. - (مجرد حادث) قصة للكاتب احمد مبارك بشير السيارات مرت بسرعة كالعادة، مخالفات مرورية كالعادة ، هنا تجد العادة هي الأصل في سير حياتنا ،وكالعادة سيارة(صالون)تمرق من أمام الجميع معلنة أن صاحبها رجل مهم…(أمر عادي أن تخالف القانون لكن من المحال أن يصدق الناس بأنك تلتزم به).
خرج الشاب الوسيم ، وضع نظاراته السوداء على أنفه ، بملابسه المبقعة بالألوان ،ركب سيارته الحمراء آخر طراز للسيارات الأمريكية ، شغل المحرك ، وضع شريطاً لأغنية صاخبة، رفع صوت المسجل ، وتحرك بسيارته، توجه ليذاكر دروسه مع رفاقه(شلة طيبة جداً)، هاهم ينتظرونه ،وقف لهم وصعدوا معه…تمرق السيارة كأنها في سباق كبير ،كل من مرت بقربه سمع الصخب والضحكات،ولعن ألف مرة صاحب السيارة ، وسمعت أحد المواطنين البسطاء يصرخ قائلاً : (أموال الدو…يا كلاب!) ..كلمات تدل على منتهى البساطة ، فهو لا يجد سواها عندما كادت تلك الحمراء أن تدهسه ، ولولا
رحمة الله لكان من الهالكين تحت أجمل سيارة .
هاهي الحمراء ، وصاحبها في قمة انتعاشه بعد مذاكرة لفن (المعاكسات) ،وبعدما أنتعش (بالمعسل) ، عاد مسرعاً ، كأنه الوحيد في الشارع، لهذا لن ينتبه لذلك الصغير الذي يحاول أن يعبر الشارع الفرعي ، نظر الصغير يمنة ويسرة وبدأ عبور الشارع ، وبدون إنذار تقدم وحش أحمر ودار دورة كاملة مع الملف إلى الشارع الفرعي ليصطدم بجسد الصغير وقذفه أمتاراً للأمام وسقط على الأرض ممدداً نصفه على الطريق ، انتبه الشاب وبدأ بالفرار، وبحماقة أخرى داست السيارة أقدام الصغير لتهرسها ، وتجمهر أكثر المارة وخرج البعض من بيوتهم لينظروا من بعيد سيارة حمراء تنهب الأرض مسرعة والناس حول جريمتها يتصايحون،ويبذلون جهدهم للإنقاذ.
بعد ساعة من الحادث… كان الشاب مرتدياً نظارة سوداء في سيارة حمراء تسير بهدوء وضجيج الأغنية يُسمع من بعد ، تقدمت السيارة من فيلاّ كبيرة،فُتح الباب ودخلت السيارة بهدوء لتستقر مكانها، حمل الشاب الطيب كتبه لقد تعب كثيراً ،وذاكر كثيراً حتى حفظ المقرر كاملاً ، لم ينس منه حرفاً واحداً ، غداً سيذهب ليراجع الدرس(فسوسة العلم النسيان!).
دخل الشاب الطيب ولم يلق التحية بل توجه إلى غرفته (المتواضعة) ورمى نفسه على سريره(الخشن!) ، وحاول أن ينسى كل شيء ، سمع أمه تناديه لقد أعدت له عشاء بسيطاً (دجاج وجبن رومي وعصير المانجو اللذيذ!)أمه تحبه ويهمها أن يكون ابنها صحيح الجسم(فالعقل السليم في الجسم السليم)… نهض صغيرنا الطيب وجلس على السفرة ( الصغيرة)نظر إليه والده قائلاً : (هناك أثار دم على عجلات السيارة ، هل صدمت كلباً ، يا حبيبي؟) ..نظر الشاب إلى أبيه بخوف وتوقف عن الأكل ، فلما رأته أمه قالت: (لقد أخفت الولد..أنت تعلم كم هو رقيق ، ألا تتذكر بكاءه على قطته عندما دستها بسيارتك دون قصد ؟..لا تكن جلفاً ربما ليس دماً بل (عصير فراولة))..
رغم هذا الدفاع ،ظل الولد في حالة رعب مما سمع ، فعاود والده حديثه: (ما بك يا بني ؟ لا تقلق..أخبرني بصراحة..لا تخف هكذا إن كان كلباً فالكلاب كثيرة وهي ضارة ،فجميل منك أن خلصتنا من أحدها ، وما حدث مجرد حادث عابر لا تجعله يؤثر عليك بهذا الشكل .)… ثم أخرج وريقات مالية حمراء وسلمها لولده وهو يقول: (خذ هذه بعض الريالات..اشتر بها بعض احتياجاتك ، وركز في دروسك،و انسَ ما حدث.)
خرج (الصغير) الشاب عن هدوئه وقال: (هات إذاً يا أبي.. وأرغب في خدمة أخرى..)
الأب: ( وهل تظنني أرفض؟)
الابن: (هل أستعير سيارتك غداً ، فأنا أتشاءم من السيارات الحمراء.)
الأب: (لك هذا،وسأطلب من السائق تغيير لون سيارتك إلى اللون الأبيض… أعرف كم أنت عاطفي يا بني الحبيب.)
في اليوم التالي ، ذهب الشاب المدلل إلى مدرسته، وقضى يومه في ضحك رغم القلق الذي يشعر به،وظل يردد(مجرد حادث عابر)…رغم شروده الذي ليس بجديد لم يحدثه مدرسوه عن الواجبات كالمعتاد…بعد الدوام ،عاد الشاب لداره تناول غداءه ثم (خمد) قليلاً فوق سريره،بعد العصر خرج بسيارة والده ، وكأن شيئاً لم يكن بالأمس، شاهد وهو مسرع سيارة أمن تتوجه لداره، لم يتوقف بل زاد من سرعته،والتقى بصحبته ، وتوجهوا (لغرزتهم) يتذاكرون اللعنات.
