المؤتمرنت / تعز -
العيد في تعز : تراجع الموروث وسطوة قيم العصر
الاحتفاء بعيد الأضحى المبارك في محافظة تعز يتميز عن غيره من المناسبات الدينية، فهو العيد الكبير كما هو الحال في ثقافة المجتمع اليمني كله، وقد كانت العادات والتقاليد الممارسة إلى وقت قريب في الريف والمدينة بدرجة أقل تجعل من عيد الأضحى كمناسبة ميلاد جديد لكل فرد وفي ظل المتغيرات المختلفة زحفت عادات وقيم عصرية غدتْ النزعة الاستهلاكية لدى الناس، فكان ذلك على حساب أمور جوهرية يراها البعض تراجعت بشكل كبير وبموزات ذلك أصبح العيد يقترن لدى البعض بالتباهي والتفاخر.
فكيف ينظر الناس إلى ما كان وما هو كائن في ضوء ما لمسوه خلال الاستعداد لعيد الأضحى المبارك في محافظة تعز؟
العيد في الريف
الشيخ عبده حسن يتحدث عن العيد في القرى:
كان الناس يعيشون حياة بسيطة والمستوى المعيشي بسيط لكنهم كانوا ينتظرون العيد وكأنه نبع من نور يغتسلون فيه روحاً وجسداً ويتطهرون من التعب وأدران ما قد يعتور العلاقات الإنسانية والأسرية قبل مجيء العيد، عملاً للسنة النبوية والمثل التي توجت قصة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل، وهي القصة الواجب تمثلها وهضمها إلى جنب مقاصد فريضة الحج في ضوء هذا كان الناس البسطاء في القرى يمارسون حياتهم الثقافية الحقيقية النابعة والراسية في أحضان الدين الإسلامي الحنيف وما ارتبط فيه من موروث فني وإبداعي أصيل، فالتقاء أبناء القرية الواحدة أسر وعائلات، ثم تجمع أبناء عدد من القرى لأداء الصلاة صباح العيد في مكان واسع وعقب صلاة العيد ينتظمون في حلقة يحيطها الفرح والمسرة والشعور بالتصافي والتسامح وتجديد طاقة المودة من خلال التصافح وتبادل التهاني بالعيد السعيد، ثم بعد التفرق والقيام بالذبح (الأضاحي).. كانت لقاءات ما بعد ذلك تنشط الجوانب الوجدانية والروحية وعلى فرح يومي على مدى عشرة أيام عيد الأضحى المبارك، فهو العيد الكبير في ثقافة كل أبناء اليمن وليس أبناء قرى محافظة تعز، لكن هذه الممارسات تراجعت وحلت ممارسات جديدة.
مناسبات رائعة
لقاءات المقيل كانت إلى ما قبل عشرين سنة حسب ما يقول الحاج قاسم حيدر في قرى ومديريات تعز الريفية، كانت قصيرة بحساب الزمن لكنها طويلة بمقاييس روعة المناسبة وما تشهده حالة الناس من تبدل يدوم لفترة لا بأس بها، فكل شخص يقتصر ذاكرته لتتضوع عبيراً ليمتزج بجو النكتة والدعابة، وتلاقح حكمة كبار السن وخبرتهم مع أحلام الشباب بأن يكون المستقبل أفضل على كافة الصعد.
وظيفة اجتماعية
ويقول الحاج قاسم: كان الناس قليلون جداً ولم تكن هناك شراهة لتناول القات والشباب منهم والأريحيون يتسابقون إلى مكان التجمع لانطلاق مواكب البرع في كل قرية كبيرة تجذب إليها أبناء القرى الصغيرة القريبة بعد صلاة العصر، يبدأ الطبل وعلى مدى ساعتين يتوافد الناس وينطلقون قبل المغرب بنصف ساعة إلى الملتقى الجامع لأبناء القرى والعزل المتقاربة بالزامل وأصوات الطبول والبرع فينغمر المكان بمسيرة عيدية جماعية تتلاشى في إطارها كل ما كان يعكر صفو الحياة، أو يضعف العلاقات الإنسانية لسبب ما كالخلافات على الماء والمرعى، أو ما شابه؛ حيث ينصهر الجميع في حالة البهجة العيدية ثم تعود كل جماعة من حيث أتت مثقلة بالمعاني الجميلة والرائعة.
