بقلم: آصف قزموز - اعطوا الحياة فرصة.. دماؤكم عليكم حرام دعوات الرئيس أبو مازن المتكررة للحكومة أن تلائم مواقفها مع مواقف مؤسسة الرئاسة الممثلة لمواقف منظمة التحرير الفلسطينية، وتأكيده المستمر على إيمان الطرف الفلسطيني بالسلام، وأن المنظمة هي الجهة المسؤولة عن المفاوضات المترافقة مع نشاطه الموصول على كافة المستويات من أجل إنقاذ الاقتصاد الفلسطيني ورفع المعاناة عن كاهل شعبنا الذي أرهقه الاحتلال وتقطّعت به السبل وانقطعت موارده. وتصريحات رئيس الوزراء إسماعيل هنية بأن "الحكومة لا تُمانع في إجراء حوار مفتوح ومباشر مع كافة أعضاء اللجنة الرباعية بما يكفل الهدوء والاستقرار وإنهاء الاحتلال"، إضافة إلى ما أكده الناطق باسم كتلة "حماس" في "التشريعي" حول "أن الحكومة، حكومة الرئيس، وهي لن تعترض على أن يتفاوض الرئيس مع الإسرائيليين". مضيفاً بأن "الحكومة لا تقف في وجه أن تكون هناك مفاوضات سياسية حتى في برنامجها السياسي وأنها مستعدة أن تبحث أي شيء، وأنه لا توجد إشكالية في الاعتراف بمنظمة التحرير، وكل ما هو مطلوب أن نبدأ حواراً للدخول في المنظمة" - على حدّ تعبيره - بينما كانت حركتا "فتح" و"حماس" تنجحان تحت رعاية رئيس الوزراء في الاتفاق على تحريم الاحتكام للسلاح وانتهاج طريق الحوار في حل الخلافات الداخلية، بُعَيد تشكيل لجنة تنسيق عليا دائمة بينهما من أجل تطويق الأحداث المؤسفة والدامية التي جرت بين الطرفين في رفح وغزة وراح ضحيتها شهداء وجرحى. ولعلّ في كل هذه التصريحات والمواقف ما يبشر بإمكانية التعايش والتعاون ما بين شطري السلطة الوطنية حكومةً ورئيساً، ويعبّر عن حسٍّ عالٍ بالمسؤولة الوطنية لدى الطرفين، خصوصاً بعد جولة ليست قصيرة من التراشق والتراجم والتزاحم الذي عبّر عن النقيض، هو أمر له دلالات وأبعاد ومؤشرات، لا بدّ أن نؤسّس ونبني عليها لأنها قد تفضي الى بصيص نور في نهاية النفق، لكن الأهم من ذلك هو أن يدرك الجميع أن لهذه الدلالات كلفة ومتطلبات واستحقاقات، ربما تكون باهظة ومؤلمة لا بدّ من تقديمها، لأنه لا يمكن لنا بفعل قسوة الواقع أن نظل محشورين ما بين إيماننا بالصبر والصمود اللامحدود ومطرقة الاحتلال والحصار التي لا تهدأ لحظة في سحقنا واستنزافنا الدائم على مدار الساعة.
مع ضرورة أن نتذكر أنه لا يمكن لأحد منا أن يعبر عالم السياسة، بدهاليزها وأنفاقها المظلمة بنجاح وأمان، ولسان حاله يقول "بدّي قرص مقرَّص من دقن معرَّص". نحن ندرك أن الشعب الفلسطيني حدّد بكامل إرادته خياره الديمقراطي والسياسي بصرف النظر عن طبيعة وماهية الأسباب والمسببات التي ساعدت على ولوج هذا الخيار، ولا بدّ أن تساعد على حماية كل ما هو إيجابي وتطوير وتعديل وتجذير مسارات وسلوكيات لا يمكن تجاهلها في عالمي السياسة والإدارة الفلسطينيتين. وفي جميع الأحوال ستصبّ النتائج في بوتقة المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا التي لا يجوز لأحد أن يتطاول عليها كائناً من كان.
