المؤتمرنت - أحمد الحسني -
جِبْلَـــة.. ثلاثيــة المـرأة والأفيون والمــآذن
ليست هذه المرة على شواطئ اللاذقية ، ولا جنوبي بغداد وإنما هي عروس تجري تحتها الأنهار، على هضبة مكونة من سبع ربى ترتفع عن مستوى سطح البحر قرابة ( 1350 كم ) في خيمة طبيعية عمودها جبل "التعكر" الذي يرفع السماء المشدودة إلى أوتاد "العدين" و"السياني" و"ذي السفال" و"إب".. إنها مدينة النهرين "جبلة" أو "ذي جبلة".
خدد لها شام وحب مشرق ..... والتعكر العالي المنيف يمان
فبعد أن تقطع قرابة ( 170كم ) إلى الجنوب من صنعاء تصل مدينة إب عاصمة المحافظة الخضراء في وسط مرتفعات اليمن الوسطى وما أن تعبر المدينة جنوباً وتصل مفرق جبلة حتى تختطفك النسائم المحملة بعطر ورود " الدِّحْثاث " فتنساق مع النشوة على طريق الإسفلت مسافة ( 7 كم ) إلى الجنوب الغربي من مدينة إب وهناك تكون في حضرة أميرة الطبيعة جبلة تجر ثوبها السندسي يعبق بشذا التأريخ مكللة بالقباب والمآذن محفوفة بنهري " حديد " و " الوَقَش " وبدلاً عن أريج ورود الدحثاث التي احترف أبناءها تقطير ماء الورد تمتلئ رئتاك وأن تقف بين يدي جبلة بهواء السلام الذي امتلأت به رئتا الملكة الصليحية قبل ألف عام فطلبت من زوجها أن ينقل ملكه إلى هذه المدينة لتظل عاصمة الصليحين حتى زوال دولتهم بسلام وليبقى السلام هواء جبلة الذي لا تستطيع رصاصات عابد الكامل الطائشة أن تلوثه .
ولدت هذه المدينة حوالي عام 458هـ / 1066م علي يد الأمير عبد الله بن محمد الصليحي أثناء ولايته على حصن التعكر لأخيه علي بن محمد الصليحي مؤسس الدولة الصليحية التي حكمت اليمن من تأريخ 440هـ إلى 532هـ الموافق 1047م إلى 1138م وسميت بهذا الاسم نسبة إلى تاجر فخار يهودي كان يبيع بضاعته في المكان الذي بنى فيه المكرم احمد بن علي الصليحي قصره " دار العز " حين قرر استيطان هذه المدينة واتخاذها عاصمة لملكه بدلاً عن صنعاء كما يذكر ذلك المؤرخ عمارة اليمني ت ( 569هـ ) الموافق 1173م وهناك من يرى أن التسمية جاءت على غرار مدن إسلامية حملت نفس الاسم قبلها بقرون مثل جبلة السورية على سواحل اللاذقية بلد القسام وجبلة جنوبي بغداد .
هذه المدينة التي لا تتجاوز مساحتها الكيلومتر المربع الواحد بطرقها المرصوفة وبيوتها العالية المبنية بالحجارة شأن بيوت المناطق الجبلية والوسطى وبنفس طابعها المعماري يقال أنه لا يوجد فيها بيت يحجب بيتاً رغم تقاربها وهي تتوزع على سبع ربى لكل ربوة اسم مثل ربوة " أور " حيث جامع السيدة أروى وربوة " الدارة " حيث دار العز وتختزل في مساحتها الصغيرة تلك جزءا كبيرا من تأريخ اليمن تتلوه عليك الكثير من معالمها التاريخية والأثرية .
فضلت الدخول إلى هذه المدينة من بوابة التأريخ حيث صعدت الدرج القديم الذي يقود إلى المدينة التي كانت عاصمة اليمن قرابة قرن من الزمن خمسون عاماً منها تحت حكم الملكة الوحيدة في تأريخ اليمن الإسلامي السيدة أو أروى بنت احمد الصليحية التي حفظت جبلة من آثارها:
1) جامع جبلة :
ينسب هذا المسجد إلى السيدة أروى الصليحية التي بنته مكان دار العز الأولى على ربوة أور وهو مستطيل الشكل يتوسطه فناء مكشوف محاط بأربعة أروقة هي
رواق القبلة : وهو الرواق الشمالي يتكون من أربعه بلاطات بين أربعة صفوف من الأعمدة بعضها مثمن وبعضها مستطيل ذات تيجان مستطيلة ومربعة تحمل سقف الرواق الذي توجد به مصندقات خشبية تعود إلى القرن الخامس الهجري .
