المؤتمر نت - متابعات - حميد سعيد: كتابة المعصية، معصية الكتابة
ديوان 'من وردة الكتابة الى غابة الرماد' هاجسه ابداع متعال عن الأخلاقي ودخول في المجهول.
ميدل ايست اونلاين
بقلم: سليم النجار
الكتابة لا تنشأ الا من داخل المعصية، هكذا يصرخ الحلاج او النينوي، أو حمود الاشبيلي شهيد محاكم التفتيش المقدس.
انها صرخة كان لا بد منها في مواجهة الرداءة والرتابة والتعفن متحديا للفجيعة، كل ذلك في ديوان حميد سعيد "من وردة الكتابة الى غابة الرماد" الصادر عن دار أزمنة- عمان، يواجه نفسه ووجوده ويحكي فجيعته عبر تعدد الأصوات:
لغة مؤسلبة، واحداث اختلط فيها الوجداني بالمأساوي بالسحري والعجائبي، الشاعر حميد سعيد في ديوانه الجديد "من وردة الكتابة الى غابة الرماد" هاجسه ابداع متعال عن الأخلاقي، ودخول في المجهول لا في المعلوم، تلك هي حكاية حميد سعيد فاجعة ليل بغداد، حداثة وتمييزا وخرقا للسائد، كتابة داخل المعصية ينفتح انفتاحه الشعري على الندابات ومحارق التفتيش المتكاثرة ويستضيء بنورها أبد الآبدين.
"الأناشيد.. عاصفة إثر عاصفة
الأناشيد زلزلت الروح.. زلزالها
الأناشيد.. صمغ الكلام وسر المعاني
الأناشيد.. سارقة النوم
كنت ابتعدت.. وفارقتها نمت.. ص20"
في "من وردة الكتابة الى وردة الرماد" يتداخل التاريخي بالمتخيل، إننا نجد أنفسنا أمام أبي ذر الغفاري الذي يعيش وحده ويموت وحده ويبعث وحده، هو الباحث عن الحق والذي يتماهى فيه البشر الباحث عن الحقيقة وشهرزاد وشهريار، ديوان حميد سعيد يبدأ بالنهايات فالشر مستمر ولا بد ان يستمر الشعر فيبدأ بإنتهاء ليلة بغداد الاولى.. وتبدو الدبابة الاميركية ايهاما بالواقع، موازاة لغرناطة تلك التي قدمها ابوعبدالله الصغير آخر ملوك الطوائف هدية للقشتالية.
وترى بغداد من قدمها لآخر السالات لتاريخ دموي لسلطة شاذة مريضة! تبلع الانسان من كهف الديمقراطية وتقدمه خرافة الحرية.
حميد سعيد "من وردة الكتابة الى غابة الرماد" راويا تاريخيا يمتد الى قرنين من القتل والدم والقهر والعذاب يرى نفسه وقد تماهى في طرائق الحلاج وعذابات البسطامي انه يرى نفسه فيهما معا.
"حيثما تجد القمر الأسود.. يملي تعاويذه
على إدغار ألن بو.. إنتظروا ساعة
وستأتي أناشيده من طقوس الحداد.. ص65"
"من وردة الكتابة الى غابة الرماد" لم تكتف بذلك فقط إنها تنهض في عمقها على الموسيقى في التكرار والترديد والتناغم ويأخذ إيقاع الأحداث المتوترة على مقام الورد الفجائعي، الذي يهيج البحار بحرارته، إنها نوبة تتناسب مع العواطف الشديدة القوية تساعد على وصف الحب.. الحب الذي ما بعده حب.
وكذلك كان حميد سعيد وجدانيا ذا صوت وجداني منولوجي يفتح جراح الذات وآلامها فالوجع لن يسمع كلاما جافا ولو كان شعرا.
"أنا لي.. أنا أفتش تبيت الضحك
أنا لي.. أن أعيد الى النوم سلطانه.. ص16"
الحرية ليست هما أو شعارا جماعيا أو جماهيريا معناه الوحيد تكاثر الدكاكين السياسية وتعددية الجلادين كما يحاول إلياس الساذج ان يثبت بل هي الشرط الأول والمعنى الاول والفاصل الأول بين الانسان الحر العادل وبين البهيمة التي تسير على ساقين وتجيد التكلم بالانجليزية أو العربية او الفرنسية.
