بقلم الأستاذ/ محمد حسين العيدروس -
ثوابت السياسة الخارجية
رغم أن علماء النفس مثل ( بافلوف) يعتبرون "التكرار" هو أسلوب تعلم الفرد في نشأته الأولى، إلا أن هناك من الناس ممن اتخذ الشك قريناً لهم، فلا يبدل التكرار والتجارب من وعيهم شيئاً، فتجدهم رغم السنوات التي قطعتها اليمن في ظل قيادة فخامة الأخ الرئيس علي عبد الله صالح- رئيس الجمهورية- ما زالوا يجهلون فيما إذا كانت سياسة اليمن الخارجية رهينة المزايدات، والبيع والشراء، أم أنها محصنة بثوابت وطنية، ومبادئ سياسية تُقيها الارتهان الخارجي، أو العزلة الدولية، أو الصدام مع الآخرين!
لا شك أنها ليست المرّة الأولى التي يزور فيها الأخ الرئيس الولايات المتحدة، وفرنسا، واليابان - فذلك دأبه منذ توليه رئاسة اليمن بأن يقوم بجولات سنوية لبعض الدولة الصديقة - لكنها المرّة الأولى التي يستبق فيها البعض الأحداث بتكهنات وتنجيم، وضجيج كما لو أن الزيارة المرتقبة ستستقدم أساطيل الأجنبي لإصلاح شأن أولئك المتقوقعين على أنفسهم، والمتخوفين من الممارسات الديمقراطية، والحوار مع الآخر ، ممن لم تسعفهم خبراتهم السياسية على الاضطلاع بمسئولياتهم الوطنية..!
إن النظر للعمل السياسي بتجرد عما يؤطره من قيم أخلاقية وإنسانية متصلة بمستوى حياة الشعوب، وتطلعاتها لا بُـدَّ أن يجعل أقطابه في حالة نفور عن بعضها، وصدام دائم، وبالتالي غياب الاستقرار، وفرص النمو والتطور،، ولهذا فإن الدول تفترض الثقة في تعاملها مع غيرها ، حتى إذا ما بدر ما يسيء لذلك اتخذت موقفها الخاص؛ لكنها في أغلب الأحيان تعتمد على الأرصدة السابقة، والتجارب الماضية في تأسيس علاقاتها الآمنة ، وهذا هو السلوك السوي الذي من الأولى التحلي به في البلدان والمجتمعات المسلمة التي من أخلاقيات عقيدتها مبدأ ( أن بعض الظن أثم).
إذن عند أي قراءة لأفق السياسة الخارجية اليمنية، واتجاهاتها المستقبلية لا بد من استحضار تجارب مسيرتها السابقة لنصبح على يقين من أن اليمن حتى عندما كانت في أسوء ظروفها، وتسلّم قيادتها الأخ الرئيس علي عبد الله صالح في يوليو 1978م لم تنضو تحت جناح أية قوة دولية كبرى – رغم أن العالم كان منقسماً إلى معسكرين – بل آثرت القيادة السياسية الوقوف في صف دول عدم الانحياز ، بإقامة علاقة متوازنة مع مختلف دول العالم على أساس الوضوح، وتبادل المصالح، وعدم التدخل بالشئون الداخلية للدول الأخرى احتراماً لسيادتها، واستقلالها، وكذلك حل الخلافات سلمياً، والعمل في إطار المنظومة الدولية ولوائح الأمم المتحدة والجامعة العربية.
لقد مثل البعد الأخلاقي للسياسة الخارجية صمام أمان علاقات اليمن المتنامية مع مختلف دول العالم، وجسر عبورها إلى المكانة التي تحضى بها اليوم في المجتمع الدولي، وإلى الرعاية لحركة التنمية والتطور في مختلف المجالات التي تقدمها بعض الدول الشقيقة والصديقة المخلصة ، فضلاً عن الدعم الكبير لتجربة اليمن الديمقراطية التي استبقت بها المنطقة..
