المؤتمرنت -
إعادة النظر لدورالخلايا الشحمية في الإنسان
* لعقود كثيرة ظل العلماء يعتقدون أن الخلايا الشحمية هي عبارة عن كتل سلبية لا عمل لها أكثر من كونها طاقة مخزونة تملأ الأوراك والبطون، وربما تضعف الجسم عن طريق إجباره نقل وزن إضافي معه أينما تحرك.
لكن مع الاهتمام الكبير في الولايات المتحدة بموضوع الشحوم بعد تفشي ظاهرة السمنة هناك، اكتشف الباحثون نتائج متعارضة تماما مع هذه القناعات، إذ اتضح أن الخلايا الشحمية هي ذات ديناميكية غير عادية وهي وحدات معقدة وذات تأثير في مجموعة كبيرة من أنشطة الجسم.
وتأتي هذه الاكتشافات لتسلط الضوء على الخلايا الشحمية، كونها قادرة على التحكم بقوى كثيرة والمحافظة عليها لفترة طويلة. ويقول العلماء إن ذلك يساعد على فهم كيفية تشكل الأنسجة الشحمية، ولماذا تمتلك قدرة كبيرة على المقاومة وكيف أنها تسبب الأمراض، وأخيرا كيف يمكن مساعدة الناس على فقدان الوزن وتجنب المشاكل الصحية المدمرة التي تحملها في طياتها الخلايا الشحمية.
وقال روجر أنغر الباحث في مسائل السمنة في المركز الطبي التابع لجامعة تكساس «كان الانطباع دائما حولها بأنها (الخلايا الشحمية) ضعيفة وليست سوى أكياس غبية من الدهن. لكن اتضح الآن أنها موهوبة جدا ومتعددة القدرات ويمكن اعتبارها من اللاعبين المهمين» في الجسم.
وبدلا من الجلوس في حالة خمول بانتظار قدوم مجاعة أو سباق على الأقدام تستمر الخلايا الشحمية بإرسال عشرات الإشارات الكيميائية المؤثرة إلى العدد الكبير من الأنسجة المنتشرة في شتى أنحاء الجسم بضمنها خلايا الدماغ والكبد والعضلات والأعضاء المشاركة في التناسل ونظام المناعة لكي تنتظم في أنشطة متناغمة.
وقالت بربارة كوركي العالمة في جامعة بوسطن والتي تحتل منصب رئيس جمعية أميركا الشمالية لدراسة السمنة «ستساعدنا معرفة شبكة اتصالاتها في الإجابة على عدة أسئلة مهمة وربما يقودنا ذلك باتجاه معالجة السمنة ثم معالجة الأمراض الناجمة عنها».
* احتياطي طاقة
* والخلايا الشحمية التي تشبه الحراس الذين يقومون بحماية خزان نفط، تقوم بالتنسيق في الفعاليات الهادفة للكيفية التي يتم وفقها خزن احتياطي الطاقة، ومتى وكيف يتم استخدامه. كذلك فإن الخلايا الشحمية تبعث إشارات لتحرير جهاز المناعة أو لتثبيطه. ويصبح الشحم مؤثرا حينما يبدأ حدوث جلطات (تخثرات) الدم، أو تضيق الشرايين. بل أن الخلايا الشحمية تخبر الجسم أيضا متى يستطيع أن يقوم بتجديد خلاياه ومتى يجب انتظار ظروف أفضل للقيام بذلك. واضافة الى ذلك فانها تخبر الجسم وبطريقة ماكرة متى ستقوم بإنتاج خلايا شحمية إضافية كي تحقق استمرارا لوجودها ومضاعفة لتأثيرها.
وقالت ركسفورد أهيما اختصاصية الغدد في جامعة بنسلفانيا «قديما كان الناس يظنون أن الأنسجة الشحمية هي أعضاء سلبية لكن أصبح الآن واضحا أنها تعمل وتفرز هرمونات وبروتينات أكثر من أي عضو آخر. إنها في مركز جهاز معقد جدا، فهي تنسق كم يجب أن نأكل وكم من الطاقة التي يجب أن نحرق وكيف يعمل جهاز المناعة وكيف نحن نجدد خلايانا، والقائمة أطول من ذلك بكثير».
ويعتقد العلماء أنهم ربما شرعوا فعلا في اكتشاف شبكة دقيقة تمتد فيها الشحوم، وربما تقوم هذه الشبكة بعشرات الوظائف وترسل عشرات الرسائل التي تنتظر الإكتشاف، بما فيها ما يمكن أن يؤثر على المزاج والسلوك بما يتعدى غرائز الجوع والأكل.