الرواق الجنوبي : يتكون من بلاطة واحدة وبجداره الجنوبي مدخلان يتم من خلالهما الوصول إلى المطاهير ( الحمامات ) الموجودة في الناحية الجنوبية من الجامع .
الرواق الشرقي : يتكون من بلاطتين بواسطة بانكتين بكل منهما ثمانية أعمدة تحمل أقواساً مدببة .
الرواق الغربي : يتكون أيضا من بلاطتين وفي الجهة الجنوبية منه ردهة تستخدم كمدرسة لتحفيظ القران الكريم .
المحراب : عبارة عن تجويف بسيط عمقه متر تقريباً في منتصف الجدار الشمالي للمسجد يعلوه عقد مدبب محمول على عمودين عليهما زخارف نباتية وهندسية أما المحراب فمحاط بآيات قرآنية كتبت بالخط الكوفي ويزين تجويفه من الداخل وطاقيته زخارف على شكل أوراق العنب .
للجامع مئذنتان تقعان على الناحيتين الشرقية والغربية للجهة الجنوبية للجامع تتكون المئذنة الشرقية من قاعدة حجرية مكعبة يقوم عليها بدن من ستة عشر ضلعاً من الآجر .
2) ضريح الملكة : يقع في الركن الشمالي الغربي لجامع جبلة ضريح السيدة أروى بنت احمد الصليحية أيسر القبلة تزين واجهاته دخلات على هيئة محاريب مجوفة عددها في الجدار الشرقي أربع دخلات والجنوبي دخلتان عرض الواحدة ( 60 سم ) وارتفاعها ( 1.6 م ) بعمق ( 10سم ) وقد فتح مدخل في الجدار الجنوبي للضريح مما جعل المعمار لا يعمل إلا دخلتان فقط ويكتنف كل دخلة عمودان مندمجان ليس لهما تيجان ويقوم عليهما عقد مدبب شبيه بعقود الدولة الفاطمية في مصر ويزين جدران الضريح من الخارج زخارف كتابية بالخطين النسخ والكوفي المزهر على مهاد من التفريعات النباتية الجصية البديعة إضافة إلى الزخارف النباتية الأحادية والثنائية والثلاثية والخماسية والمرواح النخيلية وأنصافها وأشكال الورود المتعددة البتلات إلى جانب السيقان والفروع النباتية التي نفذت بالنقش على الجص والتي تنتشر بين كوشات عقود الدخلات المجوفة على شكل أشرطة رأسية وتنصف الواجهة الشرقية للضريح فخارية مزخرفة بأوراق ثلاثية وخماسية الفصوص داخل إطار مزدوج من فروع نباتية متعرجة وتتشابه زخارف الفخارية مع الزخارف الأخرى على يمين ويسار مدخل الضريح وهي تكوينات زخرفية تتفق مع التكوينات الزخرفية النباتية لمساجد الفاطميين في مصر .
