محمد ملكاوي -
الغناء للأطفال
هذا عرض لبحث شرعت فيه منذ أكثر من عام انقضى عن أغنية الطفل، علنا نقدر أن ننصفه ما فات من حقه علينا سعيا لإيجاد جيل يتصل بتلاحم ملئه الاعتزاز بالأم و الأرض العربية، يسرني و أنا أقدم لهذا العرض أن أتلقى من قارئي العزيز ما يزيدني به علما مما كانت أمه أو جدته تغنيه له، بانشراح صدر لتلقي كافة الملاحظات و الآراء.
أتناول اليوم استعراض الجزء الأول من مغنيات الكبار للأطفال و هو الذي يعنى بأغاني الولادة، يليه في المرة المقبلة بإذن الله أغاني تنويم الأطفال.
إن علاقة الطفل بالشعر تبدأ في مرحله الطفولة المبكرة من مرحله المهد حيث يستجيب الطفل للإيقاعات المنظمة المتمثلة بدقات قلب الأم التي يستمع إليها عندما يكون محمولا على صدرها، و الكلمات التي ترددها الأم إما طربا إذا كانت للترقيص و إما استسلاما لنوم مريح لذيذ، لكن سعادة الطفل أو شقاوته تبتدئ في بعض المجتمعات عند ولادته و بحسب جنسه، كان ذكرا أو أنثى، و هذا ما صرح به القرآن في أكثر من آية تعبر عن تفضيل الذكور على الإناث، و الأم العربية في بعض المجتمعات العربية التقليدية مازالت متأثرة بالنظرة الرجعية لجاهلية كفرة قريش.
فعلى سبيل المثال وردنا نموذج معبر عن هذه النظرة من قرى الصعيد المصري، حيث طبيعة النمط الاجتماعي الزراعي تفضل الإناث على الذكور، إلى جانب اعتبارات اجتماعية أخرى؛ و لحسن الحظ فهذا النوع من الغناء الذي يشبه المراثي لم أجد منه إلا نموذجا فلكلوريا واحد هو من مصر كما أسلفت، بينما النماذج الأخرى تراثية قديمة، مما يشير إلى رقي وعي المجتمع العربي تجاه النظرة لجنس المولود.
فهذا النموذج القروي من صعيد مصر تندب فيه الأم حالها لإنجاب الأنثى، و تستبشر بإنجاب الذكر نظرا لما يقابلها به مجتمعها من اهتمام أو إنكار، فعند ولادة الذكر، و هي تكرر في غنائها مقطع ولد ولد، تعبيرا عن التبشير بالقادم الجديد، تعتز الأم بما جاءها و تشعر بالعزوة منتظرة تلقي الحفاوة، فيما يقدم لها شهي الأطعمة رجاء أن تأكل، بينما نبرة التنفير من الأنثى تكرر بحزن و أسى، يعبر عنها ما يليها من سياق، حيث تقدم لها العصيدة التي تتراءى لها سوداء كالزفت فيما ترى البلح كجحافل العقارب التي تسير في الدروب، و إن جاؤها بالبيض المسلوق فهو بقشره دون مزيد خدمة أو تفضيل، و عوضا عن السمن البلدي الشهي يقدم لها الماء، طعام ذي غصة لا تستسيغ حتى مرآه، فيما لا يرجوها أحد تذوقه، وهي تشعر بأن ركن بيتها قد تهدم فوق رأسها:
لما قالوا لي: ولد.. ولد..انشد ظهري و اتجابوا لي البيض مقشر....في السمن عاقالوا لي كلي يا أم الولاد..ولما قالوا لي بت... بالعصيدة بقيت زفت..والبلح بقي عقارب
عما يبلع في الدوارب..ولما قالوا لي دي بنية
انهد ركن البيت علي..وجابوا لي البيض بقشره
وبدل السمن ميه
و من النصوص التراثية القديمة مار رواه لنا الأبهيشي في المستطرف، من أنه كان لأعرابي زوجتان، أنجبت إحداهما بنتا والأخرى ولد، فأرادت أم الطفل مفاخرة ضرتها لتعيرها بأنها أنجبت بنتاً وليس ولداً مثلها فقالت تنشد لابنها، و تحمد الله حمدا كثيرا على ما وهبها، تذم قصور البنات عن الطعان و حمل السلاح :
الحمد لله الحميد العـــالي..أنقذني العام من الجواري
من كل شوهاء كشن بالي..لا تدفع الضـيم عن العيال
فسمعتها ضرتها فأقبلت تغنى لابنتها، مباهية بميزات البنات على البنين، و عظم الحاجة إليهن فالبنت تخدم والدتها من ناحية وتعلي شأن أسرتها من ناحية، إن تزوجت ابنتها بأحد علية القوم من مثل مروان بن الحكم، أو معاوية بن أبي سفيان :
وما عليّ أن تكون جــاريــه..تكنس بيتي وترد العــاريــــه
تمشط رأسي وتكون الفالـيه..وترفع الساقط من خماريــــه
حتى إذا ما بلـغـت ثـمانـيـه..أو تسعـةً من السـنـيـن وافـيـه
أزّرتـــهـا ببـردة يــمـانـيـه..زوجتها مروان أو معاوية
أصهار صدق ومهور غاليه
وقد تكرر ذكر هذه الحكاية عند السرخسي في المبسوط، والراغب الاصفهاني في المحاضرات و البيهقي في المحاسن والمساوئ بألفاظ مختلفة. و قال الأبهيشي: سمعها مروان، فتزوجها (حين كبرت) على مائة ألف مثقال، وقال (مروان): إن أمها حقيقة أن لا يكذب ظنها ويخان عهدها، و قال معاوية: لولا مروان سبقنا إليها لأضعفنا لها المهر ولكن لا نحرم الصلة، فبعث إليها بمائتي ألف درهم، و هذه الكلمات تبين في الوقت عينه سن الزواج الذي كان متعارفا عليه بين العرب في العهد الأموي على الأقل.
و أبو حمزة الضبي، أعرابي هجر بيته، ليبيت عند جيرانه بعدما وهبه الله بنتا، ذات مرة يتصادف مروره قرب بيته بغناء زوجته لابنتها، تبث همومها و تشكو لله هجرانه لها على ما أعطاهما الله بكلمات ترددها ، مبينة أن الأمر خارج عن إرادتها، فيتأثر بما سمع ليعود فيستصفحها، و قد كانت قالت مستعتبة إياه:
ما لأبى حمزة لا يأتينــا..يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا..تـالله ما ذلك في أيدينـــــا
وإنما نأخذ ما أعطينــــا..ونحن كالأرض لزارعينا
تنبت ما قد زرعوه فينا
لكن الطريف أن يتألم الأب عند ولادة ابن له، ليس لكونه ولدا، بل لكونه تعداه في الشبه نحو أخواله:
والله لا يشبهني عصام..لا خلق منه ولا قوام
نمت وعرق الخال لا ينام
[email protected]