المؤتمر نت -نزار العبادي - المؤتمر الشعبي العام ضرورات تاريخية للتأسيس الديمقراطي على أساس من واقع الأبجديات التاريخية للفلسفة الديمقراطية الناشئة في بقاع مختلفة من العالم، تجمع الغالبية العظمى من الباحثين – عرب وأجانب- على أن الديمقراطية في اليمن هي من أبرز الأنماط الفلسفية الديمقراطية الحديثة في العالم، وهي التجربة العربية الفريدة من نوعها في العالم العربي من حيث عقائدها الفكرية أولاً وحجم تمثيلها لمبادئها في ميدان العمل السياسي.ثانيا.. وهذا الرأي يبني أحكامه على المفردات السياسية لمسيرة الحركة الثورية الوطنية وخلاصة ممارستها الديمقراطية ابتداءا من صياغة الثوابت السياسية للدولة ثم بلوغ التعددية السياسية عبر المؤتمر الشعبي العام التي ما لبثت أن توجت خبراتها بالممارسة الديمقراطية بإطلاق التعددية الحزبية والتحول إلى موقع نافذ في مؤسسة الحكم ليصبح الشعب بكل فئاته وتوجهات الفكرية هو مصدر السلطات جميعا والمرجع الوحيد لها.
وفي نفس الإطار ظلت سمة التميز التي حظيت بها الديمقراطية في اليمن محض صناعة فلسفية متفوقة على عصرها وتحرص جميع الدراسات السياسية على إدارجها في مقدمة الانجازات الكبيرة للرئيس علي عبدالله صالح واعتبارها الهوية السياسية الطاغية على عهده في السلطة لكونه الرجل الذي نجح في صياغة فلسفتها الواقعية والتعريف بمناهجها الفكرية من خلال صياغة (الميثاق الوطني) ووضع الآليات والمؤسسات الدستورية الواضحة التي كفلت للهدف الديمقراطي المناخات المناسبة لترجمة برامجه وتطوير الممارسات والخبرات المعرفية بالتجربة عند القوى الوطنية المنضوية تحت منظمة المؤتمر الشعبي العام ومن ثم تأهيلها لمباشرة مسئولياتها فعليا في الساحة السياسية اليمنية.. ولعل تلك العناصر كانت من أهم مقومات نجاح المشاريع السياسية للرئيس علي عبدالله صالح في قيادة الدولة اليمنية وتحقيق أهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م وفقاً لمناهج عمل المؤتمر الشعبي العام وهو الأمر الذي لم تدركه بدقة القوى السياسية السابقة لعهده وقادها ذلك إلى التعثر في الوصول إلى الممارسة الديمقراطية السليمة أو إنماء مؤسساتها الحقيقية رغم أنها وردت الهدف الرابع من أهداف الثورة السبتمبرية وإن جميع دساتير الجمهورية العربية اليمنية تؤكد على أن جميع السلطات مصدرها الشعب – ابتداء من الإعلان الدستوري الأول في أكتوبر 1962م وحتى نشأة الدستور الدائم لعام 1970م إلا أنه نتيجة للأوضاع الاستثنائية للجمهورية منذ ولادتها لم يطبق أي من الدساتير والإعلانات الدستورية المعلنة وكان هناك قصور في الأساليب المتبعة ووسائلها في الوصول إلى رأي الشعب وتوجهاته.
