سعود المولى - سيّد قطب.. وأميركا في عام 1948 انتدبت وزارة المعارف سيد قطب في بعثة "لدراسة المناهج التعليمية في الولايات المتحدة الاميركية"... فقضى فيها عامين كاملين من آب ـ اغسطس 1948 وحتى آب ـ اغسطس 1950. ويقول هو في وصيته الشهيرة (التي صدرت بعنوان لماذا أعدموني؟ عن جريدة الشرق الاوسط السعودية ـ وهي عبارة عن تقرير كتبه للمحققين الذين كانوا يستجوبونه في السجن الحربي في 22 أكتوبر 1965) انه سافر الى اميركا في ربيع عام 1948، ولم يكن يعرف الا القليل عن الاخوان المسلمين.
و"في أميركا بدأ التحوّل الذي سيغيّر مجرى حياته لاحقاً". فهو كالكثيرين غيره من المثقفين الذين تحوّلوا من الماركسية او الليبرالية الى الاسلام (عمار اوزيغان ومالك بن نبي في الجزائر، جلال آل أحمد في ايران والكثيرون في لبنان ومصر وفلسطين والعراق والسودان من قادة الحركة الماركسية الماوية...)، اكتشف الاسلام في الغرب ، وتبنّى نظرة اصولية الى الذات بسبب صدمة الاحتكاك بالآخر وما تركته من آثار سلبية. ففي أميركا (وقبل رحلة السجون المصرية) بدأت أصولية سيّد قطب تتبلور من خلال نقد الآخر، (الحضارة الاميركية الغربية المادية) ونقد "انبهارنا بهذا الآخر وضياع هويتنا وتشتت قوانا"... وفي رسائله الى أصدقائه (توفيق الحكيم، والناقد والكاتب شقيقه محمد قطب، وزميله في دار العلوم محمد جبر، وأنور المعداوي، والاديب عباس خضر محرر باب المتابعات الثقافية في مجلة الرسالة، والشاعر محمد أبو الوفا، وغيرهم، وهي رسائل نشرتها مجلة الرسالة) بدأت ملامح التكوين الفكري الجديد لسيّد قطب تتشكل وسِمتها الرئيسية توتر قلق العلاقة بالذات والآخر.. في رسالة مطوّلة الى صديقه توفيق الحكيم (نشرتها مجلة الرسالة في عدديها 827 و 828 بتاريخ 9 و 16 أيار ـ مايو 1949) يقول سيّد قطب: "صديقي الكبير الاستاذ توفيق الحكيم... شكراً لك على هديتك الكريمة: كتابك الجديد "الملك اوديب"، انها شيء عزيز ثمين بالقياس الى هنا في تلك الورشة الضخمة السخيفة التي يسمونها العالم الجديد. لقد استروحت في كلمة الاهداء "ممن يذكرك دائماً"، "نسمة رخيمة من روح الشرق الأليف.
فالذكرى هي خلاصة الروح ـ وما كان أحوجني هنا الى تلك النسمة الرخيمة. ان شيئاً واحداً ينقص هؤلاء الاميركيين ـ على حين تزخر أميركا بكل شيء ـ شيء واحد لا قيمة له عندهم.. الروح!"... "أشعر بأنني أرد لك بعض جميلك حين أُحدثك بصراحة كاملة عن عملك الفني الجديد، مؤثراً هذه الطريقة على كتابة مقالة نقد. ليس بي الآن أقل رغبة لكتابة مقالات وليس لدي الوقت أيضاً". انما يشجعني على الكتابة للحظة انني أستحضر شخصك في خيالي واُبادلك حديثاً بحديث، ليس فيه كلفة التحضير ولا تعمّل الفكرة ولا اصطناع الاسلوب... ما أحوجني هنا لمن أُبادله حديثاً بحديث في غير موضوع الدولارات ونجوم السينما وماركات السيارات. حديثاً في شؤون الانسان والفكر والروح (...الى الاستاذ توفيق الحكيم ـ مجلة الرسالة العدد 827 _ الاثنين 9 ـ 5 ـ 1949). اننا نجد هنا كل عناصر النقد الاسلامي المعاصر للحضارة الغربية المادية (والاميركية تحديداً) وهو نقد تبلور على يد سيّد قطب في رسائله في مجلة الرسالة، وفي كتابه (الذي لم نعثر على أثر له) "أمريكا التي رأيت" (والذي نُشرت بعض حلقاته في مجلة الرسالة ـ الاعداد 957 ـ 959 ـ 961 بتاريخ 5 و19 نوفمبر و3 ديسمبر 1951).