ما مضى جميل
عبدالناصر اليوسفي –رئيس تحرير صحيفة "صوت جامعة تعز"- عبر عن رأيه في جانب مما طرأ وبدأ حديثه قائلاً: في قريتنا والقرى المجاورة كانت لقاءات المجاميع في مكان واحد من المغرب حتى الساعة الثامنة مساءً وخلال هذا الوقت يكون البرع واللقاءات الجانبية كل يهنئ أهله وأحبائه ويلتقي مئات الأشخاص في مكان واحد على مدى أيام العيد، فمن المؤكد أن كل واحد يتاح له أن يجدد علاقته بكل واحد من القرى المتقاربة ومنهم أولئك الذين كانوا في الغربة أو المدن أو لا يمكن لك لقاؤهم خلال أيام العام إلا في العيد.
ليالي مقمرة
ويقول عبدالناصر: كان تناول القات لوقت وجيز، ثم يمارسوا طقوس الفرح في مكان عام وما لا أنساه هو التصادف العجيب لهذه العادة في الغروب إلى الليل، فليالي عيد الأضحى مقمرة على مدى العشرة الأيام، وفي بداية المساء يزداد القمر عطاءً في الأيام الأولى من العيد، مما يجسد صوراً رائعة لتجمع الناس وكأن عناق القلوب الصافية يحتاج إلى ضوء قمر فقط.. في ضوء القمر والإطمئنان الاقتصادي بالقليل مما يملك الأفراد والأسر كان الفرح فياضاً والأمان موجود بحيث أن كل إنسان يطوي صفحة الهموم تلقائياً.
تنافس
وقال عبدالناصر في هذه اللقاءات كنتُ دوماً اتساءل: هل سيبقى وجه الريف بريئاً إلى ما شاء الله، خصوصاً وأني مثل كثير من الشباب نعيش أيام المدرسة في المدينة، وغيرنا ممن يكبرون مغتربون والكل يتحسب لأي ظرف قد تمنعه من قضاء العيد في قريته ومشاهدة ما يمكن أن نسميه أمرٌ غريب في مثل هذه المساءات العيدية كالقنص أو النشن في ضوء القمر؛ حيث كان البعض يتنافسون في إثبات جدارتهم في الرماية ودقة التصويب عن بعد بالبنادق "الجرمن" أو "التشيكي"، ثم "الكلاشنكوف"، فكان البعض يحرص على إصابة الهدف اللامع عن بعد (200-300-400) متر، ويحكى الآخرون عنه في السمرة، ولا شك أن الجيل الذي بعدنا لم يُربى على ثقافة أصيلة وقد أسهم في حرمان نفسه من تلك الأجواء الرائعة، أو أن ما طرأ على المجتمع في المدن وصل الأرياف بفعل التطور في المواصلات ووسائل الإعلام وثقافة العصر، فتلاشت عادات وممارسات حميدة ورائعة اعتقد أن في نفوس الكثيرين حسرة على غيابها.. ففي بعض المناطق خسرنا ثقافة تكونت من مئات أو ربما بعض صورها من آلاف السنين، فكل إنسان الآن له إطار محدود يمارس فيه عادات خاصة وإطار العلاقات أصبح ضيق حتى بعد صلاة العيد أصبح المصلون يفرون ويتسابقون على الطريق في الحاضر.
تراجع الموروث
كثيرون باتوا يلمسون اختفاء المظاهر الاجتماعية المروثة للعيد ذات الصلة بحالة الترقب والاستعداد الجماعي في إحياء المدن من هؤلاء أحمد الزواحي، الذي يقول: العيد في أيامنا هذه يختلف في أشياء، منها ذلك التشوق والترحيب، فقد كان الصغار والكبار يبهجون لمقدم العيد قبل شهراً ونصف شهر، فالكل يتجهز بالكسوة ولوازم المناسبة، ويذهب بها إلى أقرانه ليريه ما لديه وربما يس..... ..... العيد لا ينام الأطفال ذكوراً وإناثاً الجميع في نشوة بانتضار فجر العيد، فالشباب والشابات يتجمعون في أحياء مدينة تعز، وحتى الأطفال لم يكن هناك موانع وتزمت يمنع لقاءات هؤلاء وتجمعهم كل مجموعة في بيت لتبادل الأحاديث عن العيد ولعب الغماية وغيرها مما يلعبونه طول أيام العيد، إلى جانب الخروج إلى المعايدة صباح العيد، والتنزه؛ حيث توجد المياه والخضرة ومن يملك سيارة يقوم برحلة ومعه مجموعة من أبناء حارته.
