إقبال الغربي -
لماذا تفضل نساء المسلمين عمرو خالد على ابن رشد وفولتير؟
إن المتأمل في المشهد الإعلامي يلاحظ أن «ظاهرة الدعاة الجدد» ليست جديدة في حد ذاتها وأنها ليست وليدة السنوات الأخيرة ، لكنها بلغت ذروتها في السنوات الأخيرة، مع تزايد أعداد الجمهور، وانتشار الصالونات الإسلامية، ودروس المساجد، ثم القنوات الفضائية هذا الوسيط الإعلامي والواسع الانتشار. و مما يلفت الانتباه علاقة الدعاة الجدد بالفنانات المعتزلات ورجال الأعمال المتدينين، و تتجاوز هذه العلاقة الأطر الشخصية و الذاتية لتنسج علاقات موضوعية ، وصلات تبادل، ودعم، بين مراكز تجمع دينية جديدة تختلف عن الجماعات الراديكالية، وتختلف أيضا عن المؤسسة الدينية التقليدية، وبين فئات اجتماعية تملك الرأسمال الرمزي (الشهرة) أو الرأسمال المادي (الثروة) و لكنها تفتقد إلى المشروعية الدينية .
و تعتبر ظاهرة عمرو خالد ظاهرة طريفة ، ويُعد عمرو خالد أول داعية إسلامي يستخدم القنوات التلفزية وشبكات الانترنت في عمله الدعائي . ما يمارس هذا الداعية هيمنته على مشاهديه عن طريق استدرار الإعجاب و سحر البيان و تقديم إسلام جديد شخصي ,معقم ,متناغم مع الواقع اليومي . و يناقض عمرو خالد الشاب ً النموذج المعتاد للخطيب الإسلامي بابتسامته وصغر سنه وزيه الغربي الأنيق، بل وتعدّت شعبيته لدى فئتي الشباب و النساء شعبية الفنانين و المغنيين المشهورين وحاز موقعه على الشبكة على زوار أكثر من مواقعهم. بل إن الارتباط بعمرو خالد و استضافته المكلفة هو نوع من الوجاهة الاجتماعية التي تحرص عليها الأسر المصرية الثرية.
و سنحاول في هذا المقال فهم أسباب تعلق نساء المسلمين بشخصية عمرو خالد و افتتانهن به وهو ما حوله إلى معبود للجماهير النسائية. و من المعروف أن فهم أي ظاهرة اجتماعية يستدعي إلقاء نظرة متأنية و عميقة لسبر أغوارها.
النساء اللواتي يتعاطفن مع الخطاب الأصولي المعادي لهن استبطن عبوديتهن و دونيتهن فهم ضحية العنف الرمزي. هذا العنف الهادئ اللام رئي و اللامحسوس حتى بالنسبة لضحاياه . و يتمثل العنف الرمزي في مشاركة الضحية في تصورات جلاديها عن نفسها و عن المجتمع و عن العالم و أن يعتبرا معا هياكل الهيمنة و الاستغلال من المسلمات و الثوابت . فالعنف الرمزي هو الذي يجعلنا نعتبر دونية المرأة لا كواقعة تاريخية و ثقافية بل كظاهرة فطرية طبيعية لا تحتمل المسائلة و التشكيك و عكسها هو العجب !
السؤال المطروح الآن هو من المسئول عن هذا الوضع و ما هو المخرج منه ?
توجد عدة عوامل موضوعية و ذاتية معقدة و متداخلة تجعل المرأة المسلمة تتشرب الخطاب الأصولي. نذكر منها :
العزلة الاجتماعية :
تؤكد آنا ارندت في وصفها الدقيق للنظم الشمولية أن ما يتميز به رجل الحشد ليس البربرية أو التخلف الذهني بل العزلة التي يعاني منها و افتقاره لعلاقات اجتماعية صحية مع الآخرين .