في دار الشاب سمعت الخادمة صوت جرس الباب، فأجابته، عدد من الرجال يرغبون في لقاء صاحب البيت،رغم أنه نائم أيقظوه،خرج متسائلاً ،فأجابه الشرطي: (عفواً يا سيد،لكن هناك من شاهد سيارتكم و أخذ رقمها.)
_(والمعنى ،هل يأخذ رقمها لتأتي وتزعجني؟)
_(عفواً…لكنها داست طفلاً وأردته قتيلاً)
_(هل تمزح؟)
تصايح الناس الذين مع الضابط: (ادخل فتش المكان…إنهم مجرمون.)
صاح أبو الشاب: (أجئت بهؤلاء ليسبونني هنا؟، إنني أحذركم وقد أُعذر من أَنذر!!)
صاح الضابط في الرجال: (رجاء الهدوء…دعونا نتحدث.)
ثم وجه نظره لأبي الشاب وقال : (المهم أن هناك جريمة قتل، والتهمة موجهة إلى شخص من هذا البيت دعنا نفحص السيارة ,)
وببرود قال أبو الشاب : ( تفضلوا … أنت والعسكري فقط .)
دخل الثلاثة ، وبدءوا بفحص السيارة الحمراء، كانت نظيفة لامعة، الأرقام (تشبه )الأرقام ، وهذا هو الدليل الوحيد
الشرطي: (هل خرجت السيارة من هنا بالأمس؟)
الأب: (لا…لم تخرج ..نستخدمها نادراً..وكما ترى هي نظيفة جداً.)
الشرطي: (هذا دليل ضدك..فهل تكذب الشهود؟؟)
_(كم عددهم؟)
_الكثير شاهدا السيارة أثناء الحادث…ثمانية تقريباً)
_( وهل ..هل شاهدوا أرقامها؟؟)
_لا طبعاً… واحد فقط شاهد الرقم وسجله، ولكنهم يجزمون أنه شاب.)
بلع الوالد ريقه وقال: (أسمع يا سيدي!، لا يخفى عليك مكانتي ،ولا أحب أن أوذي أحداً، لأنني مسالم جداً،و لكن لا أحب أن تكون هناك افتراءات كاذبة ،فمن هذا الشاب الذي يقود السيارة،فسائقنا كبير السن،وأولادي صغار السن أكبرهم مسافر…فهل تراني شاباً صغيراً؟؟، وشهادة رجل واحد يشوبها الكثير من الشك ، فأنت تعلم أن مثلي لديهم الكثير من الأعداء،و لم تتفرد سيارتي بلونها فكم من سيارات حمراء في البلاد….)
_(عفواً ..لكن هذه…….
_(لا هذه ولا تلك ، أكره الضوضاء ،تصرف أنت، خذ هذا عنواني في المكتب…أو تأتي أنت وصاحبك غداً إلى هنا لنتفاهم جيداً،دون إحضار هذا الجمع من الناس.)
_(حسنٌ…. أعذرنا لهذا الخطأ…..هيا يا عسكري.)
وغادر الضابط والعسكري، وصرفوا الجميع..إنه خطأ كبير ……ظلم الناس والتهجم على البيوت هكذا خطأ كبير…
بعد أيام مرت خرج شاب وسيم، يرتدي نظارة سوداء، ركب (صالوناً)رمادي اللون،وضع في المسجل شريطاً لأغنية صاخبة، لم تعد هناك سيارة حمراء فقد باعها، هاهم رفاقه ((شلة طيبة))، تحركت السيارة تجوب الشوارع ، كل من مرت بقربه سمع صخباً عالياً وكلاماً تافهاً وصفيراً مزعجاً، ونسمع أحد المواطنين البسطاء يصرخ بغيظ: (عليك وعلى من خلّفك ألف لعنة..)
لقد كادت تهرسه بطاواتها الكبيرة .تسير السيارة في إحدى الطرق السريعة، تلاحق سيارة تقودها فتاة ،تبدأ المنافسة،فمن مصفر وصارخ إلى وقح وسفيه، وتضطر الفتاة للخروج عن الخط وتقف، وتدور الصالون لتعود إلى مكان سيارة الفتاة وفي نفس اللحظة تتقدم سيارة أخرى مسرعة من الاتجاه الآخر ويحاول الشاب تجنب الحادث في محاولة للتراجع ولم ينتبه لسيارة قادمة من الخط الآخر من نفس النوع ولا فرار و……صدام عنيف جداً وتتراكم السيارات المندفعة وتتقلب الصالون الرمادية ويتصاعد الغبار والضجة .. وبدأ التجمهر المعروف … الجميع ينظرون ومنهم من تقدم لتقديم المساعدة و آخرين يطلبون النجدة…ربع ساعة تمر والناس يبذلون جهدهم وتتوافد سيارات النجدة والإسعاف والمطافئ …. لم يبق سوى الشاب الطيب مغمى عليه وقد إنهرس المقود الأمامي على فخذيه وبعد محاولات كبيرة تم إخراجه ….حي أم ميت …لكنه إن عاش، عاش معاقا….لقد تمزقت عضلات الفخذين وتهشمت العظام….ربما يبحثون عن حل آخر …..لكنهم لم يعلموا أنه أخذ عقابه الأول في أسرع وقت ممكن… أخذ جزاءه عندما نام القانون عن أخذ الحق منه.
أحمد مبارك بشير/1998
|