ولقد حدثني الامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين مرة عن تاثّره هو وأبناء جيله أثناء مرحلة الدراسة في النجف بمقالات سيّد قطب في مجلة الرسالة وبخاصة رسائله الى أصدقائه والتي نُشرت ما بين عامي 1949 و1951. ولعلنا نلحظ بوضوح أثرسيّد قطب ورؤيته الحضارية للمسألة الاميركية في مقالات وكتب الامام شمس الدين والسيد الشهيد محمد باقر الصدر والسيد محمد حسين فضل الله والسيد محمد حسن الامين والسيد هاني فحص وغيرهم ممن درس في النجف في سنوات الخمسين والستين، وهم جميعاً كتبوا عن الحضارة الغربية وعن المادية في مواجهة الحضارة الاسلامية. ولعلي قرأت عند الامام شمس الدين وسمعت منه نفس المعاني ونفس
الروح، بل وربما نفس العبارات الواردة عند سيّد قطب حين يقول: "أمريكا... الدنيا الجديدة، ذلك العالم المترامي الاطراف الذي يشغل من أذهان الناس وتصوراتهم أكثر مما تشغل من الارض رقعته الفسيحة وترف عليه أخيلتهم وأحلامهم بالاوهام والاعاجيب وتهوي اليه الافئدة من كل فج.. أمريكا تلك المساحات الشاسعة.. تلك الموارد التي لا تنضب.. تلك المعاهد والمعامل والمتاحف... عبقرية الادارة والتنظيم، ذلك الرخاء السابغ كأحلام الجنة الموعودة.. ذلك الجمال الساحر.. تلك اللذائذ الحرة المطلقة من كل قيد أو عُرف.. امريكا هذه كلها... ما الذي تساويه في ميزان القيم الانسانية وما الذي أضافته الى رصيد البشرية من القيم أو يبدو انها ستضيفه اليه في نهاية المطاف؟ أخشى الا يكون هناك تناسب بين عظمة الحضارة المادية في أمريكا وعظمة "الانسان" الذي ينشئ هذه الحضارة.. واخشى ان تمضي عجلة الحياة ويطوى سجل الزمن، وأمريكا لم تضف شيئاً ـ او لم تضف الا اليسير الزهيد ـ الى رصيد الانسانية من تلك القيم التي تميّز بين الانسان والشيء، ثم بين الانسان والحيوان"..
وكان هذا الموقف من الحضارة الغربية المادية شديد الحضور في اواخر الاربعينات ومطلع الخمسينات وخاصة في الغرب حيث انه شكّل القاعدة الاساسية للحركة الفلسفية الوجودية ولغيرها من الحركات النقدية في العلوم الانسانية والاجتماعية... ولقد سمعت ايضا من الشيخ شمس الدين ان مصدر ذلك الموقف الاسلامي من الحضارة الاميركية يعود ايضاً الى كتابات ارنولد توينبي وبرتراند راسل التي كانت تتنبأ بنهاية عصر الرجل الابيض وحضارته التي لم يعد لديها ما تعطيه للبشرية. ولقد أخذ سيّد قطب هذا المعنى حين قال بان "كل حضارة انما تعيش بمقدار ما تملك ان تعطي البشرية من رصيد في ادراك الحياة وبمقدار ما يسمح هذا الرصيد للحياة بالامتداد والنمو والرقي.. ولقد انتهت الحضارة الاوروبية الاميركية الى ان تقصر همها على انتاج المصانع، اما في حقل المبادئ فانها ظلت تجتر مبادئ الثورة الفرنسية".. (سيّد قطب ـ نحو مجتمع اسلامي ـ دار الشروق ـ ط3ـ 1978ـ ص 21 ـ 22).