علاقات أصيلة
وقال أحمد: عندما حصلت طفرة بمقاييس اليمنيين وجرت الفلوس في أيديهم في السنوات الأخيرة تبدلت أشياء كثيرة، وبات التباهي والتفاخر سيد الموقف وأصبح الأمر وكأن هناك تراخي في العلاقات الأصيلة التي كنا نلمسها في المناسبات الدينية، فالعامل الاقتصادي غير كثير من المواقف والأخلاقيات، فالآن أنا كأب بالكاد وفرت كبش العيد وكسوت الأطفال، وهناك سلسلة مطالب يصعب على كثير من الناس توفيرها.. ووجود الحدائق والمتنزهات يجتذب الأسر والأطفال للهو بالآلات واللعب على حساب أشياء كثيرة كانت قديماً تنمي في الأبناء، ما يعكس القيم والأخلاقيات التي شرع العيد من أجلها، وكذلك أهداف السلوكيات والألعاب الشعبية الموروثة بتقنياتها البسيطة لم تعد كما كانت لأن روح العصر وطابعه المادي هو المسيطر وكان الأحرى أن يعمل الجيل القديم على غرس العادات والتقاليد التي ضعفت لأنها جزء من تاريخنا والواجب احترامه، فحين نؤسس شيء حميد في عقول ونفوس الأبناء تبقى خالدة ومعيناً للبهجة في كل وقت وليس الأعياد والمناسبات فقط.
القـوة الشرائية
في ظل حياة العصر أصبحت القوة الشرائية هي المحدد الرئيسي لأحاديث الأفراد والأسر طيلة الأيام التي تسبق العيد، فهناك أناس منقطعون عن أهلهم في القرى من سنوات كبلتهم حياة المدينة، فلم يستطيعوا زيارة الأهل، نظراً لارتفاع تكاليف المعيشة، ومتطلبات المناسبة والأهل لهم ظروفهم فلا يزورون أقاربهم في المدن إلا في إطار زيارة عمل أو عيادة طبيب.. هكذا يقول صالح عبدالله الريمي، وبالتالي فهو مجبر أن يقضي أيام العيد في تعز، خصوصاً وأن القرية لم تعد معطاءة كما كانت، إذْ يقول: إذا سافرت إلى القرية فلابد أن أوفر أكثر من مطالب العيد هنا فلن أجد أضحية ولا قات ولهذا سأرسل أبني بعد العيد لأداء الواجب.
حالة الأسواق
لكن مدينة تعز لا تضم الفقراء وحدهم فأسواق المدينة شهدت خلال الأيام والأسابيع الأخيرة إقبالاً ملحوظاً ومتزايداً على شراء متطلبات العيد وحاجياته من ملابس وحلويات ومكسرات، إلى جانب الإقبال الكبير على شراء الأضاحي.. وكان الملفت حقاً لبعض ربات البيوت إقدام النساء على شراء الذهب رغم ارتفاع أسعاره.. تقول أم حسام (مُدرسة) كان التباهي بالملابس هو المعروف، وهذا متاح للجميع كباراً وصغاراً ونساء ورجالاً، لأن السلع في السوق متوفرة للكل الهم هو المال والذوق، فعلى قدر ما تملك تجد ما تشتريه لكسوة افراد الأسرة والصدقة على المحتاج، لكن هناك موجة تباهي بالذهب وإقبال على شرائه، فالذهب أصبح موضة ومن يملكن المال يشترين بدلاً من زوج أقراط (وزغ) ثلاثة أزواج ويلبس هذه الأقراط في نفس الوقت.. وتضيف أم حسام: حقاً لا يملك الإنسان العاقل إلا أن يقول "لا حول ولاقوة إلا بالله" فأي موضة تجعل المراة تثقب أذنها ثلاثة ثقوب لتلبس الحلق بهذا الشكل إلى جانب مسوغات أخرى.
