المؤتمرنت -
هاشم النحاس يكتب عن أول فيلم سينمائي يمني:
صرخة ألم في انتظار «يوم جديد في صنعاء القديمة»
«يوم جديد في صنعاء» أول فيلم يمني 2005 إخراج بدر بن حرسي، استقبل بترحاب في مهرجان دبي الأخير، وقبله مهرجان القاهرة الذي حصل فيه علي جائزة أحسن فيلم عربي.
لا ترجع أهمية الفيلم إلي رصد الواقع بدقة، وإنما إلي الكشف عما وراء الواقع، أي الكشف عن الحقائق الغائبة عنا نتيجة الجهل بها أو اعتياد معايشتها، ويلجأ الفيلم في تحقيق ذلك إلي أساليب بلاغية تسمح بالقراءة الأعمق للواقع وترفع من مستوي الفيلم كعمل من أعمال الفن وتنجح في تمرير أفكار من الصعب تحريرها.
يبدأ الفيلم بأذان الفجر الذي يسري بين أرجاء بنايات صنعاء القديمة المميزة معلنا عن قدوم يوم جديد.. وينتهي الفيلم بمشهد قبيل طلوع الفجر وإيناس تنسحب من فوق الجسر علي أن تعود في الغد في الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل تنتظر مرة أخري حبيبها طارق، الذي وعدها بأن يلحق بها ليهربا معا ويتزوجا ولم تفقد إيناس الأمل وهي تنتظره في كل مرة حتي مطلع الفجر، ليصبح معني اليوم الجديد، الذي يحمله الفيلم دلالة أخري غير الدلالة الفلكية لدوران الأرض حول نفسها.. وهي دلالة ذات مستويين أحدهما يقيني يخص إيناس والآخر احتمالي يخص الوطن المحدود «اليمن» أو «الوطن الأكبر» «العالم العربي» الأمر الذي تكشف عنه أحداث الفيلم.
يقدم الفيلم نفس القصة التي قدمتها السينما المصرية وغيرها عشرات المرات عن الشاب الثري الذي يحب فتاة فقيرة ويريد الزواج بها لكن أسرته تفرض عليه الزواج من فتاة غنية تنتمي لطبقة أو قبيلة لها مكانتها ولكن بينما تغرق معظم هذه الأفلام في بحار الميلودراما لمجرد إثارة الشفقة وإدرار الدموع، يتجنب الفيلم اليمني الميلودراما تماما ويعالج الأحداث بواقعية تكشف عن الجذور الثقافية للمجتمع التي تتحكم في تصرفات الشخصيات.
نحن داخل مجتمع مغلق يطبق عليه تقاليد قبلية تتحكم في أكثر تصرفات الفرد خصوصية كالحب والزواج، والحوار الحاد المباشر بين طارق وأخته حول الزواج يؤكد هذا المعني، ويرهص بالنهاية المحتومة للأحداث، وعندما عاقب مدرس اللغة الأجنبية إحدي تلميذاته وكانت تنتمي لإحدي القبائل المعروفة، كان مصيره التسلل ليلا هربا من البلد في زي امرأة. كان عقابه لها ضربة بسيطة بعصاه الصغيرة علي كفها.. وتصرخ الفتاة فنجد الصرخة تمتد علي مشهد يطوف في عدة لقطات بجوانب المدينة علي غرار ما سبق مع أذان الفجر، مما يوحي بالربط بين عمق العصبية القبلية والعصبية الدينية في المدينة.
وفي لقاء بين بعض رجال المدينة والمستشرق الأجنبي يعبرون له عن رؤيتهم للكون المليء بالجن والعفاريت.. وبينما هبت إيناس للجسر أول مرة لانتظار طارق كان هو يصلي حتي يغفر الله له جريمته.
ولم تكن الجريمة التي يعنيها ـ في ظني ـ هي عدم وفائه بالوعد مع إيناس وإنما هي في ظنه إقدامه علي التفكير في الزواج بها والخروج عن تقاليد القبيلة.
الفيلم نراه من وجهة نظر مستشرق إيطالي، راح يصور كل ما في المدينة مبهورا بما يراه من تصرفات الناس وما يسمعه منهم، أو عنهم.. وإن فشل في تصوير المرأة التي نراها محجبة أو منقبة وتمني أن يصورها لكنه يواجه في كل مرة بالرفض القاطع.. ورغم انبهار المستشرق الأجنبي بما يراه لم يقع الفيلم في مطبات النظرة السياحية للحياة اليومية، كما لم يقع في مطب النظرة المعاكسة الاستعلائية واستطاع أن يوظف ما عرضه من تقاليد أو ممارسات شعبية داخل البناء الدرامي بموضوعية محايدة كما فعل في استعراضه لطقوس الزواج اليمني، حيث وظفها لنشر إشاعة عن سرقة إيناس لفستان بلقيس.