يقوم الجامع بما فيه على أقواس مدببة تحملها أعمدة وجدران بينها فراغات كانت تستخدم كمخازن وإسطبلات للخيل وفوقها مساكن الطلبة الوافدين إلى حلقات الدرس في رباط هذا الجامع ويتم دخول الجامع عبر درج حجري يسمى درجة الألف يقولون أنه مكون من ألف حجر ويقول القاضي الأصبحي أن النسبة ليست لعدد أحجاره ولكن لسنة بنائه 1000هجرية , لم اهتم كثيراً بعدّ الأحجار خصوصاً أنني تركت الاهتمام بما هو أهم عند شخص محدود الدخل مثلي وهو ما يتناقله الناس عن وجود كنز مدفون تحت أعمدة الجامع ويحلو لهم أن يعللوا زيارة البهرة لضريح الملكة الصليحية ويرجعون الاهتمام به إلى وجود هذا الكنز بدلاً من الارتباط المذهبي لقد كنت مشغوفاً أكثر برؤية دار العز الذي كانت تمضي الملكة الصليحية فيه عامها متنقلة بين غرفه الثلاثمائة والستين ويحلوا للناس أن يؤكدوا لك أن القصر أقيم بطريقة هندسية تكفل دخول الشمس يومياً إلى جميع الغرف , كنت أمشي في أزقة السوق القديم متبعاً خيالي أكثر من مرافقي القاضي الأصبحي الذي كان يحدثني عن مسجد ابن عراف والمدرسة الشهابية وما أن وصلنا دار العز في ربوة الدارة حتى اصطدم خيالي بالواقع الذي عليه القصر فلم يكن أمامي غير أطلال وبقايا جدران وغرف لم يعد بالإمكان الصعود إليها والمباني السكنية الجديدة محيطة بها , أحدهم تطوع بالقول أن ما أشاهده من أطلال ليس من القصر و إنما هي بنايات لآل المتوكل على أنقاض القصر أما القصر فقد كان على الربوة كاملة وان المباني الموجودة على الربوة أقيمت جميعها على أنقاض القصر وبأحجاره أما الدليل السياحي في متحف الملكة أروى فكان يواصل حديثه وكأنه يطلب مني عدم الإصغاء لهذا المتطوع ويجهِّله ومضى يشرح لي كيف أن الملكة الصليحية أتت بأخشاب هذا القصر من العدين ( 30كم ) غرب جبلة واستمر في حديثه مشيراً إلى إسطبل الخيل في باحة القصر والأقواس المدببة التي تحمل طوابق القصر وغرفه وأنها طابع معماري فاطمي انتشر في اليمن أيام الصليحين خصوصاً في عهد ملكتهم أروى بنت احمد ويذكرني برسائل الحاكم الفاطمي لها وما تضمنته من تبجيل وتأكيد على سلطانها ودعمهم له .
كان بجوار دار العز بل ضمن بقاياه مسجد يشمخ بمئذنته العتيقة مكسواً بجلال القرون التي تعاقبت عليه وتحس أنها ستنطق من جنباته مؤكداً أن القصر لم يكن بذلك الحجم الذي تتناقله الروايات .. قاطعت حديث الدليل السياحي عن النفق السري الذي كان يصل دار العز بحصن التعكر لان نحت مثل هذا النفق في الصخر الصلد قرابة عشرة كيلومترات أسطورة لم يرق لي استماعها والتفت إلى القاضي اسأله عن المسجد فأجابني أنه مسجد ورباط السنة والدار التي بجوارها هي دار السنة ومن اسمه يتضح انه بني عقب سقوط الدولة الصليحية على أيدي الأيوبيين ليتبنى نشر مذاهب السنة في مدينة الصليحين الروافض ويواجه مدارس مذهبهم الذي كان مرفوضاً سواءً من السنة أو الشيعة الزيدية إلى الحد الذي كانوا يعيبون فيه سكنى جبلة يقول السكسكي في طبقاته " ومتى سكنها ساكن عاب عليه الفقهاء وغيرهم من أهل السنة و عابوه " إلى أن يقول " لان بانيها عبد الله بن محمد الصليحي أخا علي بن محمد والمقتول معه في المهجم فلم يكد يسكن معه غير أهل مذهبه في الغالب و إنما سكن أهل السنة بها في أيام الغز الأيوبيين يقول الفقيه أبو الفتوح بن عبد الحميد الفائشي يعتب على القاضي أبي بكر الجندي سكناه مع منصور بن المفضل في جبلة
حللت في ذي جبلة قاضياً ..... فبئسها أرضا وبئس القضا
تؤم بالطائفة الملحدين ..... من بعد ما كنت إمام الرضا
ثم يورد اعتذار القاضي للفقيه وأنه يريد أن يؤثر ويصلح لا أن يتأثر ويوالي غير أن اشهر المدارس التي تصدرت لمواجهة الروافض ونشر السنة في وكرهم جبلة حيث رباط جامع الملكة ومسجد ابن عراف الذي أقامه القائد الصليحي أسعد بن عراف هي مدرسة ابن أبي الأمان أبو الحسن علي بن إبراهيم بن أبي الأمان التي أنشأها سنة ( 558 هـ ) وطلب من أصدقائه العلماء أن يشتركوا معه في التدريس بها ونشر السنة وما تزال باقية حتى اليوم .