وحسب سيّد قطب فان منشأ الفكرة الشيوعية يعود الى احتلالها "في عالم المبادئ مساحة اوسع من المساحة التي انتهت اليها مبادئ الثورة الفرنسية في العالم الغربي.. ان الشيوعية هي النهاية الطبيعية لحضارة خالية من الروح، خاوية من المثل، مجرّدة من الاحلام"... (نفس المصدر ـ ص 22 ـ 23,.) ولكن الشيوعية نفسها ستقع هي الاخرى في ورطة ولن تستطيع سدّ جوع الانسان "الى هدف انساني أكبر والى صلة بالكون اشمل من البيئة والى عقيدة في قوة اكبر من البشرية والى مستقبل دائم النمو لا يقف عند حد محدود".. (ص 29).. وهنا دور الاسلام، الوارث الحضاري لقيادة البشرية.. وانه "لو لم يكن الاسلام موجوداً لبحثت عنه الانسانية ولابتدعت نظاما يشبهه بعد انحسار الموجتين السابقتين".. (ص 33).
اننا نجد هذا المعنى نفسه لدى كل مفكري الحركة الاسلامية العربية المعاصرة وهو معنى تحول لاحقا الى طوطم عبر شعارات "الاسلام هو الحل"، و"الاسلام هو البديل"، ففقد كل مصادر غناه وحيويته ومستواه النقدي الثوري التي كانت له على ايدي شمس الدين ومطهري وشريعتي ومالك بن نبي.. خصوصاً وانه عند سيّد قطب لم يحجب رؤيته لمكامن الخلل والضعف في المجتمعات الاسلامية، ولم يجعله يمجّد الذات ويحطّم أو يشوّه الآخر... "آه يا صديقي، ليتك لم تذهب الى فرنسا.. ولكنك ما كنت بمستطيع الآن ان تقوم بدورك الاساسي في وضع القالب الفني الصحيح للتمثيلية (المسرحية) العربية اذا لم تذهب الى هناك ... فدراستك هناك للمسرح الاغريقي هي التي مكنتك من وضع القالب السليم .. ان الخير لا يمكن تمحيصه والشر لا يخلو من الخير بحال.. والآن يا صديقي، هل ادلك على النبع؟ لقد قال لك استاذك الفرنسي، كما قلت في "زهرة العمر" وأنت تعرض عليه محاولاتك باللغة الفرنسية: "اكتب بلغتك تبدع". هذا هو نفسه ما أقوله لك: "استوح ميراثك لتبدع ـ (رسالة الى توفيق الحكيم ـ مجلة الرسالة ـ العدد 828 ـ الاثنين 16/5/1949)".
"اننا نملك أشياء ولكننا لا ننتفع بها ولا نستغلها.. اننا نملك طاقات من الذكاء الخارق حين نقارن شعبنا الى شعب كالأمريكان، ولكننا نهمل هذه الكنوز بالجهل والامية والفقر المدقع القاتل لكل موهبة وذلك لتستمتع حفنة من الباشوات والكروش بترف لا تعرفه القرون الوسطى". (من رسالته الى عباس خضر ـ مجلة الرسالة ـ العدد ـ 887 الاثنين 3 يوليو ـ تموز 1950).