والقصة مليئة بالكنايات التي تحمل دلالات رمزية وهي دلالات غير مقحمة، كما أن بناء الأحداث ورسم الشخصيات من القوة الواقعية بحيث يمكن متابعتها في ذاتها دون النظر إلي دلالاتها التي تبقي في الخلفية لمن يريد التوصل إليها ولعل أولي الدلالات نستشفها من الأسماء التي تمثل بعض المفاتيح للولوج إلي المعاني الخلفية، من الأسماء «بلقيس»، الفتاة الجميلة التي تحظي باحترام من حولها وتنتسب إلي قبيلة ذات مكانة مرموقة.. ويفرضون علي طارق الزواج بها، يحيلنا اسمها إلي بلقيس ملكة سبأ التي تمثل الحضارة اليمنية العريقة أما إيناس، التي أحبها طارق فيرتبط اسمها بالحداثة ويشير إلي الأنس والمؤانسة ويتعلق بمهنتها حيث تقوم بتجميل الفتيات برسم النقوش علي أجسادهن.
وطارق بحبه لإيناس ورغبته في الزواج بها يتطلع إلي الحداثة والحب والحرية والفن بينما تفرض عليه القبيلة الزواج من بلقيس تمسكا بالتقاليد القديمة والحضارة والمجد التليد والمكانة الاجتماعية وصراع طارق النفسي بين بلقيس وإيناس يمكن ترجمته علي أنه صراع الهوية العربية بين القديم والحديث أو بين الأصولية والمستقبلية أو بين التماهي في المجموع «القبيلة»، واحترام الذات الفردية وعندما يحتدم الصراع داخله يلجأ إلي الصلاة ليتخذ من الدين إطارا لخضوعه للقديم.
ولعل طارق هو الصورة العكسية لطارق بن زياد الذي اجتاز المضيق «المكاني» ليوسع من الامتداد الجغرافي للحضارة العربية أيام ازدهارها بينما فشل طارق المعاصر في الفيلم في اجتياز المضيق «الزمني» الذي يفصل بين القيم التقليدية القديمة والقيم المستقبلية التي يتطلع إليها.
أما حادثة اختفاء فستان بلقيس والإشاعة التي انتشرت بين نساء المدينة بأن إيناس هي التي سرقته، فهي تشير إلي أكثر من دلالة منها ما يتعلق بالصراع الطبقي، ومنها ما يشير إلي المخاوف اللاشعورية الجمعية لدي النساء من قدرة إيناس علي اختطاف طارق من بلقيس.. وهي أيضا تكشف عن دور الإشاعة في ثقافة المجتمعات المغلقة، كما تشير علي المستوي الرمزي العام إلي اتهام الأصولية للحداثة بسحب البساط من تحت أقدامها.
ومن أفضل مشاهد الفيلم ـ في رأيي ـ المعبرة علي المستويين الواقعي والرمزي معا. وفيه ينبع الرمزي عن الواقعي تلقائيا دون إقحام، المشهد الذي يجمع بين طارق وإيناس قبيل النهاية، عندما يتسلل طارق إلي بيتها فتسرع إيناس إلي داخل البيت وتغلق الباب الخشبي الكبير بينها وبينه وترجوه أن يتركها وشأنها حتي لا يضاعف من آلامها، ويبقي الباب القديم حائلا بينهما، بينما يستمر الحوار حيث يواصل طارق تعبيره عن مشاعره نحوها ورغبته الأكيدة في الزواج منها، وهي ترد عليه من الجانب الآخر من الباب إلي أن تلين لكلماته أخيرا ويتم الاتفاق بينهما علي موعد اللقاء علي الجسر ليهربا معا، وهو الموعد الذي لم يلتزم به طارق بينما تمسكت به إيناس وظلت تنتظر هذا اليوم الجديد في صنعاء القديمة.
ويكمن ذكاء المخرج السيناريست أنه قال كل ما يريده دون المساس المباشر باحترام التقاليد حيث جعل طارق في النهاية يخضع للتقاليد راضيا ويقبل الزواج من بلقيس.. وهو ما يتسق أصلا وبناء الشخصية والثقافة المسيطرة المتسلطة، وفي الوقت نفسه جعل من انتظار إيناس المتكرر لقدوم طارق، نهاية مفتوحة بالأمل.. ومن الممكن أيضا اعتبار هذه النهاية صرخة ألم، أو نوبة إيقاظ أو صيحة تحذير لا تقتصر علي صنعاء القديمة فقط التي تنتظر يوما جديدا وإنما تشمل أركانا عديدة في العالم العربي كله خاضعة لتقاليد عتيقة جامدة تعوق الحياة وتقف في طريق تحقيق القيم الإنسانية المعاصرة.
عن القاهرة