بالرغم أن الأيوبيين هم الذين أطاحوا بالدولة الفاطمية في مصر واتباع الفاطميين من الصليحين في اليمن إلا انهم لم يهتموا كثيراً ببناء المدارس في جبلة كما صنع الرسوليون من بعدهم ربما لكونهم محتلين يهتمون بالغلبة السياسية وجمع الخراج أكثر من الاهتمام بتبني مراكز التنوير والمعارف خصوصاً انهم ليسوا أصحاب مذهب جديد يحتاجون للتنظير له في الوسط السني الذي ينبذ مذهب الصليحين فضلاً عن اعتقاده إضافة إلى ما عرف عن اهتمام الرسولين بالعلوم و ما لاقاه العلماء من إجلال وحفاوة ملوك بني رسول العلماء الذين نشروا المدارس والأربطة في عموم اليمن وليس في جبلة فقط ألفوا في شتى أنواع المعارف والعلوم ومن مدارسهم الشهيرة في جبلة
الجَبَابِيَّة : التي بناها فخر الدين أبو بكر بن حسن الرسولي الذي بنى مطاهير الجامع الكبير جامع الملكة العومانية : التي بنتها العنسية زوج والد الملك المنصور أما أكثرهم مآثراً في جبلة فهي سيدة العلم والخير الدار النجمي بنت علي بن رسول التي بنت المدرسة النجمية بجوار دار العز غير بعيد عن مسجد السنة وبنت المدرسة الشرفية والمدرسة الشهابية ومسجد الدار ومطاهير مسجد ابن عراف يقول السكسكي في تأريخه " الدار النجمي هي بنت علي بن رسول أحد الأمراء الملوك من بني رسول سميت بالنجمية نسبة إلى زوج لها وهو الأمير نجم الدين بن أبي زكريا أحد الأمراء القادمين إلى اليمن وكان رجلاً كريماً شهماً شجاعاً مقداماً كثير فعل المعروف بعثه المنصور إلى حضرموت يستفتحها فقتل هناك ولم تزل هذه الحرة على الطريق المرضي ليس في جبلة رزق للطلبة غالباً ظاهراً إلا منها أو من حاشيتها فأما منها فإنها ابتنت النجمية اشترتها داراً لابن المعلم وسمتها باسم زوجها ووقفت عليها وقفاً عظيماً وابتنت بها مسجد الدار نسبة إليها ولما بنى ابن أخيها أبو بكر بن حسن الملقب فخر الدين مطاهير جامع جبلة شق عليها وقالت لو علمت لم يسبقني إليه ثم عملت المطاهير التي لمسجد الأمير ابن عراف الذي سبق ذكره ثم كان غالب لبسها من غزلها القطن في آخر أمرها وبنت لأخيها شرف الدين الهالك بمصر مدرسة ونسبتها إليه وبها قبرت وقبر معها جماعة من أهلها كبدر الدين حسن أخيها وغيره وبنت المدرسة الشهابية على اسم أخ لها اسمه احمد شهاب الدين واحدث خواتينها من المآثر المرضية إذ العبد من طينة مولاه عدة مآثر فأحدثت " رأت دارها " المدرسة المنسوبة إليها المعروفة بالرائبة وبنى خادمها فاخر مدرسة بذي سفال ووقف عليها وقفاً جيداً وفي قرية البرحة من النقيلين مدرسة ابتناها بعض حواشيها
ورب حي ميت ذكره ..... وميت يحيا بأذكاره
ليس بميت عند أهل النهى ..... من كان هذا بعض آثاره "
كنت أترحم على السيدة الرسولية وأنا أشاهد مع السائحين الأوربيين نقوش المدرسة النجمية و أقول في نفسي هذه سيدة جبلة الحقيقية بعيداً عن بهرج الملك ودنس السياسة وعنّ لي أن اسمي جبلة إمبراطورية المجد الأنثوي وخزانة مآثر عظمة المرأة اليمنية وما أن سمعني الأستاذ فؤاد الصلوي حتى أشار إلى الجهة المقابلة لنا شرق سائلة الوقش قائلاً وذلك هو مسجد النساء وبجواره مسجد الاشيدي التاريخيين ووجود مسجد مستقل للنساء في هذه المدينة من قديم الزمان خصوصية في تأريخ المرأة اليمنية ومدينة المجد الأنثوي جبلة .