"انني حين أكتب عن أمريكا ما احسه من حقائق لا أعني انني راض عن الحياة في الشرق وما فيها، ولكن هناك شيئاً واحداً لا يصح ان نغفله: ان امريكا تستخدم كل رصيدها الممكن واننا نهمل رصيدنا فنبدو مفلسين.. ان الحاضر الواقع في بلادنا لا يرضي احداً ولكن الممكنات امامها كثيرة لو وثقنا في أنفسنا وفي رصيدنا المكنون وهذا هو مفترق الطريق.. ولو انك عشت في امريكا بعض الوقت كما عشت لحمدت للشرق روحه رغم هذا الخمول الذي يُعانيه" (نفس المصدر).. وهو كان في مكان سابق من نفس الرسالة أطلق مقولته الفظيعة الدقة والامينة التشخيص حين قال: "تصلح أمريكا ان تكون ورشة العالم فتؤدي وظيفتها على خير ما يكون .
اما ان يكون العالم كله كأمريكا فتلك هي كارثة الانسانية بكل تأكيد".. (وما أشبه اليوم بالبارحة!).
لقد درس سيّد قطب المجتمع الاميركي وحضارته دراسة وافية نلحظها في ما ورد في كتبه اللاحقة مثل: "الاسلام ومشكلات الحضارة" (طبعة 1962) و"نحو مجتمع اسلامي" (طبعة 1969) و"معركة الاسلام والرأسمالية" (طبعة 1951) و"المستقبل لهذا الدين" (طبعة 1961) و"الاسلام والسلام العالمي" (طبعة 1951) وهو يتحدث عن دراسته للمجتمع حين كان في أميركا فيقول: "كنت ليلة في احدى الكنائس ببلدة جريلي بولاية كولورادو فقد كنت عضواً في ناديها، كما كنت عضواً في عدة نواد كنسية في كل جهة عشت فيها ما بين واشنطن في الشرق وكاليفورنيا في الغرب، اذ كانت هذه ناحية هامة من نواحي المجتمع، تستحق الدراسة عن كثب ومن الباطن لا من الظاهر،
وكنت معنياً بدراسة المجتمع الامريكي" (الاسلام ومشكلات الحضارة ص 82) وفي كتابه "امريكا التي رأيت" والذي قال انه سينشره في كتيّب في سلسلة اقرأ، ونشر بعض حلقاته في الرسالة كما سبقت الاشارة، يستعرض سيّد قطب "معالم" الحضارة الاميركية لينتقدها، ولكنه في استعراضه السريع يبدو عالم اجتماع وعالم نفس وعالم سياسة واسع الاطلاع عميق الثقافة دقيق الملاحظة متين التعبير:
"وانه ليبدو ان العبقرية الاميركية كلها قد تجمعت وتبلورت في حقل العمل والانتاج بحيث لم تبق فيها بقية تنتج شيئاً في حقل القيم الانسانية... شعب يبلغ في عالم العلم والعمل قمة النمو والارتقاء بينما في عالم الشعور والسلوك بدائي لم يفارق البشرية الاولى، بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك"...
وتحضرني هنا واقعة طريفة تبين مقدار معرفة سيد قطب بالمجتمع الاميركي (قبل 55 عاماً) ومقدار جهل معظمنا اليوم رغم كل التقدم في وسائل الاتصال والاعلام والمعرفة! فقد نقل عادل حمودة في كتابه "سيد قطب من القرية الى المشنقة" مقاطع طويلة من رسائل سيد من اميركا والمنشورة في مجلة الرسالة معلقا على ما ورد في احداها من وصف سيد قطب لمباراة في لعبة "كرة القدم" فقال حمودة: "ادهشني ان يتابع سيد قطب مباريات الكرة ولكن فاته ان تلك اللعبة لا تسمى في امريكا كرة القدم (فوتبول) وانما تسمى بيسبول وهي لعبة امريكية خاصة لها شهرة كرة القدم في بلاد اخرى". (ص 100 من كتابه). والحقيقة ان عادل حمودة، الصحافي الشهير، هو الذي اخطاْ ولم يفهم اسماء العاب الكرة في اميركا كما عرفها ونقلها سيد قطب الذي كان على حق حين وصف اللعبة واسمها فعلا كرة قدم ـ فوتبول ـ وهي غير الفوتبول العالمية التي اسمها في اميركا سوكر(Soccer) وهي طبعا غير البيسبول.. وكان سيد قطب في ما كتبه عن اميركا مراقبا فطنا لا بل باحثا سوسيولوجيا وليس مجرد ناقل من غير علم او معرفة..