المتتبّع لمسار الأحداث منذ تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة يرى أنه وضعت في وجهها ظروف ومناخات مخاضٍ عسير اختلقها المجتمع الدولي وصبّ الزيت في أتونها لوضع العصي في دواليبها، وغلق الآفاق والسبل في وجهها.
وبصرف النظر عن أي اتفاق أو اختلاف سياسي ما بين الفرقاء جميعاً، خصوصاً "فتح" و"حماس"، إلاّ أن الحوار الوطني البنّاء الذي يلحظ المصالح العليا للشعب أولاً وعاشراً، هو اللغة الوحيدة التي يجب أن تسود ما بين الجميع، والدم الفلسطيني عليهم حرام ولعنة سوداء ستلاحقهم إلى يوم الدين. لقد شكّل الحوار السياسي كطريق للحل وبناء السلام خياراً ما زلنا مؤمنين به وننتهجه منذ سنين، واخترنا الرئيس أبو مازن على أساسه كبرنامج ومحدّدات تكفل وتضمن حقنا في الحياة وفي السعي لممارسة كافة حقوقنا الوطنية والتاريخية المشروعة، واليوم يجب أن نمارس هذا الحوار بأعلى وأرقى صوره ومستوياته ما بين الإخوة داخل البيت الفلسطيني الواحد، ما دمنا مقتنعين بأننا وكلّ من موقعه وإن تباينت الرؤى نسعى في النهاية من أجل تحقيق مصالح الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف أو التبديد أو العبث، بعيداً عن التشكيك والتخوين ونظرية المؤامرة، وانطلاقاً من أن فلسطين أكبر من أن تُختصر في صراعات داخلية ومصالح فئوية ضيقة.
صحيح أن لكل شيخ طريقة وأن لكل حكومة رؤية ومنهجاً، لكن كل هذا لا يجوز ولا بحالٍ من الأحوال أن يخرج عن السياج الوطني المتراصف بأجساد الشهداء ويصبح الرصاص لغة للحوار، أو يفسد للودّ والتفاهم قضية ما بين الإخوة. فالقضية الفلسطينية ليست ملكاً لطرف دون الآخر، بل هي ملك الشعب الذي ضحّى وبذل واختار، وها نحن ندفع ثمن الاختيار الحرّ غير المسبوق ولا المألوف لا لخصومنا ولا لأصدقائنا ولا لأشقائنا، بعيداً عما يدعون ويروّجون ما يجعل لزاماً على كل الوطنيين أن يسعوا من أجل إحلال وتكريس سياسة التكامل عبر الحوار المسؤول، مكان لغة الرصاص والتنابز والتنافر والصراع التناحري المدمّر، الذي قد يودي بحقوقنا ويبدّد أي فرص للحل السياسي المفضي للسلام العادل المنشود، وذلك من خلال ما نشهده من تهيئة للظروف والمناخات المسمومة المعادية لشعبنا، وتسليح أعداء السلام العادل بالحجج والذرائع التي حلموا بها طويلاً كي يفرضوا السلام المنقوص والمقوّض لصالحهم دون صالحنا، عَبر الحلّ أحادي الجانب الذي نشهده اليوم ويطبقونه على أقل من مهلهم تحت غطاء أزيز الرصاص المتبادل بيننا، وضجيج قذائف الاتهام والتحريض المتبادلة يومياً، داخل البيت الفلسطيني. فهل ما هو حلال للإسرائيليين في التكامل والتبادل داخل البيت الإسرائيلي حرامٌ علينا في بيتنا ونحن بلابله الدَّوح!!