تشكو المرأة في بلاد المسلمين من العزلة الاجتماعية إذ تتميز المجتمعات الحديثة بتآكل النسيج الاجتماعي و بسيادة الفر دانية خاصة في المدن. فالتمييز الجندري التي تعاني منه المرأة في مجتمعاتنا يفرض عليها الاعتزال و التهميش و يتنكر لحقوقها و يجعلها غريبة و مشردة في المدينة لا حق لها في الشارع أو في الفضاءات العامة إلا لمدة سويعات قليلة . و هذه الظاهرة تعكس قمعا ذكور يا صارخا ما زلنا نشهد بعض فصوله حتى اليوم في كل مكان من العالم العربي الإسلامي: فنحن لا نزال ه نعتبر المرأة كائنا هشا ينبغي إخفاؤه ي بل إننا إلى اليوم نعتقد وعيا أو لاوعيا أنها الضامنة لشرف الأمة و المجتمع و هي المؤتمنة على رأسمال العائلة الرمزي . و المفارقة العجيبة هي أن شرف العائلة لا يتلوث بسلوكيات العائلة و تصرفاتها و أخلاقياتها بل يتلطخ فقط بعلاقة حقيقية أو وهمية بين المرأة و رجل أجنبي . و من هنا يصير تقييدها أو تحجيبها ضرورة فأي حركة منها بالاتجاه الآخر سوف يعتبر تهديدا لقيم الأجداد و لأسلاف. هستيريا الخوف على الشرف العربي الإسلامي تفرض قيوداً اجتماعية متنوعة على النساء . وهذه القيود تبقي النساء محاصرات ضمن حدود ضيقة يقررها ويديرها الرجال.
وغالبية الرجال دائما يسلبون المرأة حقوقها المعنوية والإنسانية من منطلق أن المرأة كائن أنساني مخلوق لتأدية وظيفة الحمل والولادة وتربية الأولاد و رعاية شؤون الزوج. . . ولو حسبنا ساعات عملها في المنزل نجدها أنها تعمل أكثر من ثمانية ساعات يوميا و حيدة في البيت تهتم بشؤون الأسرة وتدبير المنزل . وهي تكرر نفس الأعمال الرتيبة ذاتها طوال أيام حياتها دون أي مقابل إذ لا يحسب هذا عمل مأجور. كما تحتقر هذه المهام النسائية و تعتبر المرأة غير منتجة و عالة على الزوج وهو ما يفقد المراة ثقتها في نفسها و و يعطيها صورة سلبية عن ذاتها.
و تجدر الإشارة إلى أن بعض الآراء في الأمم المتحدة تقر بوجوب اعتبار إدارة البيت والحمل والولادة وتربية الأطفال وظيفة اجتماعية مدفوعة الأجر كي لا يستحوذ الرجل على عمل المرأة وهو مقتنع أنها تعمل ضمن وظيفتها البيولوجية لاغبر. و الجدير بالذكر هو انه حتى في حالة خروج المرأة إلى العمل فشغلها يعتبر جائزا عند الضرورة. فيبقى عملا مغتربا مختزلا في بعده المادي لا غير.
و في هذا السياق تلعب الأعراف الاجتماعية دوراً كبيرا في فرض هذه القيود و لا تترك مجالات كثيرة لحراك المرأة. و من هنا يضل البيت الفضاء النسائي بامتياز و هو ما يفسر تسمر المرأة أمام التلفزة التي تصبح نافذتها الوحيدة على العالم.
و هو ما يفسر مع عوامل أخرى التماهي و الفتنة التي يمارسها عليها الدعاة الجدد.
التصورات الدينية :
كل شيء في تصوراتنا التقليدية يناضل لتنمية عداء المرأة و احتقارها. و المشروع الأصولي الاسلاموي هو التعبير المكتمل لتقليدية و تخلف مجتمعاتنا العربية الإسلامية . المشروع الأصولي الاسلاموي يطمح إلى شطب المرأة دورا و جسدا و صوتا و يتعاضد مع التصورات الشعبية السائدة التي تحتقر المرأة و تحقد عليها .
شعور المرأة العميق بدونيتها و المعانات الناتجة عن ذلك يتقلب بحيلة لا شعورية معروفة إلى نقيضه إلى شعور بالتعالي و بالتعاظم الديني و الأخلاقي الذي يعطيها وهم التفوق على الآخرين. الخطاب الأصولي يتكفل بالتلاعب باحباطات المرأة و يمنحها تبريرات طبيعية وبيولوجية و دينية و أخلاقية لوضعيتها . هذا الخطاب التعويضي و التضليلي يضمد جرحها النرجسي ويوحي لها و يوهمها أن دورها طبيعي و أن الخروج عنه شذوذ و كفر. كما أن عبوديتها هي "مهمته المقدسة "و أمر صادر عن الله لخيرها و خير عائلتها و خير مجتمعها. فالمراة المستغلة و المقهورة في واقعها اليومي تجد لدى الداعية وعدا بالجنة و الخلود و تستمد من خطابه رضا عن النفس و عن الدور الاجتماعي و شعورا بعظمة الانتساب الى النخبة الموعودة بكل اليشائر.
البحث عن هوية :
نعلم أن الانتماء إلى مجموعة يستخدم لتحديد مكانة الفرد و لإشباع حاجته بالانتساب و الاعتراف به و لتحديد هويته الاجتماعية .