إننا حين نقرأ اليوم "امريكا التي رأيت" لسيّد قطب، نفاجأ لدقة التحليل وعمق الرؤية وكأننا نقرأ النص اليوم في مطلع الالفية الثالثة (وبعد مرور نصف قرن على كتابته). في "امريكا" هذه يتخلى سيّد قطب عن عقيدة "ان الادب للادب"..
ورغم نقده وعدائه للشيوعية فانه صار يؤمن بنوع من "الادب الملتزم" المنبثق عن العقيدة وواقع الحياة وصدق العواطف.. وفي ذلك نلمس بداية الاصولية الشبيهة الى حد التماثل بالاصولية الشيوعية لمرحلة ستالين، والتي عبّر عنها جدانوف في خطابه الشهير والمنشور بعنوان: "ان الادب كان مسؤولاً" (ترجمة رئيف خوري). وهي نظرية سادت حتى في الولايات المتحدة الاميركية، الامر الذي جعل اهل الادب والفن والمسرح "شيوعيين مارقين" في نظر الادارة الاميركية الى ان شنت حملة التطهير الشهيرة أيام المرحلة المكارثية مطلع الخمسينات.
فالتحول الاصولي كان اجتماعياً بداية وقد عرفه سيّد قطب بالاحتكاك بالتيارات المتناقضة إبّان وبعد الحرب العالمية الثانية حيث ماتت القيم وهلكت الروح.. "ان المبادئ والافكار في ذاتها ـ بلا عقيدة دامغة ـ مجرد كلمات خاوية او على الاكثر معان ميتة! والذي يمنحها الحياة هي حرارة الايمان المشعّة من قلب انسان! لن يؤمن الآخرون بمبدأ او فكرة تنبت في ذهن بارد لا في قلب مشع.. لا
حياة لفكرة لم تتقمص روح انسان ولم تصبح كائناً حياً دبّ على وجه الارض في صورة بشر! كذلك لا وجود لشخص ـ في هذا المجال ـ لا تعمر قلبه فكرة يؤمن بها في حرارة واخلاص. كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب انسان! اما الافكار التي لم تطعم هذا الغذاء المقدّس فقد ولدت ميتة ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً الى الامام".. (أفراح الروح ـ ص 23 ـ 24). ان هذا التحول شبيه الى اقصى الحدود بتحولات مماثلة عرفتها البلدان العربية منتصف السبعينات من القرن العشرين حين انتقل قادة ومفكرون ماركسيون ماويون بارزون الى التيار الاسلامي على قواعد الاسلام الحضاري في مواجهة الغرب..
في أميركا يتوقف سيّد قطب عن الكتابة.. "ولعل منشأ هذا العزوف هو الرغبة في تحقيق شيء اكبر من مجرد الكتابة. انني على ايمان بقوة الكلمة وامتدادها. كنت احس اننا في مصر وفي الشرق قد تكلمنا اكثر مما ينبغي وانه آن أوان ان نصنع شيئاً آخر وراء الكلام وغير الكلام". (مقالته في الادب والحياة ـ مجلة الكتاب ـ الجزء الرابع ـ المجلد العاشر ـ 1951). وهو يصل الى ذروة موقفه هذا في رسالته الى صديقه الناقد الادبي أنور المعداوي (نشرها صلاح الخالدي:
اميركا من الداخل بمنظار سيّد قطب ـ دار المنار ـ جدّة 1985 ـ ص 158) "تنتظر عودتي لأخذ مكاني في ميدان النقد الادبي ! أخشى ان أقول لك ان هذا لن يكون، وانه من الأولى لك ان تعتمد على نفسك الى ان ينبثق ناقد جديد! انني ساُخصص ما بقي من حياتي وجهدي لبرنامج اجتماعي كامل يستغرق أعمار الكثيرين. ويكفي ان أجدك في ميدان النقد الادبي لأطمئن الى هذا الميدان".