يقول غوخان هوتامسليجيل، أستاذ علم الوراثة والتمثيل الغذائي (الأيض) بجامعة هارفارد »يعتقد كثير من الناس أن عقلك يسيطر على كمية شحمك، أما نحن فنقدم الفكرة القائلة أن شحمك هو الذي يسيطر على عقلك».
هذا المفهوم الجديد أدى إلى اكتشاف عناصر كيميائية جديدة تطلقها الخلايا الشحمية، وجعل شركات الأدوية تتسابق لإستغلال هذه الهرمونات في مساعدة الناس على تخفيض أوزانهم وتفادي المشاكل الصحية المرتبطة بالسمنة. وفي نفس الوقت فإن هذه الرؤية الجديدة ربما تساعد الناس على تغيير آرائهم المجتمعية حول السمنة، مظهرة خطأ الآراء التي تعتبر أن السمنة تدل على خلل أخلاقي، ومقيمة الدليل على أنها وضع بيولوجي، متميز وعنيد، يملك خصائص التغذية الذاتية. ويقول رودلف ليبل، متخصص جينات الجزئيات بجامعة كولمبيا «تغيرت قواعد اللعبة. وعليه يجب أن تتغير الطريقة التي تنظر بها إلى الشخص المصاب بالسمنة نتيجة لهذا، وذلك قبل أن يقول المعارضون من أجل المعارضة أن هذه مسألة تتعلق بالإرادة الحرة ولا دخل فيها للبيولوجيا. وليس ثمة إعتقاد أبعد من الحقيقة من هذا الإعتقاد».
* اكتشاف حاسم
* الإكتشاف الاساسي حدث عام 1994 عندما اكتشف العلماء هرمونا تفرزه الخلايا الشحمية سموه «لبتين». وضمن وظائف أخرى، يقوم لبتين بتنبيه الدماغ إلى كمية الشحم التي في الجسم. وقد رفع هذا من الآمال بإمكانية استخدامه كدواء لمحاربة السمنة، ولكن هذا لم يتحقق حتى الآن. ومع ذلك فإن ذلك الإكتشاف أوضح للمرة الأولى وجود شبكة إتصال معلوماتية بين الدماغ والخلايا الشحمية. وقد أدى هذا بدوره إلى سلسلة كاملة من الأبحاث كشفت عن إشارات شحمية أخرى، وعن الأسس الجديدة لدور الشحم في الجسم. يطلق العلماء حاليا على الشحم إسم «العضو الأندوكريني» او «العضو داخلي الافراز» مثل الخلاصة الدرقية والأدرينالين والتي تنسق كثيرا من وظائف الجسم. وقال جيفري فريدمان من جامعة روكفيلر بنيويورك، قائد الفريق الذي أكتشف لبتين:«ربما يكون الشحم هو أكبر خلاصة أندوكرينية في الجسم. إن النسيج الشحمي يلعب دورا رئيسا في بقاء كل الأنواع، بحيث لا ينبغي أن نندهش إذا علمنا أن له دورا حاسما في هذا التنظيم الديناميكي.«وقد كان العلماء يعرفون منذ فترة طويلة الدور الذي يلعبه الشحم في تركيب الهرمونات الجنسية مثل الإستروجين مما يجعلها قادرة على تنظيم عملية الإنجاب. وهذا ما يفسر أن راقصات الأوبرا والنساء الرياضيات المحترفات، وغيرهن من النساء النحيفات كثيرا ما تتوقف عندهن الدورة الشهرية.
ويقول فريدمان « إذا لم يكن لدى الأنثى ما يكفي من الطاقة المخزونة، فإن حملها يمكن أن يتعرض للمخاطر وتفقد بالتالي مقدرتها على الإنجاب. ويكون الجسم عندها في انتظار ظروف أكثر ملاءمة». ولكن بالإضافة إلى وظيفته في تنظيم مخزونات الطاقة، فإن الخلايا الشحمية تمثل مركزا لعمليات معقدة من الإتصالات التي تنظم كثيرا من عمليات الأيض، مبلغا الدماغ بصورة دائمة عن كمية الطاقة المخزونة في الجسم، ويحدد التوقيت الذي يمكن فيه للعضلات أن تحرق الشحم، ويوجه الكبد وغيره من الأعضاء إلى تجديد مخزوناتها من الشحم ويتحكم في إنسياب الطاقة من الخلايا وإليها.
