غسان الامام/الشرق الاوسط - قمة على سطح الصفيح الساخن لم تعد قمة موحشة على جبل عال. أكثر من ستين سنة من القمم المفصولة عن المنحدر. ستون سنة من جداول الأعمال الرتيبة لقضايا تقليدية دائمة. ستون سنة من قرارات لا تنفذ. ستون سنة من بيانات الإنشاء والكلام المكرر عن التضأمن، وعن الرفض الذي تحول الى قبول، والى لوكٍ لـ«قات» السلام المخدر للهمم والأعصاب، فيما الدولة الغاصبة تقضم وتستوطن وتقسم، وتذل وتجيع المحتلين أمام أمتهم.
لا القمة قمة. ولا القرار قراراً. ولا التضأمن تضأمناً. ولا الجبل صخراً صامداً ممتنعاً. القمة اليوم لقاء موجع لاسع على سطح من الصفيح العربي الساخن. القمة اليوم تعقد فوق صفيح هش مهدد بالتهاوي، ليجد عرب القمة أنفسهم جنبا الى جنب مع عرب المنحدر في مصير واحد.
لا جدوى من المطالبة بقرارات. لا جدوى من وضع حلول لمشاكل لا تحل. لا جدوى من المطالبة بالتنفيذ. لعل الأجدى أن يكون لقاء الخرطوم مجرد خلوة يقترب فيها الذين يملكون ويحكمون من ملامسة الواقع الساخن للمحكومين. مجرد لقاء تسقط فيه شكليات المراسم وتغيب عدسات الدعاية والإعلام، أمام السؤال المصيري: لماذا بلغ تدهور الوضع العربي الى هذا الحد؟ لماذا يعاني المجتمع العربي من عوامل الحَتِّ والتفكك والاهتراء؟ لماذا بات النظام العربي نتيجة لذلك؟ مهددا اكثر من أي وقت مضى؟
لست داعية للتشاؤم. هناك الكثير الذي تحقق. وهناك الكثير من الأمل في تحقيق أكبر. لا ضرورة للتكرار في سرد ما تحقق. يكفي الانتباه للموجب والسالب. في الصورة الراهنة. أعتقد أن الأمن أكبر إنجاز للنظام العربي. في مقابل الاحتلال والقتل والقتل المضاد في شوارع العراق، تستطيع أن تذرع السعودية ومصر والمغرب طولا وعرضا، ليلا ونهارا، وأنت أمن مطمئن.
الأمن في أهمية الخبز. لا عمل ولا حرية بلا أمن. الأمن مفخرة النظام العربي. لكن الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي ضمنه الى الآن الردع الأمني الرسمي، مهدد بعوامل وظواهر سلبية أخرى.
ما زلت أعتقد أن التزايد السكاني هو أم المشاكل السياسية والاجتماعية فوق وتحت سطح الصفيح العربي الساخن.
النظام العربي أخفق في وضع حد لتناسل الأرانب. نعم، يستحيل إلزام الزوج العربي المنتج بطفل واحد كما في صين ماو، لكن إذا كانت هناك فائدة وحيدة لحلف النظام العربي مع المؤسسة الدينية التقليدية، فهي إقناعها (الذي لم يتم) بمشاركته في حملة إعلامية لإقناع عرب الشارع بالكف عن التناسل العشوائي. إذا كان حفظ البقاء غريزة اجتماعية، فلا بد لعرب القمة من ربط إنتاج الاطفال بإنتاج السلع والغذاء.
في العصر الحديث، تترابط عناقيد الغضب بعضها ببعض. المشكل الاجتماعي هو نتيجة ومحصلة لمشكل اجتماعي آخر. أزمات العمل والبطالة والهجرة من أزمة خوف النظام العربي من الحرمان من الجنة، إذا ربط إنتاج الأطفال بإنتاج الاقتصاد.
العالم العربي وطن بحجم الولايات المتحدة مساحة وسكانا. 280 مليون إنسان يتزاحمون على حاشية ساحلية خضراء وضفاف الانهار، من اصل 12 مليون كيلومتر مربع، معظمها بساط رملي لا خير فيه سوى النفط الكأمن تحته.
في هذا الفقر المدقع من الخضرة والمياه، يبلغ سن العمل كل عام ثلاثة ملايين شاب عربي، بلا تدريب مهني يؤهلهم للاندماج في اقتصاد الإنتاج. لذة التفريخ التناسلي جعلت ثلاثة أرباع السكان في عمر غَضٍ يتراوح بين 15و30 سنة. النظام الرسمي يغتال حقيقة الرقم. يعترف ببطالة لا تتجاوز 15 بالمائة. البطالة الحقيقية المقنَّعَة تضع نحو 70 مليون شاب وفتاة خارج القوة العاملة. هؤلاء المتعطلون هم ذخيرة الغضب واليأس التي يستغلها الاسلام المسيس او المسلح ضد أمن النظام والمجتمع والعالم اجمع.