ان قول سيّد قطب "ببرنامج اجتماعي كامل يستغرق أعمار الكثيرين" يفيد معنى القناعة بضرورة صياغة مشروع لنهضة حضارية شاملة لا ينحصر مداه في عمل جيل واحد ولا تتحدد أطره في زاوية واحدة من النظر بل هو برنامج "شامل" وهو "مشروع تاريخي" لا يلتزم العجلة والتسرع او النظرة الانقلابية النخبوية.. ان في هذا ما يدحض نظرية المؤامرة الانقلابية القطبية ويطرح ضرورة اعادة النظر في كل
المحاكمات التي أجريت والادانات التي لحقت بمشروع سيّد قطب.
وقد قيل ان سيداً بدأ التفكير في الاخوان المسلمين وهو في أميركا وخصوصاً بعد نكبة فلسطين ودور الاخوان في الجهاد والدفاع عن القرى والمدن في الحرب على الجبهة المصرية والاردنية (راجع كتاب الاخوان المسلمون في حرب فلسطين).
وقد ذكر سيّد قطب لشقيقه محمد (بعد عودته من اميركا) انه اقترب من الاخوان عاطفياً بعد اغتيال حسن البنّا (شباط ـ فبراير 1949) حيث رأى الفرحة والشماتة تعم الاوساط الصحافية والاكاديمية الاميركية، الامر الذي دفعه الى اعادة النظر في موقفه من دعاوى "الحياد والموضوعية" و"النزاهة العلمية" ورؤيته للتحيّز في أسطع صوره. فهو تريَّث أولاً وانتهى ثانياً من مقولة الادب للادب، وانتقل ثالثاً الى أدب الحياة والالتزام والمسؤولية قبل ان تطوُح به الاحداث والنكبات الى خندق السياسة. ولعل أصدق وصف وتفسير لما حدث له نجده في وصيته الاخيرة قبل اعدامه وهي التي نشرتها جريدة الشرق الاوسط في كراس صغير بعنوان: لماذا أعدموني؟ (دون تاريخ نشر) اذ يقول فيها عن تلك المرحلة: "لفت نظري بشدة بعد اغتيال حسن البنّا ما ابدته الصحف الاميركية وكذلك الانكليزية من اهتمام بالغ بالاخوان ومن شماتة وراحة واضحة في حل جماعتهم وضربها وفي قتل مرشدهم، ومن حديث عن خطر هذه الجماعة على مصالح الغرب في المنطقة وعلى ثقافة الغرب وحضارته فيها".. وانه صدرت كتب بهذا المعنى سنة 1950 يذكر منها كتاباً لجيمس هيوارث دن بعنوان "التيارات السياسية والدينية في مصر الحديثة".. كل هذا لفت نظري الى أهمية هذه الجماعة عند الصهيونية والاستعمار الغربي. وفي الوقت ذاته صدر لي كتاب العدالة الاجتماعية في الاسلام سنة 1949 مصدراً باهداء هذه الجملة: "الى الفتية الذين المحهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديداً كما بدأ، يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم الخ.. "ففهم الاخوان في مصر انني اعنيهم بهذا الاهداء ولم يكن الامر كذلك ولكنهم من جانبهم تبنوا الكتاب واعتبروا صاحبه صديقاً وبدأوا يهتمون بأمره. فلما عُدت في نهاية عام 1950 بدأ بعض شبابهم يزورني ويتحدث معي عن الكتاب.." (لماذا أعدموني ـ ص 10 ـ 11).
