المؤتمر نت: بقلم جيرار نيكو- ترجمة: خالد طه الخالد - طريق البن (1-3) في بلاد وُجد البن للمرة الأولى على الهضاب المرتفعة لإقليم "كافا" في أثيوبيا قبل آلاف السنين، ظهر البن في جنوب غرب إثيوبيا، واحدة من أقدم أمهدة الإنسانية.
روى "هومير"، كاتب الملحمة الشهيرة أن "جوبيتر"، كبير آلهة الرومان، قد اتخذ من هذا الصقع العامر مقراً لإقامته الدائمة.
وهنا تكونت الدولة قبل أية أمة أوروبية. وهذا هو البلد الوحيد من بلدان شرق أفريقيا الذي يملك منذ أكثر من ألف عام كتابة أصلية ولم يخضع للاستعمار قط.
إلا أن هذا هو البلد الذي يظهر بشكل دوري على شاشات التلفزيون بملامح الأطفال الهزلي وقد أكل الذباب أوجههم، وهذه ليست المفارقة الوحيدة في أثيوبيا.. جيما، إثيوبيا، (صحيفة لوفيغارو).
بقلم: جيرار نيكو
ترجمة: خالد طه الخالد
يطلع النهار في هالة كثيفة من الضباب المخيم على محطة الطرق في مدينة "جيما"، عاصمة إقليم "كافا" في إثيوبيا. الجو تغمره الرطوبة على هذه الهضاب العليا الواقعة على ارتفاع 1600 متر فوق سطح البحر، والتي تبعد حوالي 1000 كم عن خط الاستواء.
ظهر البن في هذه المنطقة قبل حوالي ألفي عام.
وظهر على الأقل قبل أربعة آلاف عام إذا ما صدقنا بعض مفسري الكتب المقدسة الذين يستندون إلى التوراة، ففي "كتاب صاموئيل"، في الفقرة السابعة عشرة، الجملة 23 نقرأ" "كان ثمة قمح، وثمة شعير، وثمة حبوب محمصة" من البن؟
وتعتبر إثيوبيا، التي قدمت لنا هذا المشروب المعشوق عالمياً، مهد الإنسانية، بعد اكتشاف الفتاة "لوسي" في 1974م والتي يقدر عمرها بـ3.2 مليون سنة.
وتبدو اليوم مدينة "جيما" نظيفة جداً.
كما أن معظم الشوارع مرصوفة وهذا أمر نادر حتى في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
وهناك بصمات واضحة للاحتلال الإيطالي، الذي لم يستمر إلا من 1936م إلى 1941، في بعض المباني المشيدة بالأعمدة مثل مبنى البلدية والبريد والسينما.
ويقول "سنتايم الأميرين"، نائب رئيس جامعة البن في "جيما": "ظهر البن بالتحديد في "بونغا"، وهي قرية تقع على بعد 110 كم جنوب غرب هذه المنطقة".
ويظهر هذا الرجل علانية حنينه للفترة الماركسية (1974- 1991) التي عرفتها البلاد بعد سقوط "هيلا سياسي"، ملك الملوك وآخر أباطرة إثيوبيا.
لقد بنت إثيوبيا تاريخها على الأحجار القديمة وعلى الأساطير التي ما زالت رائجة حتى الوقت الراهن.
على سبيل المثال، انحدار أباطرة إثيوبيا مباشرة من السلالة التي نتجت عن الزواج القديم بين الملك سليمان وملكة سبأ. وفيما يخص البن هناك قصة كلدي.
وتروي هذه الحكاية الجميلة عددُُ من الكتب، ولا سيما تلك الموجهة للأطفال.
"كان يا كان في قديم الزمان شخص يدعى "كلدي"، شاهد ذات يوم أغنامه تتقافز وتقف على أرجلها الخلفية، يقال أنها كانت ترقص. أثار المشهد "كلدي" الذي لاحظ بالقرب من أغنامه أشجاراً غير معروفة عليها ثمار حمراء.. قطف منها واحدة، تفحصها بعناية، ثم قرر فجأة أن يأكلها.