خصوصية التجربة:
إن من أبرز ملامح الفلسفة الديمقراطية للمؤتمر الشعبي العام هي أنها ذات خصوصية يمنية بحتة وتستمد السمة التوازنية لفكرها الثورية من الإيمان بالحداثة والتجديد مع الحفاظ على العناصر المشرقة في تراثها العربي والإسلامي العريق.. إلى جانب كونها فلسفة واقعية تخضع جميع أبجدياتها الفكرية وتوقيتات برامجها لظروف بيئتها اليمنية وواقع حال ساحتها السياسية وعقائد الجماهير اليمنية وغاياتها الوطنية في التحول والبناء التنموي. فحالة التشطير وآثارها التبعية والمنزلق السياسي التي انحدرت إليه السلطة في كلا الشطرين فرض على الرئيس صالح التفكير مليا في وسائل وطنية فعالة تعزز من وحدة القوى اليمنية العاملة في الساحة السياسية وتحصن الجماهير والثورة فكريا وبعيداً عن التيارات الدخيلة التي أخذت تستشري في الساحة والتي أبدى الرئيس عزيمته على مواجهتها بقوله: "لا بد من مواجهة التيارات الفكرية الغازية والمتسربة من فكر يمني يواجهها.." ومن هنا تجلت إرادة الرئيس علي عبدالله صالح على صياغة فلسفة يمنية ذات خصوصية تترجم واقع المجتمع وتطلعات الجماهير وتتوافق مع إمكانياتها المادية والثقافية والاجتماعية فكان أن تمخض الجهد الرئاسي عن صياغة "الميثاق الوطني" وميلاد "المؤتمر الشعبي العام" في 24-29 أغسطس 1982م وقد شهد الطريق إليهما أول وأوسع ممارسة ديمقراطية عرفها الشعب اليمني منذ ثورته المباركة إلى يومه هذا.
وبالعودة إلى فلسفة الميثاق الوطني يلاحظ أنه كان دقيقاً جداً في توجهاته الديمقراطية يؤطر حقوق وحريات الفرد المادية والشخصية بضوابط شرعية لا تتعدى ما يكفله إياها الدين الإسلامي الحنيف وتلزمه بها السلوكيات الأخلاقية للمجتمع- وإن اختلفت وسائل تحقيقها بما ينسجم وثقافة العصر –وكذلك ربط الميثاق الوطني الانتماء القومي والعربي جنباً إلى جنب مع العقيدة الإسلامية ليكسب من خلالهما تحصين الوطن اليمني فكريا وحضاريا.. وليعطي المسألة الديمقراطية بعداً فلسفياً شموليا يوصل النظام السياسي للدولة إلى تحقيق الركنين الأساسيين للديمقراطية وهما (الحرية والعدالة) التي تكفلهما النظم الإسلامية التي استوحى الميثاق الوطني أفكارها منها..
إن الصيغة السابقة التي أرسى الميثاق الوطني أصول المنهج الديمقراطي اليمني عليها جعلت من الفلسفة الديمقراطية اليمنية تتفوق على نماذج الديمقراطيات الأخرى – السائدة في العالم آنذاك- وتكسب نفسها استقلالية فكرية ذات طابع يمني مميز فمن الثابت لدى المفكرين أن الديمقراطية الاشتراكية نجحت في تحقيق ركن العدالة إلا أنها سلبت مجتمعاتها الركن الثاني وهو الحرية.. أما الديمقراطية الرأسمالية فإنها حققت الحرية لجماهيرها لكنها في الوقت نفسه أسقطت العدالة وأوجدت حالة من عدم التوازن الاجتماعي بين طبقات ذات ثراء فاحش وأخرى فقيرة.. ولعل مثل تلك الرؤى لم تغب عن قراءات القيادة اليمنية لتجارب التاريخ وبالتالي كانت حذرة جدا من الوقوع في أخطائها وآثرت اختيار مساراتها الخاصة التي تجسد روحها الحضارية والثقافية والاجتماعية.. وقد أكد الرئيس علي عبدالله صالح على حقيقة ما يجب التعامل به مع مفردات التجارب العالمية حين ذهب للقول: (لا بد لنا أن نستفيد من تجاربنا وتجارب الآخرين من خلال دراسة موضوعية لتلك التجارب.. ومعرفة الآثار السلبية لنزيلها ونتجنبها والآثار الإيجابية لنقويها ونطورها وصولاً إلى بناء الدولة الحديثة بناء سليماً شاملاً يجعلها قادرة على تحقيق السعادة والرفاهية والحرية للإنسان باعتباره محور القضية كلها..)