في البداية عمل سيّد قطب منذ عودته الى مصر على محاولة اصلاح التعليم ومناهجه مقدماً الاقتراحات والنصائح الى وزارة المعارف التي كانت قد أوفدته الى اميركا خصيصاً لدراسة النظم التعليمية وامكانيات تطبيقها في مصر. وقد قيل الكثير حول اختلاف سيّد قطب و"رجال أميركا" في وزارة المعارف وأبرز ما قيل جاء على لسان يوسف العظم الذي نسب الى سيّد قطب قوله بان "مناهج التربية الاميركية غريبة عنا ولا تنبع من أعماق جذور امتنا ولا ترتبط بأصالتها برباط". ودعا سيّد الى اتخاذ المنهاج الاسلامي الشامل المتكامل أساساً للتربية في ديار الاسلام .. فقامت قيامة الابواق الامريكية في وزارة التربية والمعارف المصرية وكان على رأسها يومئذ الاستاذ اسماعيل القباني يغفر الله له.." (الخالدي ـ ص 40).
وحسب العديدين ممن كتبوا سيرة حياته فان رفض اقتراحاته ومشاريعه أدى الى ترك سيّد قطب الوزارة وتقديم استقالته في أواخر عام 1952. الا انني أميل الى الاعتقاد ان انغماسه في العمل السياسي بعد عودته من اميركا، وصِلته بالضباط الاحرار اثناء التحضير لثورة يوليو وصداقته لابرز اركان الثورة لا بل وتتلمذهم عليه اذ كانوا يترددون الى منزله في حلوان ثم في شقته بالقاهرة، وكان هو المدني الوحيد الذي يحضر اجتماعات مجلس قيادة الثورة اضافة الى قراره الانخراط في حركة الاخوان المسلمين وتسلمه مسؤوليات فيها كان السبب في استقالته من وزارة التربية.. وفي ذلك يقول سيّد نفسه: "واستغرقت أنا عام 1951 في صراع شديد بالقلم والخطابة والاجتماعات ضد الاوضاع الملكية القائمة والاقطاع والرأسمالية وأصدرتُ كتابين في الموضوع غير مئات المقالات في صحف الحزب الوطني الجديد والحزب الاشتراكي ومجلة الدعوة التي كان أَصدرها الاستاذ صالح عشماوي ومجلة الرسالة وكل جريدة او مجلة قبلتْ ان تنشر لي بلا انضمام لحزب او جماعة معينة. فظل الحال كذلك الى ان قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952. ومرة أُخرى استغرقتُ كذلك في العمل مع رجال ثورة 23 يوليو حتى فبراير سنة 1953 عندما بدأ تفكيري وتفكيرهم يفترق حول هيئة التحرير ومنهج تكوينها... وفي الوقت نفسه كانت علاقاتي بجماعة الاخوان تتوثق باعتبارها في نظري حقلاً صالحاً للعمل للاسلام على نطاق واسع في المنطقة كلها بحركة احياء وبعث شاملة.." (لماذا أعدموني؟ ـ ص 11).
وكان سيّد يرى بانه ليس هناك من بديل يكافئ حركة الاخوان المسلمين للوقوف في وجه المخططات الصهيونية والصليبية الاستعمارية "التي كان قد عرف عنها الكثير وبخاصة في فترة وجوده في أميركا" (المصدر نفسه). وكان من نتيجة ذلك انضمامه الى الاخوان في عام 1953 أي بعد خلافه مع الظباط الاحرار.. الا ان الاخوان، مع ترحيبهم به، حدّدوا مجال عمله في الامور الثقافية لقسم نشر الدعوة ودرس الثلثاء والجريدة التي تولى رئاسة تحريرها وتعطلت بعد صدور اثني عشر عدداً منها .. وقد ظلّ سيّد بعيداً عن الامور الحركية وهذا أمر مفهوم كون الاخوان تعاملوا معه كمثقف اسلامي وكونه حديث الصلة التنظيمية بهم
شفاف الشرق |