بالحرية وتحت نورها الكاشف يكون الماء ماء والحجر حجرا والسراب سرابا والدماء نورا بالحرية نستطيع ان نقرأ بعين الناقد تعريف الاغريق القدماء على أنه الحيوان الناطق فنرجح عليه تعريف الصينيين القدماء الذين اعتبروا الانسان هو الحيوان العادل او نتم كلا التعريفيين بالتعريف العربي المحمد القرآني للانسان بصفته وريث الله على الأرض ورث النطق والعدل والجمال والحرية.
"كان فتيان بغداد.. يقترضون الغزاة بأجسادهم.
واللصوص.. يتبعون تاريخ بغداد ليس الذي باع تاريخ بغداد.. منها ستذكر بغداد اسماء من حرقوا وستذكر بغداد اسماء فتيتها الزائرين.. ومن دافع عن حماها.
وتذكر أسماء من خانها.. ص82".
لا يمكن فهم هذا النص الشعري إلا بعد رفض أية منطقة وسطى بين الحرية والعبودية، والمنطقة الوسطى قد تتبرقع بمنطق وسطي يحاول جمع الماء والنار فيطلق حلولا وسطية في شتى الميادين ومنها ميدان الابداع غير ان تلك الفلسفة الوسطية ليست إلا تلفيقا محضا ومحاولة لتوزيع الحلوى على أعداء الحرية وعلى اصدقائها سواء بسواء بدلا من طرح الاسئلة الحية والتساؤلات الهدامة البانية المحيلة بدورها الى اسئلة وتساؤلات اخرى تتوالد بقوة الحياة وصولا الى طين القاع حيث جذر الحرية.
"وتقبل بغداد من بسملات مرائرها
من قباب مساجدها وشموخ منائرها
من هدى.. كان أي الكتاب هداه
من مدى.. ليس غير العراق مداه.. ص 90"
هل يحق لنا التساؤل بأن "من وردة الكتاب الى غابة الرماد" نصوص شعرية تكعيبية تنشر ألوانها المتعددة:
أصواتا سردية ولغة مشحونة بالتوتر بمسافات التوتر للزمن وتقطيعا له، تداخلا للخطابات واستنساخا لها.
"أغامر.. إذ أفرق بين أسئلة اقترابك وابتعادك
بين شمسك والأفول
إذا أقول..
غدا أخط رسالتي الأولى إليها..
ثم أمحو.. ما كتبنا من قراءات الغواية..
في متاهات الفصول.. ص50"
ان حميد سعيد ينهض على شاعرية لغة المتصوفة، وتجاوزها واختراقيتها الرامزة تعبيرا عن موقف، عن نظر محدد وصارم تجاه الكون والأشياء لم تعد الصوفية ذلك الشطح الذي تتدفق به نفس مرتعدة، هيابه إزاء الحضرة تنغمس في نوع من الإستلذاذ بعشرة الأولياء والعارضين، أنها لا تحدث بحديث الكرامات والخوارق إنما هي موقف، وجهة نظر، ولنسميها أيديولوجية مبتكرة تتوفى خلاصا لانسان معاصر يطوقه الشقاء من كل جانب.
"ثم يخرج موتي كثيرون.. يغوونني بياض بعيد
أكاد ارافقهم..
نجمة ستشيد الطريق.. وتأخذني موجة من ضياء.. الى ما تريد.. ص23"
لم تعد الكتابة الشعرية ترفا أصبحت عملا ضنكا، و" من وردة الكتاب الى غابة الرماد" نصوص شعرية مثقفة لأجل كتابتها عاد الشاعر الى الطريقة الوثائقية، التاريخ الفلسفة التصوف القرآن بالاضافة الى البناء القصصي العربي القديم، وهنا نجد الشاعر يبدع ابداعه الخلاق مخترقا التراث اختراقا معرفيا ومستنطقا له استنطاقا فنيا، حيث جاده من حيث لا ننتظر.
أما على المستوى الشكلي فقد تشظى الزمن، وتعككت البنية النصية، وهيمن التقطيع المتاتي أساسا من الفجيعة- فجيعة بغداد- والمخترق لها في آن، وقد نزعت لغويا بإعتمادها لغة التدمير والترميز والايحاء والتداعي والاستذكار والمناجاة الداخلية المشتعلة اشتعالها بالداخل الانساني للشخوص والرواة.
أليست "من وردة الكتاب الى غابة الرماد" هي الفوضى الوحيدة الممكنة من اجل تبلغ الاسئلة مداها، نكاية في كل ما هو قميء، ونكلة بكل ما هو مبتذل فالكتابة الخلود، لا تنشأ إلا داخل المعصية.
سليم النجار
|