إذن فالمسيرة الديمقراطية لم تنطلق من تقليد أعمى لتجارب سابقة وأنما أعقبت مرحلة ساخنة من الاستقرار الدقيق لمفردات الوضع اليمني أولا ثم التأمل والتمحيص بالتجارب السابقة ومحاولات مضنية لبناء علاقة جدلية بين مخرجات العمليات السابقة والإدارة السياسية المناسبة للتحول وغايات ذلك التحول وسقفه الزمني وكان ذلك من اشق المهام التي تبناها على عاتقه الرئيس صالح منذ الباكورة الأولى لعهده فيالحكم.. وكان من الشجاعة والثقة بالنفس أن انطلق إلى إرساء تجاربها الأولى من مرحلة حرجة ومبكرة جدا نالت إعجاب وتقدير كل الفصائل الوطنية في الداخل والمراقبين السياسيين في الخارج حين اقدم على إصدار الإعلان الدستوري الثالث في 8 مايو 1979م والذي يوسع فيه اختصاصات مجلسي الشعب التأسيسي ويرفع عدد أعضائه من 99 عضوا إلى 159 عضوا بهدف إتاحة الفرصة للمزيد من العناصر السياسية للمشاركة في السلطة بعد أن كانت مستبعده في العهود السابقة.
ويومئذ توجه إلى أبناء شعبه محاولا إعادة الثقة إلى نفوسهم بقدراتهم وإرادتهم الوطنية مخاطبا إياهم بقوله:
"نرى اليوم أنه لابد أن نقفز بهذه الخطوة دفعة واحد للأمام من خلال ممارسة الشعب اليمني الكبير حقه في التعبير عن أرادته في اختيار من يمثله في هذا المجلس عن طريق الانتخابات الحرة المباشرة النزيهة التي لا تخضع لأي تأثيرات مهما كان نوعها وأننا على يقين من ان شعبنا قادر على أن يمارس حقه في الديمقراطية على أكمل وجه.. وعلى كل حال فإننا- كما ذكرنا- أن للتجربة اليمنية في الديمقراطية خصوصية مميزة وهي لا تتوقف عند مستوى الصياغة الفكرية للاستحقاقات الوطنية والإنسانية للفرد وأنما امتدت هذه الخصوصية إلى أسلوب العمل السياسي للمؤتمر الشعبي العام لبلوغ النموذج اليمني المتكامل والشامل من الممارسة الديمقراطية فالساحة اليمنية التي كانت تعاني من فراغ سياسي وتفتقر إلى أي تجارب ديمقراطية سابقة تستمد منها خبراتها كانت بأمس الحاجة إلى التدريب والتأهيل والأعداد المرحلي الطويل لتصبح مستعدة لاستقبال التعددية الحزبية بهيأتها المتعارف عليها لذا حرص الرئيس علي عبدالله صالح أن يعتمد أسلوب التدريج المنطقي بالعمل السياسي على مراحل متتالية تتعدد خلالها التجارب وتنمو المهارات وتنضج الخبرات فيعبر عن فلسفته السياسية لهذه المسألة بالقول:
" كانت إقامة التعددية الحزبية مباشرة في تلك المرحلة خطأ فادحا في بلد لا يوجد فيه تقليد ديمقراطي ولم يمارس فيه الانتخاب العام أبدا.. لم يكن ينبغي حرق المراحل بشكل غير مسئول وإنما وقبل كل شيء تكوين كادارات وتجميع مناضلين وإرساء أسس حياة عامة عصرية واعتماد المراحل المتتالية.