إسراف وتفاخر
بعض كبار السن من النساء يأسفن للعادات الاستهلاكية التي تتجاوز الحد في الأعياء، وسوء تصرف النساء، ومنهم متعلمات أو من أسر فاصلة، لكنها تفرق الأموال على الفتيات لمتابعة الموضة من ذهب وملابس مرتفعة تبدل بعض العادات والتقاليد وحلول سلوكيات دخلية أو أن أغراضها دخيلة، فمثلاً كأن الناس جميعاً على مستوى أسرهم يلتقون ويتبادلون أطراف الحديث بما يكفي يوم العيد بعد زيارة الأقارب والأرحام وعيادة المرضى، ومن في حكمه واليوم الثاني استقبال ضيوف والذهاب إلى الأماكن البعيدة إذا كانت لأحدهم أقرباء وأرحام ثم رحلات وما إلى ذلك حسب قدرة كل شخص في ظلها يتلمس واقع المحتاجين ويعطف عليهم.. أما اليوم فإن سألت امرأة عن أولوياتهم فتقول: أريد أعمل عزومة للنساء يوم كذا، ويوم كذا سأكون عند فلانة، وبعدها عند فلانة، والمطلوب في كل اجتماع كهذا قات ومداعة يسبقة وجبة حلويات وكيك وكعك ومشروبات وفواكه وطبعاً لا تجرؤ امرأة على عزومة مالم تكن بمستوى غيرها من حيث الأثاث المنزلي والمائدة والقات، ولهذا قبل العيد تتجه النساء للاقتراض من مؤسسات مانحة محلية لتوفير المبالغ لهذه المناسبات التي تكثر في العيد، والتي تبدو وكأنها ولائم تثير تساؤلات عن النزعة الاستهلاكية التي تتجذر في مجتمعنا وترهق الأسرة وتكون على حساب كثير من متطلباتها، لاسيما الأطفال الذين يقادون إلى الحدائق العامة أو الشوارع، وهو ما يعكس حقاً أننا نعاني قصور الوعي تجاه أهمية وإبعاد المناسبات الدينية وما ينبغي أن نعمله فيها، وما يجب أن يخضع لتقييم ومراجعة.
العيد تواصل حميم
بعض الأكاديميين في علم الاجتماع وعلم النفس يرون أن هناك جانب وميض في حياة المجتمع يغطيه غبار النسيان بفعل سرعة إيقاعات زحف قيم العصر وعاداته العابرة لحدود العلاقات الاجتماعية التي يجب أن توضع تحت مجهر العيد لترميم ما خُدش منها، و..... ما اعتراه البرد وانعاش ما أصابه الفتور، ومد جسر الترابط والعطف ليصل إلى حيث ينبغي أن يصل دون أن يحرم الإنسان القادر نفسه من إشباع حاجاته في العيد، وغيره ويرى هؤلاء أن هناك صيغ للتعامل مع الأشياء من خلال القشور والمظاهر الفضفاضة على حساب الجوهر وهو ما يرفع مستوى الانفاق في العيد إلى حد تبدو معه الرغبات والمطالب وكأنها مرضية لدى البعض، ويؤدي ذلك شعور الفقراء بأن الحواجز بينهم وبين سواهم ترتفع أكثر فأكثر، الأمر الذي إذا لمس على نطاق واسع يسبب كراهية الفقراء للأغنياء ويضعف الروابط بين أبناء الفئة والمستوى الواحد عندما تصبح فرص تصادم الأفكار والرغبات في اللقاءات العيدية والاجتماعات الأسرية هو الغالب وعلى حساب ما ينبغي أن يكون محور هذه اللقاءات كونها تجسد الأصل في العيد، وهو التواد والتراحم والتواصل الحميم والحديث فيما هو خير وسبيل للسلام الأسري والاجتماعي.