ولعل الوضوح، والصراحة التي تتعامل بها القيادة السياسية مع الجميع جعلت اليمن الأبعد عن كل الشبهات، والصفقات، والمزادات التي دأب البعض على وضع نفسه فيها، وبلورة مواقفه على أساس منها - من غير اكتراث لعواقبها.. كما أنها وقفت وراء العديد من الدعوات التي توجه لليمن للمشاركة في المؤتمرات الدولية ، وفي طليعتها دعوة قمة الدول الصناعية الكبرى للأخ رئيس الجمهورية للمشاركة فيها ، ثم ضم اليمن إلى جانب إيطاليا وتركيا للجنة مساعدة الديمقراطية بالمنطقة ، والتي أكدت ثقة المجتمع الدولي باليمن ، وعطائها ، وبتوجه قيادتها السياسية الحكيمة في مختلف السياسات والمواقف، وبالقدر الذي أصبحت فيه سياسة اليمن الخارجية موصوفة بالسياسة الحكيمة ، الواضحة ، والمتوازنة .
لا اعتقد أن في طبيعة العلاقات اليمنية – الأمريكية ما يُخجل القيادة السياسية من البوح به، بل أن اليمن حتى في شراكتها الدولية مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب تجد نفسها تؤدي واجباً وطنياً لحماية شعبها، ومصالحها، ثم واجباً إنسانياً في تحرير البشرية من هذا الوباء الفتاك الذي لا يفرق بين طفل وامرأة وشيخ، وبين مدني وعسكري وغير ذلك من الاعتبارات الإنسانية! ومع هذا فإن هناك قضايا تختلف فيها الرؤى بين البلدين ، وتتقاطع فيها السياسات والمواقف – خاصة فيما يتعلق ببعض القضايا العربية المصيرية.
وفي الحقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية تدعم اليمن في كثير من المجالات التنموية، والسياسية، وتساعد مختلف القوى الوطنية على تنمية تجربتها الديمقراطية – بما في ذلك أولئك المشككون الذين يغرسون الريبة في نفوس الناس، ويظنون السوء في نفس الوقت الذي يجدون التعامل مع جهات أمريكية رسمية أم مدنية مغنماً سياسياً، ويتناقلون ما تردده وسائل الإعلام الأمريكية من محفل لآخر ليقدموه للرأي العالم اليمني- كما لو أنه حُجة على الحكومة، وشهادة أمينة من طرف غير كذوب، ويحضى بثقتهم المطلقة.
إن هذا التناقض في السلوك وحده الكفيل بكشف أسرار الضجيج، والتنجيم – رجياً بالغيب – الذي يمارسه البعض.. فذلك هو نهج القوى الانتهازية التي تسعى للانتفاع من كل مناسبة من خلال إثارة قلاقل، وفتن تتأمل منها مساومة الطرف الآخر من اللعبة السياسية ، وابتزازه في ضوء التهديد بمقاطعة الانتخابات تارة، وبحل مجلس النواب تارة أخرى، وبالاستعانة بالخارج مرة ثالثة، وبالإضرابات ، وتعطيل الجامعات ، والمستشفيات وغيرها من المؤسسات الخدمية الحيوية التي لا غنى للمواطن عنها.
ولكن يجب أن نسأل أنفسنا ثم نبحث بجد عن إجابة لسؤالنا: هل سبق لأحدنا أن رأى هؤلاء الناس يُبادرون إلى حملة شعبية لمحو الأمية، أو ردم بعض الملوثات الصحية، أو إقامة مراكز تدريب مهنية للأسر الفقيرة، أو إقامة حملة توعية لأهالي المناطق النائية، أو حتى إصدار صحيفة توعوية غير سياسية!؟
لا شك أننا جميعاً لا نعرفهم إلا وهم يشكون، ويتذمرون ، ويتجاهلون كل المنجزات التي لا تتسعها الأعين ، ويشوهون صورة كل شيء جميل تحقق في هذا الوطن الغالي.. في الوقت الذي دأبت الكثير من دول العالم المتقدمة على الإشادة بالتطور الحاصل في مختلف جوانب الحياة اليمنية ، والتأكيد على تقديرها الكبير ، واعتزازها بعلاقتها مع اليمن – وكان الأولى بالجميع الفخر بذلك ، وحمله الى كل المنابر الإعلامية لأن فيه عزة اليمنيين ، ورفعتهم ، وعلو شأنهم أينما ذهبوا من بقاع العالم ، فيما الصيت السيئ فيه انتقاص من صاحبه ، واستصغار لشأنه أينما ارتحل وحلّ ..ويقيناً أن شعبنا بدأ تاريخه عظيماً وسيبقى عظيماً على مرّ العصور.
* * * * *
* الأمين العام المساعد لقطاع الفكر والثقافة والإعلام بالمؤتمر الشعبي العام