فورة اسعار النفط في السبعينات وظفت توظيفا نسبيا صحيحا في تنمية البنى الاساسية الخليجية. المال العراقي والليبي تبدد في تمويل المشروع الفروسي الخارجي. الادخار الخليجي استغلته المصارف الدولية التجارية في تنمية اميركا اللاتينية وإقراض النمور الآسيوية.
دخلُ العرب من فورة النفط بين عام 2005 وعام 2010 سوف يبلغ ألفي مليار دولار. المال الخليجي سوف ينفق في تطوير التنمية البشرية بعدما استكملت البنى الاساسية. المال المدخر منه يوظف معظمه في مجالات الاستثمار الضخمة في آسيا الصفراء، بعدما تبخرت الثقة الخليجية بمصارف الرجل الأبيض في هذه الحرب التي يشنها على العرب والمسلمين.
لو أن هناك ايمانا حقيقيا بوحدة المصير المشترك، لخرجت خلوة الخرطوم بضمانات وتأمينات، يقدمها عرب الفقر الى عرب النفط، للاستثمار أيضا في العالم العربي، تبديدا لغضب شباب البطالة واليأس والعنف.
في تأهيل ملايين الشباب للعمل، كان في استطاعة خلوة الخرطوم وضع الخطوط العريضة لانتقال التربية والتعليم من العلوم النظرية الى العلوم التطبيقية والمهنية. لكي يدخل العرب العصر، لا بد من انجاز محو امية 150 مليون رجل وامرأة، ووضع الثقافة في خدمة التربية للارتفاع بالعقل الى مستوى المنطق، ولحماية عبقرية اللغة العربية من امية الاذاعة والتلفزيون. الاتحاد الاوروبي يتكلم 25 لغة. خلوة الخرطوم سوق تفقد اللغة الواحدة خلال هذا القرن، إذا ما استسلمت للهجات العامية المحلية.
إضاعة للوقت بحث الأزمات العراقية واللبنانية والسودانية مجزأة ومنفصلة. خلوة الخرطوم مطالبة بدراستها تحت عنوان جريء واحد: «كيف يمكن حماية المجتمع العربي من ظاهرة تعب المادة واهتراء النسيج؟». لا يمكن اتهام الاحتلال والتدخل الأجنبي وحدهما. هناك أسباب عربية، في مقدمتها ضغط القمع الرسمي علي القشرة الرقيقة التي تغلف طوائف وعناصر مجتمع هش. هناك ايضا صحوة الذاكرة الدينية والطائفية والعشيرية التي استعادت من الأضرحة وتوابيت التاريخ مرأى ورائحة المذابح المذهبية.
بيدي لا بيد عمرو وزيد. النظام العربي مسؤول عن طعن نفسه بنفسه. بعد سقوط النظام القومي، سلم النظام التقليدي والراديكالي في السبعينات المجتمع الى المؤسسة الدينية التقليدية. من خلال إشباع المخيلة الشعبية والاجتماعية بجرعات هائلة ومكثفة من التلقين والطقوس، سلمت هذه المؤسسة بدورها المجتمع المحروم من لعبة السياسة، الى الحركات الدينية المتسيسة. في خلو هذه الحركات من الثقافة والفكر والاجتهاد، فقد استنسخت من الإسلام إما نسخة مختصرة بشعار «الإسلام هو الحل» غير قابلة للحوار، وإما نسخة تكفيرية وضعت الدين والعرب في مواجهة «جهادية» عنفية مع النظام والمجتمع والعالم أجمع.
وهكذا، فالنظام العربي يجد نفسه محاصرا بأشباحٍ وأطيافٍ من حروب أهلية ودينية من الداخل، بفعل اهتراء النسيج الوطني والاجتماعي، ومهددا من الخارج إما بالتدخل الدولي بحجة الإصلاح الديمقراطي ومكافحة الإرهاب بقوة الاحتلال، وإما بالسباق الاقليمي النووي بين اسرائيل وايران. مع ذلك، تجد خلوة الخرطوم «فاروقا للشرع» يحاول أن يقنعها بشرعية القنبلة النووية الإيرانية، بحجة أنها ـ لا تضحك ـ موجهة للأغراض والاستعمالات السلمية!
النظام العربي الراهن مهدد في حاضره ومستقبله. ومعه يتهدد المجتمع العربي في أمنه وسلامه واستقراره. لا يأس مع الأمل، لو أن قمة القرار والكلام تتحول الى خلوة، مجرد خلوة على سطح الصفيح العربي الساخن، للتفكير والتخطيط للحاضر والمستقبل. وما أضيق القمة لولا فسحة الأمل
|