من اهم العناصر الجديدة في هذا النظام بروتين يطلق عليه «ادبونكتين» يؤثر على الكبد والعضلات. ويقول هارفي لوديش، استاذ الاحياء في معهد ماساتشوسيتس للتقنية، ان هذا الهرمون يخفض نسبة الغلوكوز في الدم من خلال وقف انتاجه في الكبد وايضا من خلال زيادة نسبة الحرق بواسطة العضلات لانتاج الطاقة. ويضيف لوديش قائلا ان هذا الهرمون يؤدي الى تنشيط جزء من نفس طريق الاشارات في العضلات، أي ان عملية التنشيط تجري من خلال التمارين. وتنخفض نسبة بروتين «ادبونكتين» عند ارتفاع مستويات الدهون. ونسبة لأن الهرمون يؤثر على حساسية الخلايا تجاه الانسولين، فإن بعض الباحثين يعتقد انه يساعد في توضيح كيفية زيادة ظاهرة السمنة لمخاطر الاصابة بمرض السكر. ويقول فيليب شيرر، متخصص أحياء الخلايا بكلية آلبيرت انشتاين للطب في نيويورك، انه ثبت ان مستويات البروتين تعتبر مقياسا جيدا لحساسية الانسولين. لذا فإن العقاقير والأدوية التي تؤثر في بروتين «ادبونكتين» ربما تساعد في منع او معالجة مرض السكر. وكانت شركة »سيرانو« قد بدأت بالفعل في دراسة هذا البروتين كواق محتمل من مرض السكر وكعقار يساعد على تخفيف الوزن. وكان علماء قد اكتشفوا بعد وقت قصير من التأكيد على اهمية «ادبونكتين» خلية دهنية اخرى تسمى «ريسيستين« تلعب دورا مهما فيما يبدو في حساسية الانسولين وتخزين الطاقة. ويعتقد ميتشيل لازار، اختصاصي واستاذ علم الهرمونات والغدد في كلية الطب بجامعة بنسلفانيا ومكتشف الهرمون، انه اكتشاف مهم للغاية، لكنه اشار الى انهم لم يتوصلوا بعد الى فهم الآليات على وجه التحديد. وأشار لازار الى انهم لم يتوصلوا بعد الى تغييرات في نظام تخزين الطاقة في الجسم، وأكد على ان وزن الجسم لم يتأثر بصورة كبيرة بفعل الكميات الكبيرة او الصغيرة للريسيستين. وفي نفس الوقت توصل العلماء الى نتيجة مفادها ان للدهون مقدرة على تقليد آثار جهاز المناعة في الجسم، خصوصا من خلال إطلاق استجابة هرمونية للمثيرات الالتهابية. يقول لازار ان ثمة ادراكا متزايدا للتقارب بين المشاكل الطبية المرتبطة بالسمنة والالتهاب المزمن، وهي القضية التي وجدت في الآونة الاخيرة اهتماما متزايدا، ويؤكد لازار ان الخلايا الدهنية نفسها هي مصدر الالتهاب. إلا ان هذه الخلايا ليست هي المصدر الوحيد، فقد اكتشف علماء من خلال بحوث اجريت في الآونة الاخيرة ان الانسجة الدهنية تتكون من خلايا دهنية وعناصر اخرى ايضا، وهو اندماج معقد يضم خلايا رئيسية في جهاز المناعة تحاصر وتمتص الفضلات والكائنات الضارة والاجسام الغربية الاخرى في مجرى الدم والانسجة. وتنتج هذه الخلايا والخلايا الدهنية مواد قوية تساعد على تنظيم جهاز المناعة في الجسم. ويقول علماء ان الدهون ربما تكون على صلة وثيقة بعمل المناعة لأن الجسم يحتاج الى طاقة عندما يكون في حاجة لصد الأخطار، اذ يرى هؤلاء ان الأمر اشبه بإرسال قوات الى معركة، ذلك ان المسألة لا تقتصر فقط على ارسال البنادق فقط وإنما لا بد ان تكون هناك ذخيرة لهذه البنادق.
إلا ان الزيادة في الخلايا الدهنية وخلايا امتصاص الفضلات والكائنات الضارة والاجسام الغريبة، التي تفسر في الغالب جزءا على الاقل من السبب وراء زيادة السمنة لأخطار الاصابة بعدد من الامراض، بما في ذلك السرطان وأمراض القلب والسكر. من جانبه يؤكد ليبيل ان ما يفعلونه لا يختلف عما يفعله الاطباء، وهو بناء نظرية حول كل ما يتعلق بالانسجة الدهنية، مؤكدا انهم لا يريدون التوصل الى فهم ماهية الاشارات فحسب بل يريدون ايضا فهم كيفية اندماجها وعملها سويا.
* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»