أحمد مغربي - إعادة تعريف دور الطبيب في«المؤتمر الطبي الأربعون للشرق الأوسط»:
وجوه فزعة، بعيون مملوءة بالهلع. الأرض استحالت الى قبور تتماهى أشكالها مع سرطان الثدي. مريض يحاول التقاط التماعة الأمل، أو ربما يعيش لحظة يأس ساحق، بذراع ممدودة تحت عمود حديد بارد في طرفه كيس مملوء بسائل زهري، وقد تدلى من الكيس انبوب لضخ الدواء، أو لشحن الانسان بالجرعة الأخيرة من الرجاء المستحيل. أياد بأصابع مفرودة، تحاول التقاط ما يُشبه قطرة دمع لمريضة تسير على درب جلجلة آلامها المفضية الى موت لا يرحم. يصعب على العين ان لا تتحوّل الى مدخل للحزن الإنساني، خلال تجوالها بين لوحات في معرض الرسم الذي رافق المسار المشترك لحدثين علميين «المؤتمر الطبي للشرق الأوسط» Middle East Medical Assembly (MEMA)، والمؤتمر السادس لـ»الجمعية اللبنانية الطبية للسرطان» Lebanese Society of Medical Oncology (LSMO-6). وقد اختتم «المؤتمر الطبي للشرق الأوسط» دورته الاربعين في العاصمة اللبنانية أخيراً، وأجريت الكثير من جلساته في «مركز خريجي الجامعة الأميركية» ببيروت. وقبل الوصول الى «قاعة عصام فارس» في ذلك المركز، يجد قاصدها نفسه مضطراً الى عبور بوابة الطابق السفلي من المستشفى التابع لتلك الجامعة. وتسير سيارات التاكسي بالخارج من جلسات النقاش، إذا أراد الوصول الى البحر، لتعبر الساحة القريبة من فندق «السان جورج»، والتي لا زالت خراباً منذ ذلك الزلزال المُدوي في 14 شباط (فبراير) 2005، حين اغتيل الرئيس رفيق الحريري. وعلى رغم كثافة حضور تلك الأحداث الجليلة، وما أعقبها من أحداث باتت مشهورة، بدا المؤتمر وكأنه تذكّر قوي من بيروت لدورها الكبير في العلم والثقافة. ألم تكن جامعتها الأميركية، التي أحتضنت المؤتمر، من أولى مساحات التقاط العلم الحديث ونقله الى العالم العربي؟ كأن الأيام الصعبة التي تعيشها تلك المدينة راهناً لا تثنيها عن محاولة النهوض مجدداً بذلك الدور. وعادت اليه، هذه المرّة، لتتعاطف، بالعلم والفن، مع الانسان في صراعه مع المرض والموت. لم يثنها أيضاً، أنها تعيش آلاماً يومية لا حد لها، تأتي من السياسة المترجرجة بأثر التغييرات التي تهز المنطقة، ومن ذاكرة الإغتيالات الطريّة، ومن المشاعر المحملة بالعنف والتي تندلق يومياً في الشوارع، ومن الهمّ المعيشي الطاحن وغيرها.
إعادة تعريف دور الطبيب
عند مدخل «قاعة عصام فارس»، عقد معرض طبي، سيطرت شركات الأدوية الكبرى على معظم منصاته، فيما ركنت مكتبة «مالك» البيروتية منصة ملأتها كتباً طبية متخصصة. والحال ان مكتبة «مالك» لها تاريخ خاص مع بيروت وجامعتها الاميركية. فقد انبثقت من صعوبات الحرب اللبنانية المريرة، التي امتدت عقوداً ثلاثة في نهاية القرن الماضي، واعتمدت على تقديم كتب جامعية ومراجع أجنبية مرموقة، بأسعار رخيصة، بالاستناد الى تقنيات النسخ بالتصوير الضوئي. ربما أثار عملها الكثير من النقاش، لكنها بدت مخرجاً لا بد منه، في ظل التمزقات الهائلة التي أحدثتها الحرب. وشيئاً فشيئاً، باتت مكتبة «مالك» متنوعة. وحافظت على خصوصية تفاعلها مع «الجامعة الأميركية»، إذ تُركّز على الكتب العلمية، وكذلك الأدوات التي تعتمدها تلك الجامعة أكاديمياً. وفي أحدى المنصات تشاهد العين تمثال بلاستيك مُمدّداً على الارض، وقد ثُبتت على صدره آلة مما يستخدمه الأطباء في أقسام الطوارئ لضخ شحنات كهربائية قوية الى القلب، في حال تعطله عن العمل. يُعطي هذا المشهد جزءاً من الجهود التي يبذلها الأطباء في لحظات الصراع المرير مع جسد المريض المُعلّق بين الحياة والموت. ويستدرج التمثال النقاش الطبي المستمر عن تعريف الموت طبياً، وإضافة الى النقاش عن دور الطبيب في تلك اللحظات الحرجة. متى يجب على الأطباء بذل كل جهد ممكن من أجل اعادة أعضاء الجسم الى وظائفها، حتى لو كان جُلّها مُعطلاً، ومتى يجدر بهم الكفّ عن تلك الجهود؟