ورثت النساء في جبلة أمهاتهن فعرفن بالحنكة وحسن التدبير ورجاحة العقل كما عرف عن رجالها غزارة العلم وطيب المعشر ودماثة الخلق والظرف . في جبلة تستطيع أن تردد مع الشاعر
فما التأنيث لاسم الشمس عيب ..... ولا التذكير فخر للهلال
مالا تستطيع أن تتجاهله في جبلة أو تمر دون أن تملأ عينيك بجماله وجلاله هو مسجد يعقوب نسبة إلى يعقوب بن مطهر بن شرف الكوكباني سنة ( 921 هـ ) أو قبة الزَّوْم نسبة إلى القائمين على اوقافه من أسرة الزوم المعروفة في جبلة و الذي ترتفع مئذنته الأسطوانية المبنية من الآجر الموشاة بالقضاض الأبيض الذي يكسو قبته الكبيرة والتاج المحيط بها على شكل ورقات ثلاثية البتلات وكأنه إكليل غار على رأس حورية لكنها تهدي ولا تضل وتغري ولكن بالتقى والإيمان .
هذه هي جبـــــــــــــــــــله براءة ورود "الدحثاث" على مدخلها تطيبك ومزارع الخشخاش في الثَّوَابِي حيث كان يستخرج من صمغ أقماعه الأفيون الذي يستخدم كمسكن للآلام وتأكل حبوبه التي تشبه حبوب السمسم كان أفيون جبلة دواء لا مخدراً وخشخاشها ثمرة لا سماً ..
كنت مشتاقاً للتعرف على علامة جبلة الشيخ حميد بن قاسم عقيل ولكني تجاوزت منزله وأنا أفكر في إعادة قراءة تأريخ هذه المدينة على ضوء نصوص الآثار قراءة موضوعية هل أستطيع أن أقول دون ملام أن جبلة رسوليه لا صليحية فشهرتها كمدينة علم جاءت من مدارس الرسولين وأنها صنعت بشهرتها تلك تأريخ الدولة الصليحية ؟
وهل أستطيع أن انفي القصة التي تقول " أن المكرم احمد بن علي الصليحي حشر الناس في صنعاء فلم تقع عينه على برق سيف ولمعان سنان وحين وصل إلى جبلة وحشر له الناس لم تقع عينه إلا على رجل يجر خروفاً وآخر يحمل ظرفاً فيه سمن أو عسل أو يخرز نعلاً فأشارت عليه زوجته السيدة أروى بنت احمد الصليحية بالإقامة بين هؤلاء الناس المسالمين ونقل عاصمة الدولة إلى هذه المدينة " وأقول أنها
رواية تبريرية لخضوع المناطق الشافعية رغم كثرة سكانها وخصب أراضيها للغلبة القتالية لأبناء المرتفعات الشمالية الهادوية المذهب حيث تقع صنعاء و على امتداد ألف عام وما تزال حقيقة رغم غياب المرادفات المذهبية من لغة الخطاب السياسي بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وان ما سبق من اجتهادات تشريعية انفتح فيها مذهب السلطة على المذاهب الأخرى جاء من طبيعة المذهب المتمردة على ربقة التقليد لا تملقاً لمشاعر الغالبية الشافعية ولا مراعاة لانتمائها المذهبي و أن السبب الحقيقي لاختيار المكرم الصليحي جبلة عاصمة له هو خشيته على نفسه بعد اعتناقه للمذهب الإسماعيلي من البقاء في وسط مذهبي السلطة السياسية أساس في اعتقاده الديني وله تأريخه الطويل في الصراع مع الإسماعيلية إضافة إلى صراع الصليحي مع النجاحيين الشوافع في تهامة الذين قتلوا والده في المهجم وسبوا أمه أسماء فكان انتقاله إلى منطقة جبلة كونها منطقة جبلية منيعة وخصبة الأرض وافرة الخيرات وسكانها شوافع يعتقدون طاعة كل غالب ما لم يأت بكفر بواح وأول ما يحفظون عن فقهائهم من أصول المذهب قول بن رسلان
ولم يجز في غير محض الكفر ..... خروجنا على ولي الأمر
إضافة إلى كونهم أصحاب وفرة اقتصادية بحكم طبيعة بلادهم الزراعية الخصبة ورأس المال جبان كما يقال وهما علتان تكفل للصليحي الأمان بينهم مهما نبذوا مذهبه الديني لقد عجز الصليحيون عن إقامة قاعدة جماهيرية لمذهبهم حتى في مدينتهم جبلة مما جعل هذه الدولة تنتهي فجأة وكان آخر حكامها هو أطولهم عمراً وأكثرهم شهرة السيدة أو أروى بنت احمد أي أنها انطفأت في ذروة مجدها على عكس ما هو مألوف في تأريخ نشوء الدول وزوالها حيث تتدرج في الصعود إلى أن تصل الذروة ثم تنحدر على سلم صعود البديل وكأن الدولة الصليحية أزيلت بقرار خارجيً لم يستغرق من الوقت ما استغرقه صدوره .