ولعلّي لا أعتقد أن تجربة التكامل وتبادل الأدوار ما بين مؤسستي الرئاسة والحكومة إذا ما تحمّلتا مسؤولياتهما التاريخية والسياسية تشكل أحجية أو ابتكاراً فلسطينياً جديداً، ستسجل براءة اختراعه باسمنا، بل هي سنة السياسة المؤكدة في كثير من تجارب الشعوب وليست مستحيلة، بل إن مثل هذا الأمر إذا ما صفت النوايا وتعزّزت بالموضوعية والعقلانية المتوازنتين، بعيداً عن اختصار الوطن والقضية بمصلحة هذا الفصيل أو ذاك، يمكن أن تشكل تجربة رائدة وخشبة خلاص للشعب الفلسطيني من هذه المحنة، نباهي فيها الأمم ونحقن دماءنا وحقوقنا الوطنية النازفة وكرامتنا المهدورة والراعفة، ونسحب البساط من تحت أقدام كل الذين يضمرون لنا الشر والعداوة، ويسعون لشطبنا عن الخريطة السياسية وكوكب الأرض الأميركي إن أمكنهم ذلك.
وإذا ما أتقنت حركة "حماس" دورها في تعزيز عرى التعاون البنّاء مع حركة "فتح" وباقي الفصائل في ما تحقّق وأُنجز على مدار المسار الفلسطيني الطويل الذي أوصلنا لما نحن فيه سلباً وإيجاباً، وتحلّت بالقدر الكافي من المرونة الضرورية اللازمة للبقاء والاستمرارية، وكذلك فعلت "فتح" من جانبها لتوظيف السقف السياسي العالي للحكومة في خدمة المشروع الوطني، والأهداف الوطنية البعيدة من على قاعدة التكامل وتوزّع الأدوار الذي سيسهم حتماً في تصليب وتعزيز السقف السياسي الفلسطيني، وتحسين موقعنا التفاوضي بدلاً من إخلائه وهجره، فإن ذلك كله سيخرج الحكومة من عنق الزجاجة ويحفظ لحركة "فتح" اعتبارها ومكانتها في مثل هكذا لحظة تاريخية حاسمة وحساسة، وصولاً لجعل مسألة الاعتراف المطلوبة من "حماس" قضية غير قابلة للاستخدام في الابتزاز السياسي اليومي الذي نشهده وترك بصماته على لقمة عيشنا وحياتنا وقضيتنا برمتها.
لِمَ لا، ونحن الذين شهدنا وعايشنا تجربة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وهي تستخدم باستمرار كل المتناقضات الداخلية والخارجية وتوظفها بعناية لصالح الدولة العبرية، واستفادت في سبيل أهدافها من جميع القوى والمفاعيل الإسرائيلية السياسية وغير السياسية بشتى ألوانها وأيديولوجياتها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وتقاسمت معها الأدوار.
إن أية مخارج أو حلول لنزع فتيل التوتر وعبور الأزمة غير المسبوقة المحدقة بالساحة الفلسطينية، يجب وبالضرورة أن تكون بالتوافق والتراضي ما بين جناحي السلطة أولاً، وتحظى بأكبر إجماع وطني ممكن، لأن خلاف ذلك قد يدخلنا في صراع تناحري دامٍ، وحرب أهلية لا تُحمد عقباها ولا نعلم أيّ مستقرٍّ لها.
أليس من باب أولى أن تسعى جميع الأطراف الفلسطينية، كل من موقعه، لتشكيل حكومة وحدة وطنية ذات سند شعبي واسع وقوي، من أجل الخروج إلى برّ الأمان وتحقيق مستوىً راقٍ من التناغم في السياسات والمواقف والتبادلية في الأدوار، التي توظف جميع الطاقات والإمكانيات الوطنية في خدمة السياسة والأهداف الوطنية العليا للشعب.
فالحكومة حكومتنا، والرئيس رئيسنا، والمنظمة منظمتنا، ونحن الذين اخترنا بملء إرادتنا وبما كسبت أيدينا، و"فتح" هي سارية النظام السياسي وحاملة المشروع الوطني الحرّ، و"حماس" لم تهبط علينا من السماء، بل هي منّا وفينا وهي المتمّم لشطري المعادلة في النظام السياسي الوطني الفلسطيني الحالي.
فلتعطوا الحياة فرصة، لأن دمكم عليكم حرام. فطريق السلام بيّن ونقيضه بيّن، وحجمنا وموقعنا في المعادلة بيّن هو الآخر. فمن رام درباً قويماً فذا، ومن رام درباً عقيماً فذاك.
زياد جيوسي
رام الله - فلسطين
عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب |