الفنّي ، تقنيّة تشكيل الصورة ، العبارة و الجملة نفسها، الشكل الشعري فيما يخص الابتكار الفردي فيه ، تقنيّة الارتقاء بالنص إلى مستوى الوحدة العضويّة ، الأداء السردي في النص ، العلاقات الداخلية في النص و طريقة توزيعها و استخلاص أشكالها و أنماطها ، المساحات الشعرية الجديدة التي يخلقها النص فتصبح فتحاً خاصّاً لصاحب النص نفسه ، .... ) إلخ

3- الحقل الدلالي ، أو المشار إليه .. و هنا قد يصعب الاتّفاق ، وإن كان التسليم بوقوع الانتحال الأدبي عند المستوى الدلالي " المعنى " منطقيّاً و جائزاً جدّاً . و إذا كانت العرب تعتقد أن المعاني موجودة على السكك وفي الطرقات ، و هي – بالتالي - ثمرة مشاعة فإن الحال تغيّر حديثاً حيث أصبحت الدلالة المفتوحة و اللانهائية ملكاً للقارئ نفسه ، و أصبح من حقّه أن يعتبر الانتحال عند هذا المستوى جريمة لا تقل عن جرائم سرقة الأداء الفني . و لأن الفهوم الشعرية ، بما فيها التصور النموذجي للشعر ، قد تغيّرت كثيراً حين رُشّح الشعر ليكون وعياً جديداً بالكون ، و فلسفة منوطًا بها أن تزيد سعة الأرض " على حد تعبير أدونيس " ، لذا تغدو السرقة عند مستوى الصورة المؤدّية / المفضية إلى مشار إليه قريب أو سامٍ عملاً تخريبيّاً في فنون الأداء الشعري ....

4- المساحة الراهنة التي يتحرّك فيها النص و يفتتحها بحدوسه العالية ، و بكل سماتها التخليقية المتوقّدة. يدخل في هذا الأمرِ الفضاء الشعري الذي " يشتغل " فيه الناصّ ، و ما به من مساحات و إجراءات شعرية غير تقليدية . مما يوقع أي شاعر يحاكي الناص في مأزق الدخول في " منطقة تحظر فيها الكتابة وفق تعليمات صاحب السور " قد لا تكون محسوسة لدى الشاعر المحاكي نظراً لانشغاله في الأداء الجزئي " صور و تراكيب و إضاءات ، .." و هو أداءٌ لا ينجو به من جنحة اختراق منطقة شعرية محرّمة ، أو التسارر معها ، على الأقل. و لأن الأداء الشعري في جوهره هو خلق ل" حقل " فنّي قبلاً ، و استشعار حدسي بعد ذلك ، فإن شاعراً كالفرزدق كان يعي كيمياء هذا النوع من النشاط الذهني و الوجداني ، معاً ، لمّا أن هتف بأصحابه " كأنه شعري ، أو : هذا يشبه شعري " بينما كان في جلسة يستمع فيها إلى شاعر يلقي على الناس شعراً .. كانت الناس تحفظ شعر الفرزدق ، أو جلّ شعره على الأقل ، و لم يجدوا في ما يلقيه الرجلُ من شعر الفرزدق شيئاً يدفعهم إلى الاعتقاد بمثل ما يعتقد الفرزدق نفسه ، لكنه – و هو صاحب الحدس الشعري المتوقّد – أدرك أن الفضاءات the atmospherics التي يتحرّك فيها الشاعر المشار إليه لم تكن من تخليقه أو مهارات تنوع الأداء و التجربة لديه " بمعنى : ليس لهذا الرجل علامات أسلوبية بالإمكان أن نعزو إليها عمله الشعري قيد التداول ". بل بدا ، و الأمر كذلك ، تجاوزاً و دخولاً في منطقة الأداء الشعري الخاص بالفرزدق .

و لعلّ هذا الأمر سيدعونا إلى إعادة التفكير – بسخرية ليست مقصودة لذاتها - في مفهوم الرئي الشعري ، أو الجنّي الموحي للشاعر . حيثُ سيبدو لنا أن الجنّي هنا هو إنسيٌّ مكتمل البشرية ، و أن الشاعر نسخة تحاول أن تفر من حالة التلبّس هذه ربما بكسل ، أو بانعدام حيلة . و الفروق – في الحال هذه - قد لا تكون بيّنة لكنها ستنصرف في جوهرها إلى حقيقة " الأداء الشعري " من حيثُ هو أرض لم توطّأ ، ثم لا شيء أهم بعد ذلك . فالحركة داخل إطار جاهز ليست مآل الأداء الشعري ، و إن امتلأت بالعمل الجزئي اللامع . هذا الوعي سيجعلنا نرفض ما ردده بعض النقاد القدامى عن " الحلية الماهرة " و الجديدة التي يكسبها شاعرٌ لمعان شاعر آخر، و أحقيته – بل أسبقيته – بالمعنى الشعري حينذاك . إن الجاهزيّة الفنيّة و الذهنية تقف دائماً وراء أي أداء غير نمطي . و لأن كيمياء النص الشعري و معادلاته الداخلية قد لا تنجح في التخفّي كما يجب ، أو يُوجَب ، فنحنُ سنعلمُ يقيناً أن كل شاعر قد يصبح في مرمى الاستنساخ ما لم يفر من ذلك بالاحتماء بالذاكرة الجمعية و سرعة تأسيس ذائقة سريعة لأدائه المنفرد ( بمعنى : تسجيل بصمته الصوتيّة كرقم إيداع ينشّط الذاكرة البيولوجية لدى المتلقي الجمعي باستمرار و يزيد من حساسيتها لأي أداء مقارب ) ثم يترك أمر حراسة ممتلكات نشاطه الفنّي للمجموع ، قارئاً و ناقداً .
و لعلّي سأختم مقالتي بتصوير فاجعة السطو الشعري ، بما قاله السّريّ الرفاءُ في شاعرين أغارا على أشعاره بالإشارة و الادعاء الصريح :
شنّا على الآداب أقبح غارةٍ ..جرحت قلوب محاسن الآدابِ
لا يسلبان أخا الثراء ، و إنما .. يتناهبان نتائج الألباب ..

فجاء " الحريري " من بعده - كما في السرقات الأدبية لطبانة - ليصوّر عِظَم هذه الجنحة نفسياً و أدبيّاً : و استراق الشعر عند الشعراء أفظع من استراق البيضاء و الصفراء . و ليتهم الحريري ذاته " عاش في القرن السادس الهجري " بمحاكاة ، بل وسرقة ، مقامات الهمذاني ، لدرجة تكرار عناوين المقامات ذاتها ..و ليتأصل ، رغماً عن الجميع ، المفهوم الجارح و الموجع على حدّ سواء " الشاعر سنبلة تعرّت للجياع " كما أطلقها الشاعر الاسكندري الجميل " محمود أمين " .. لكن ، أي جياع أولئك الذين يأكلون قلوب الناس و عيونهم !




أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر