:فيرونيك لوغازيو وآخرون - عندما تحترق الضواحي
هذا كتاب جماعي يعود المساهمون فيه إلى تحليل الاضطرابات التي شهدتها ضواحي المدن الفرنسية الكبرى خلال شهر نوفمبر الماضي (2005) والتي لم يكن لها مثيل في تاريخ فرنسا المعاصر، من حيث درجة العنف الذي شهدته.
ما يتفق عليه الباحثون المساهمون في هذا الكتاب هو أن أزمة الضواحي قد أديرت بشكل سيئ جدا سياسيا وأن «عودة الهدوء» إنما هي بنفس الوقت «عودة للمشاكل» اليومية التي يعاني منها سكان الضواحي الشعبية الذين تعاني نسبة كبيرة منهم، خاصة من الشباب، من البطالة، ثم إن أغلبية هؤلاء السكان من أصول مهاجرة إفريقية أو من بلدان شمال إفريقيا العربية.
أسباب الغضب ا لكامنة وراء اضطرابات نوفمبر ـ ما بين 27 أكتوبر و17 نوفمبر 2005 تحديدا ـ يكتب «لوران موشييلي» الباحث الاجتماعي والأستاذ الجامعي .
وصاحب العديد من الدراسات حول العلاقة بين العنف والأمن، أن المجتمع الفرنسي يشهد منذ ربع قرن تقريبا تشكل مناخ لانطلاق الاضطرابات على خلفية تنامي ظاهرة التهميش الاجتماعي لمجموعة من السكان تعيش داخل أحياء مغلقة عليها «غيتو».
كما يشير إلى «المفاجأة» التي خلفتها الأسابيع الثلاثة من الاضطرابات من حيث استمرارها واتساع رقعتها الجغرافية وصغر سن الشباب الذين شاركوا فيها. لكن وفيما هو أبعد من المفاجأة يتم التأكيد على أن اضطرابات الخريف الماضي قد قامت على أساس الإحساس المزدوج لدى الشباب المعنيين بـ «انسداد المستقبل» أمامهم و«وعي الاحتقار» الذي تتم مواجهتهم به.
خاصة فيما يتعلق بفرص العمل، أي بتعبير آخر الإحساس بعدم الاندماج حقيقة في النسيج الاجتماعي والاقتصادي أيضا. هؤلاء الشباب يبحثون عن الوصول إلى «مكانة اجتماعية» .
وعلى «الاعتراف بهم كمواطنين» كاملي الحقوق حيث انهم ليسوا ممثلين فعليا في الحياة السياسية التقليدية. وبالتالي «يجدون أنفسهم محرومين من إمكانية اللجوء إلى تعبيرات جماعية مستقلة ذاتيا ومستمرة وغير عنيفة بدلا من اللجوء إلى التعبيرات الانفعالية العابرة وغير الخاضعة للرقابة التي تأخذ أحيانا أشكال اضطرابات عنيفة».
أما الرهان الأساسي لاضطرابات الخريف الماضي فيتمثل تبعا للتحليلات المقدمة في «تحديد موقع ومستقبل» الشباب المعنيين في المجتمع الفرنسي. بالمقابل لا تبدو الإجابة التي قدمتها الطبقة السياسية الفرنسية على مستوى الأحداث، بل إن هذه الإجابة قد شكلت انتصارا إضافيا لليمين الفرنسي المتطرف.
كما تشرح فيرونيك لوغازيو، الباحثة الاجتماعية ومؤلفة العديد من الكتب حول عنف الضواحي، على مدى فصل كامل في الكتاب. إنها تشير إلى الشرارة التي أطلقها وزير الداخلية الفرنسي وذلك عندما وصف قبل يوم واحد من الاضطرابات في الضواحي الشباب الذين استقبلوه بصرخات الاحتجاج في أحد الأحياء أنهم من «الرعاع».
كما تشير بنفس الوقت إلى محاولة القوى السياسية الفرنسية الرئيسية وخاصة حزب الأغلبية الحاكمة والحزب الاشتراكي المعارض «توظيف» تلك الاضطرابات للحصول على مكاسب سياسية. لكن اضطرابات الضواحي طرحت بكل الأحوال مشكلة هذه الضواحي بكل أبعادها التربوية والاجتماعية والاقتصادية، وإلى حد ما السياسية.
وكانت الأولوية لدى الحكومة بعد اتساع رقعة العنف وازدياد عدد السيارات والمؤسسات المحروقة هي العمل لإعادة الأمن. لذلك لجأت هذه الحكومة يوم 5 نوفمبر 2005 لإعلان حالة الطوارئ في المناطق المعنية، أي لجأت إلى القانون الصادر في شهر أبريل 1955 أثناء حرب التحرير الجزائرية.
حلل اريك مالريير، الباحث الاجتماعي والأستاذ الجامعي، في مساهمته موقف سكان الأحياء المعنية من الاضطرابات في محاولة للإجابة عما إذا كانوا من مؤيديها أو من خصومها؟
إنه يركز على إبراز مدى «الألم» الذي يحس به سكان هذه الضواحي، رجالا ونساءً، والذين هم بأغلبيتهم من المهاجرين. هذا الألم يولّد لديهم إحساسا بـ «المرارة والظلم» وميلا نحو «التمرد».
ويعيد الكاتب عدم انتقالهم من «الميل إلى التمرد» إلى ممارسته فعليا إلى واقع «تجاوزهم لسن» حرق السيارات ورجم سيارات الشرطة بالحجارة، هذا إلى جانب نقص وعيهم فيما يخص التحولات التي عرفتها الطبقات الشعبية خلال العقود الثلاثة المنصرمة.
ثم إنهم يفتقرون إلى أية وسيلة سياسية للتعبئة لاسيما وأن الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات الوطنية الكبرى قد غادرت منذ زمن طويل هذه الأحياء. وكنتيجة لهذا كله أصبح «العنف الكلامي» وأحيانا «المعبّر عن الكره» .
والعزوف الكامل تقريبا عن أي التزام سياسي بمثابة التعبيرات الأساسية للاحتجاج لدى سكان الضواحي المعنية من البالغين المهمّشين واليائسين غالبا، الوجه الآخر لهذا الوضع هو عدم قدرتهم للجوء إلى الوسائل التقليدية للدفاع عن حقوقهم مثل الدخول في نزاعات مفتوحة أو في حوارات أو حتى في مفاوضات.
ثم إن هؤلاء الكبار يؤيدون ضمنيا إلى هذه الدرجة أو تلك أعمال العنف التي يلجأ لها الشباب من أبنائهم طالما أن هذا العنف لا يصيب ممتلكاتهم الخاصةـ من سيارات أو غيرها ـ أو ممتلكات جيرانهم وأصدقائهم.
وهم يعتقدون أن الاضطرابات تخفي وراءها واقع التشاؤم العام المرتبط عضويا بتخلّي السلطات العامة عن الاهتمام بهذه الضواحي وتهميش شريحة هامة من سكانها. كما تكشف الأفكار التي يفصح عنها البالغون عن مدى القطيعة الرمزية بينهم وبين المؤسسات الجمهورية مع ما يحمله هذا الموقف من الابتعاد فعليا عن النخب التي «تحتقر» الطبقات الشعبية.
ومثل هذا الموقف يتطابق إلى حد كبير مع ما يفصح عنه الشباب «المتمردون» قولا وفعلا. «مع ذلك ليست هناك أية بنية إيديولوجية أو أي شكل للتنظيم يسمحان للجميع بتشكيل حركة اجتماعية احتجاجية»؛ هذه هي النتيجة النهائية التي يصل إليها كاتب هذه المساهمة.
ويطرح «لوران اوت» الحاصل على الدكتوراه في الفلسفة، وصاحب عدة كتب منها «الأطفال وحدهم» و«المدرسة على رؤوس الأشهاد»، في مساهمته السؤال التالي: «لماذا أحرقوا المدارس؟».
وجاء في معرض إجابته عن هذا السؤال أن الشباب المتمردين في الضواحي يعتقدون بحزم أن المدرسة كما هي اليوم لا تستجيب لطموحاتهم، وأن هناك استقالة تربوية حقيقية للمؤسسات المعنية التي تحاول تغطية عجزها بتحميل الفشل للأهل «الذين لا يهتمون بتربية وتعليم أطفالهم» وأيضا بتدخل السلطات العامة في الأمور الخاصة للأسر المعنية.
وغالبا تأتي هذه التدخلات من قبل أشخاص «منتخبين محليين ومسؤولين في البلدية» لا يمتلكون أي تأهيل يبرر لهم لعب هذا الدور الاجتماعي الدقيق. الوجه الآخرلمثل هذا التدخل هو التهميش الفعلي للمختصين التربويين الذين يتم إقصاؤهم«عمليا» عن ميدان نشاطهم الطبيعي.
وعلى رأس هؤلاء المختصين يوجد المدرّسون أنفسهم. وقد غدا من الشائع أن يلجأ مديرو المدارس إلى استدعاء الشرطة للقيام بحملات تفتيش «وقائية».
وبشكل عام تعزز مفهوم الرقابة على حساب المفهوم التربوي نفسه. ويرى كاتب المساهمة في المحصلة أن إنشاء جمعيات صغيرة في الأحياء تفتح أبوابها للشباب .
وتؤمن إيجاد مناخ أكثر اجتماعية في الأحياء وتشجيع المبادلات والصلات في الأحياء والمدارس عبر تنظيم لقاءات واحتفالات ومعارض وعروض مسرحية إنما يشكل الوسيلة الأمثل للنضال ضد إرساء مجتمع ينظر لشبابه كـ «معادين وغرباء» كمجتمع مهدد دائما بالتفسخ.
لكن تبقى المعضلة كما يراها الباحث الاجتماعي مانويل بوشيه في مساهمته هي في كيفية إعطاء معنى حقيقي لأشكال التدخل الاجتماعي في الأحياء الشعبية الفقيرة بحيث لا تقتصر على مجرد «إجراءات للمساعدة» و«إدارة الأزمات». هذا في الوقت الذي غدا فيه القطاع الاجتماعي بمجمله أكثر تعقيدا لكن ثبت دوره الراجح في الوصول إلى التلاحم الوطني.
ويؤكد الكاتب على ضرورة إيجاد مشروع حقيقي للتأهيل ولمواجهة المشاكل الحقيقية البنيوية في الأحياء الشعبية الفقيرة في الضواحي بغية التصدي لجو الهلع الاجتماعي الذي خلقته الاضطرابات الأخيرة في فرنسا وساهمت في استمراره الخيارات السياسية القمعية. أما الخطوة الأولى في مثل المطلوب فيتم تحديدها في التأكيد على القيم الديمقراطية التي تؤكد على احترام التنوع المعقد، خاصة الثقافي للأفراد.
* الناشر:لاديكوفيرت ـ باريس 2006
|