ثم يتحدث الرئيس عن أهمية تأسيس المؤتمر الشعبي العام وضروراته في أداء هذا الدور فيقول: لم يكن أمرا مجديا أن نقترح كما فعل البعض إقامة نظام الأحزاب فورا لأن ذلك كان سيؤدي إلى الانقسام والشلل والبلبلة كان يتوجب على عكس ذلك تجميع القوى الحية اللازمة وبخاصة التشكيلات السياسية والنقابية داخل حركة واسعة الانفتاح تستطيع أن تختبر أول شكل للانتخاب العام وهذا ما فعلناه بتأسيس المؤتمر الشعبي العام, إذن كانت فلسفة التدرج المرحلي في مسرة البناء الديمقراطي للدولة اليمنية واحدة من أقوى أسباب نجاح تجربة الرئيس علي عبدالله ومنظومته السياسية المؤتمر الشعبي العام فهذا التنظيم بكل التحضيرات التي أدت إلى كينونته أصبح بمثابة ميدان تأهيل الممارسة الديمقراطية وتنمية سلوكياتها وتجاربها ومن ثم غرسها بين أوساط المجتمع كتقليد حضاري للعمل السياسي مؤطر بمحددات واضحة وملزمة اقرتها نصوص الميثاق الوطني الذي جاء ليمهد الطريق إلى اعلان التعددية السياسية والحزبية عبر الحريات التي أباحها للجماهير كما في النص " حرية التعبير عن الرأي والفكر بكل وسائل التعبير وتمتع المواطنين بكافة الحقوق السياسية, وفي الوقت الذي كانت المادة ( 37) من الدستور الدائم للجمهورية العربية اليمنية تؤكد أن الحزبية بجميع أشكالها محظورة.
وبما أن الديمقراطية- وفقا لتعريف المفكرين لها- تقوم على مبدأين أساسيين هما ( الحرية والعدالة) فقد وجهت النصوص الميثاقية فلسفتها بعناية صوب مفاهيم العدل والمساواة بين أبناء المجتمع الواحد فقد أوردت نصوصها ( لا لسيادة لنسب ولا لمال ولا لفرد ولا لطائفة أو شلة من الناس ولكن المواطنين جميعا بنية واحدة تستمد حياتها من كل عضو, وتمد كل عضو بحياته " المواطنون سواسية في حق التصويت وإبداء الرأي وفي كل الحقوق والواجبات وعلى هذا الأساس فإن حق المشاركة في النشاط العام هي حق التمتع بكافة الحقوق السياسية والمدنية وحق الترشيح والانتخاب وحقوق يجب أن تكون مكفولة للأفراد والجماعات على حد سواء يمارسونها بالأساليب الديمقراطية جاعلين المصلحة الوطنية فوق أي اعتبار آخر".
وعليه فإن الفهم اليمني للديمقراطية كان فهما ناضجا وواعيا إلى أقصى الحدود وكان أقوى قدرة على تمثيل نفسه واقعياً من خلال المؤتمر الشعبي العام الذي ترجم كل تفاصيل تلك الفلسفة إلى مشروع طموح للنماء والتطور. وإذا كان مفكرو العالم الاشتراكي والعالم الرأسمالي وغيرهم قد كتبوا لشعوبهم فلسفات ديمقراطية ناقصة تجردهم من بعض حقوقهم الإنسانية فإن المفكر اليمني الرئيس علي عبدالله صالح كان الأسبق إلى صناعة الفلسفة الديمقراطية العربية الإسلامية الحديثة بكل برامجها الحضارية والثقافية والسياسية.. وكان الأقوى إلى تمثيلها عمليا في الميدان بين جميع فئات الشعب اليمني وقواه السياسية والوطنية التي نراها اليوم تعمل في الساحة السياسية بكل إيمان وثقة بإرادتها وحقوقها الإنسانية المشروعة ونحن إذ نتناول فلسفة التجربة الديمقراطية اليمنية للرئيس علي عبدالله صالح ومسيرتها الثورية – فمرادنا الوقوف بإجلال وإكبار لقائد المؤتمر ورئيسه رائد التجربة الموضوعية المعاصرة التي تجمع بين أصالتها الحضارية التاريخية وفكرها الإسلامي وأبجديات العصر والتي من الأولى لمفكري الأمة دراستها بتمعن والاستفادة من معطياتها السياسية والإنسانية والفكرية لتكون خيار الأنظمة العربية وجماهيرها إلى غاياتها المستقبلية وعزتها وكرامتها الإنسانية.
|