والحال ان تلك الأسئلة الحساسة، شكّلت جزءاً من أعمال «المؤتمر الطبي الاربعين للشرق الأوسط». وأوصلت المؤتمر الى حدود النقاش العلمي المحتدم راهناً عن تعريف دور الطبيب، انطلاقاً من الميل الى إعادة النظر في دوره عند اللحظات الأخيرة من الحياة. يمثّل الأمر جزءاً من نقاش عالمي، عكس المؤتمر بعضاً من أصدائه. وفي ظلال ذلك النقاش، ان دور الطبيب شهد تغييرات عدة تاريخياً. ففي عصر أبوقراط، ظهر الطبيب باعتباره من يمتلك معرفة بما ينفع المريض، أي انه كان اليد الراعية التي تُشخص المرض لتعين المريض على الشفاء أو تخفف من شدة أعراضه وآلامه، وكذلك تعين في الوقاية منه. في القلب من الرؤية الاغريقية، تعريف الطبيب بالاستناد الى قدرته على الشفاء والمساعدة. واستطراداً، استكملت تلك الصورة بامتزاج الفلسفة مع الطب، أي ان الطبيب كان حكيماً ومُداوياً في الوقت ذاته. نظرت الفلسفة اليونانية الى الموت باعتباره المصير الطبيعي للبشر، وبالتالي لم يكن الطبيب ليتخلى عن مريضه في لحظات عبوره الى العالم الآخر، لكنه كان يساعده قدر المستطاع بهدوء وروية. وفي الحضارة العربية - الاسلامية، تعمق النهج الأغريقي وتوطد، مع توسع كبير في أساليب المعالجة والتداوي. وبدا ابن سينا كاستمرار تاريخي لأبوقراط، بما في ذلك جمعه الطب مع الفلسفة، إضافة الى اهتمامه الواسع بالأدوية ورصده الدؤوب لأعراض المرض، وعنايته باستنباط أساليب الوقاية. وامتد خيط مشترك بين اليونان والعرب: الطبيب المداوي بالعلم والحكمة. واستمرت تلك الصورة، وصولاً الى العصر الحديث، وخصوصاً في القرن العشرين، فشهد الطب تغييراً جذرياً. ومع الحداثة والصناعة، وصعود العلم والعقلانية، وتعملق النظام التعليمي والأكاديمي، والتكاثر الانفجاري للتخصصات الطبية والعلوم المختبرية، وأجهزة التشخيص بالأشعة والموجات الصوتية والمغناطيسية، ظهر اهتمام طبي هائل بالتشخيص ووسائله، إضافة الى سيطرة الطابع المؤسساتي على الممارسة الطبية، وميل الشركات الى احتكار الأدوية وأبحاثها وغيرها. ولم يتردد بعض المفكرين الأوروبيين في القول ان الطب انتقل من العلاج الى التشخيص. وتلا ذلك، علت أوساط تطالب بالعودة الى التشديد على الطبيب المُعالج وحكمته. والأرجح أن شيئاً كثيراً من هذا المتغيّر التاريخي حضر في «المؤتمر الطبي الاربعين للشرق الأوسط»، الذي تركزت أعماله على 3 محاور: السرطان وأمراض القلب وطب أحوال الطوارئ. وخصص جلسات يومه الأخير لنقاش علاقة الطبيب بالمريض المُحتضر. ومن المستغرب ان المحاضرات التي تناولت علاقة الطبيب مع حضور الموت لم تثر نقاشاً كبيراً، على رغم حساسية المواضيع التي أثارتها. فمثلاً، كيف يمكن رسم الخط الفاصل بين المريض المُحتضر، الذي يجدر التدخل في مساره بالحد الأدنى من النشاط الطبي، وبين المريض المُعاني من إضطراب كبير يضعه على حوافي الاحتضار، فيتوجب التدخل بقوة، وبأقصى قوة، لإنقاذه؟ كيف يمكن تعريف الطبيب ودوره في مثل تلك الحدود غير الثابتة وربما المُراوغة؟ الحال ان النقاش عن تلك الأمور ما زال شيئاً مفتوحاً في كثير من المجتمعات الغربية، ولعل النقاش الاميركي عن حال المريضة «شيافو» يمثل نموذجاً من ذلك الصخب.
وعادت صورة المُعالج بالعلم والحكمة، تلك التي رسمتها أيدي أبوقراط وابن سينا، للحضور في المؤتمر المذكور، مع المحاضرة شبه الختامية للدكتور هارولد كوينغ، من جامعة «ديوك»، والتي حملت عنواناً لافتاً:» الطب والروحانية والدين». هل يشهد القرن 21 عودة الفلسفة للإندماج مع الطب، بعد قرون من الافتراق؟
الحياة |