خاتمة
لقد أحيطت الدولة الصليحية وملكتها بهالة من العظمة عند المؤرخين الجمهوريين ونالت دولتها من الاهتمام ما لم تنله دول اعظم مآثراً أطول عمراً ربما لكون الملكة الصليحية هي الملكة الوحيدة في تأريخ اليمن الإسلامي وربما نكاية بالإمامة التي أطيح بها عام 1962م وأياً كان فالنتيجة جناية على التأريخ وإضاعة لحقائقه لم نستطع أن نعرف بسببها هل كانت الدولة الصليحية حكومة وطنية أم امتداد للدولة الفاطمية في مصر كما هو واضح من آثارها ذات الطابع الفاطمي وهل كانت الملكة الصليحية ملكة يمنية أم عميلة تحمل خراج اليمن وثرواتها للحاكم الفاطمي مقابل الدعم ورسائل التزكية التي كانت تصلها ؟؟ إنه أمر لا تحتاج عظمة هذه الملكة أن نخفيه وليس بمعاب في حوادث التأريخ ولكن العيب الحقيقي هو أن تسيطر أهواءنا الخاصة على صياغة تأريخنا فنغرق في جهل لا نعرف معه اسم هذه الملكة رغم قرب عهدها و طول فترة حكمها التي استمرت قرابة نصف قرن من الزمان هل هو سيدة بنت احمد أم أروى بنت احمد في الوقت الذي لا يختلف فيه غيرنا على اسم نفرتيتي أو كليوباترا أو زنوبيا .
هل كان علي بن الفضل البطل الوطني والثائر الحميري كما وصفه الاكوع وكتب بسيفه الدكتور المقالح أم كان سفاحاً عاهراً احل البنات مع الأمهات ومن فضله زاد حل الصبي كما ذكره العرشي والواسعي وغيرهما؟؟
إننا بحاجة إلى غربلة تأريخنا وإعادة قراءته بموضوعية تمكننا من الاستفادة الحقيقية منه أم أننا سنظل كما قال عنا المؤرخ الكبير أبو الغمر مسلم بن محمد بن جعفر اللحجي اليمني المتوفى سنة 550هجرية :
" إن قلة الرغبة في أهل اليمن في إحياء ما يكون في بلادهم وفي أهلها من الأخبار والآثار ولهم من الفضائل والمحاسن والعجائب ما قد عرفت ومعلوم انه قد كان في اليمن من المحاسن الحسنة في أخبار الدنيا في الجاهلية والإسلام وأخبار الدين في الإسلام وسائر مكارم الأخلاق ونوادر العجائب التي قد دون أهل العراق والحجاز ومصر والشام وخرا سان ما هو دونه وأحيوا في طبقتها من أخبار ملوكهم وقوادهم وشعرائهم وكتابهم وخطبائهم وفقهائهم وعبادهم وزهادهم ووزرائهم وسوقتهم وعوامهم وغير ذلك ولهذا حيوا وماتوا.