وبعد لحظات، أحس كلدي بحيوية غير معهودة، وشعر برغبة جامحة في الرقص! أخذ كلدي، وهو في حيرة من أمره، هذه الثمرة إلى القرية، وذاقها جميع الناس. وفي الأيام التالية، ظهرت أكواخ جديدة في القرية وأثمرت الحقول واتسعت الطرقات. وسرعان ما انتشر خبر النشاط المفاجئ لهؤلاء الفلاحين. وبادر التجار إلى شراء هذه الثمرة وصدورها إلى أقاليم "يرغاشافي" "وهرر.".
"يرغاشافي" تدعى اليوم "يرغاليم"، وتقع في "سيدامو" في جنوب البلاد، وهي ثاني أكبر إقليم في إنتاج البن.
أما "هرر"، التي تقع في الشمال الشرقي، فقد كانت فعلياً أولى المدن في تجارة البن. هؤلاء التجار لم يكونوا مصدرين إثيوبيين بل كانوا مستوردين يمنيين، أتوا عقب الغزوات العربية المستعمرة منذ القرن الثالث عشر.
لكن طريق البن تغيرت مع مرور الزمن وأصبحت اليوم أديس أبابا محور الصادرات الإثيوبية. وتبيع البورصة اليومية الكميات المتوفرة بالمزاد. يقوم التاجر بعد ذلك بفرز البن، ثم يتم نقله على شاحنات إلى ميناء جيبوتي.
تقدر مسافة الطريق بين "جيما" وأديس أبابا بـ336 كم وهي مليئة بالحفر التي تعمل الأمطار في هذا الموسم على زيادة تخديدها، وعلى جانبي الطريق ترى الحقول خضراء بأشجار الفاكهة والذرة وأشجار البن.
في إثيوبيا ليس هناك من ثروة غير الأرض، لا يوجد فيها لا الكربون ولا البترول ولا الذهب. وعلى مر الأزمان يستغل أولئك الذين لا يزرعونها من يعملون بها.
يقول أحد الأمثال الإثيوبية (العبودية مكافأة مهارة الأيدي، والسلطة مكافأة مهارة اللسان).
ويعمل كل من الإمبراطور والإقطاعيين والكنيسة والجيش على إرهاق عائدات الفلاحين المتواضعة. وخلال ثلاثة أعوام مضت لم تهطل الأمطار على إثيوبيا.
ومما زاد الطين بلة، أن الأسعار العالمية للبن في أدنى مستوياتها.
وهذا العام جاء المطر على الموعد وأعاد للريف خضرته لكن في كثير من الأقاليم بما في ذلك الجنوب "وسيداموا" لم يعد لدى الفلاحين شيء وأصابتهم الفاقة، ويلخص الحال أحد الأثيوبيين وهو ينظر إلى حقول الذرة الكثيفة: أنها المجاعة الخضراء.
تعتبر "الأورومو" في الجنوب، السلالة الأكبر في إثيوبيا، لكنهم لم يتولوا السلطة منذ أن وجدت البلاد، السلالة الكبيرة الأخرى هي "الأمهرا" في الشمال هي التي تحكم البلاد دائماً.
ودون شك أنهم قد أوجدوا الحضارة، بالمعنى الأوروبي للمصطلح، كما تعد إثيوبيا البلد الوحيد في إفريقيا الشرقية التي عرفت، منذ عهود قريبة، الكتابة والأديان التوحيدية والعملة وفكرة الدولة، لكن ما برح الأمهريون في النزوح نحو الجنوب حتى وإن كانوا من الشمال، وذلك لأن الثروة الحقيقية، ثروة الأرض، موجودة في الجنوب.
وهنا كان يعتبر البن فيما مضى كغذاء أساسي حيث كانت تطحن حبوب البن الأخضر وتخلط مع الزبدة ويصنع منهما فطائر.
في الريف، دعانا أحدهم لشرب كأس من البن في منزله، على باب المنزل كانت هناك جملة بالإنجليزية تقول (عندما تشرب كأساً من البن، تتدفق الأفكار كمقذوفات الأسلحة)، وكانت الدهشة كبيرة حين قدم لنا البن وأضاف له مسحوقا أبيضاً، لم تكن سكرا، بل ملحا. أمر غريب لكن الجميع يتناوله، ومذاقه جميل.
كما يلاحظ تقريباً أن معظم الإثيوبيين يتناولون القات وهي ثمرة ذات مفعول قريب من الحشيش.
في الأصل كان رجال الدين المسلمين يتناولون هذه النبتة لكنها أصبحت مألوفة لدى الجميع، دون تمييز.
|