حينئذ تصبح جمهور الداعية جماعة مرجعية تقدم للمرأة, التي شكت في نفسها و في قدراتها الذاتية و تبحث عن هويتها, منظومة تفسيرية لفهم العالم و التحرك فيه فهي توجه و تنظم التصرفات و الاتصالات الاجتماعية .و تسود هذه المجموعة النرجسية الامتثالية أي قبول الفرد لوجهة نظر الأغلبية و توفيق آراءه مع آراء الجماعة توفيقا معلنا أو ضمنيا . و يمكن لهذا الفرد تحت ضغط الجماعة المرجعية أن يتبنى أحكام غريبة تتعارض مع البداهة الإدراكية و الواقع الموضوعي كما بين ذلك عالم النفس لاش في تجربته الشهيرة عام 1951. فتفرض هذه المجموعة سلطتها و عقائدها و تستبعد الرافضين و المعارضين و تتجه لتأسيس كتلة متجانسة ملتحمة متعصبة و مكتفية ذاتيا.
الانترنيت و الهاتف يمثلان الوسيلة المثالية التواصل المعقم و المنفصل عن الآخر داخل هذه المجموعة و المتناغم مع بنيتنا الاجتماعية الحالية. فهذا النمط من التواصل الافتراضي يسمح بعلاقة مع الآخر دون لقاءه أي دون معانات أخطار التواصل الحقيقي و اللقاء الفعلي و الاحتكاك الجسدي . وطبعا يتلاءم هذا النوع من التواصل ,الذي يرفض خوض تجربة الغيرية ,مع التزمت ألعلائقي التقليدي الذي يفرض موانع و حواجز لا حصر لها بين الأفراد. لكنه في المقابل يفتقر إلى مقومات التواصل الأصيل و الصراع المعرفي الذي يتيح مسائلة النفس و النقد الذاتي و تجاوز المركزية الذاتية و الجمود الذهني و التعصب . فالتواصل الحقيقي يتغذى من التفكير المعمق و التحليل و التمعن الدقيق و التشريح و تخمر المقولات و الأطروحات للارتقاء إلى الدينامكية الفكرية و انفتاح القلب و الوعي الكوني .
نقائص المنظومة التعليمية :
الاستخدام الاداتي للعقل الذي سلطت عليه الضوء مدرسة فرنكفورت و سيادة العقلانية الآلية و النفعية و الكمية في كبتها للانفعالات و في احتقارها للأبعاد الكيفية و الذاتية تثير نوعا من الصدمة المرتدة أي عودة المكبوت الانفعالي في شكل تدفقات روحانية و هوس صوفي . استبعاد قيم الشرف و الضيافة و التضحية و الحب و اختزال الحياة الإنسانية في بعدين وضيعين : إنتاج همجي و استهلاك حيواني هو الذي يؤدي إلى رفض متشنج للحداثة و إلى البحث عن ملاذات لاعقلانية تعطي معنى قيمي للحياة. وهو ما يفسر ظاهرة عجيبة ضمن غرائبنا التي لا تكاد تحصى وهو أننا نمثل 5 بالمائة من سكان العالم ولا نؤلف سوى 1 بالمائة من الكتب بينما ننتج ثلاث أضعاف الكتب الدينية و الغيبية التي ينتجها كل العلم !! و بالإضافة إلى آفة الأمية التي تعاني منها أكثر من 50 بالمائة من النساء في عالمنا تثمن السياسات التعليمية عندنا الاختصاصات العلمية و التقنية و تمجدها على حساب التربية و الأفكار و الفن و تطمح إلى إلحاق المدارس بالمؤسسات الصناعية تصنع تكوينا سطحيا و غير متماسك , نفعي و غير نافع , ينتج عنه شعور بالفراغ يمكن له أن يملا بسهولة بأية فكرة هوامية . اعتبار العلم الوضعي التخصصي الطريق الأوحد للمعرفة و اعتبار كل ما عداه من خبرات ثقافية و انفعالية من قبيل الترف الفكري و النظر إلى الحياة في المجتمع كصراع تنافسي من اجل البقاء و المراهنة الكلية على التقدم المادي غير المحدود هو الذي يؤدي إلى ارتباك القيم و سيادة الفوضى و الهلع . و هذا ما يفسر تماهي بعض النساء المثقفات بالداعية الاسلاموي الذي يمنحهن وهم الأمان و التوازن النفسي .
إلى جانب هذه الثغرات الهيكلية في المنظومة التعليمية نلاحظ أن التفكك الذي ينخر النسيج الاجتماعي و افتقاد المعالم الهادية تفاقم الصراع بين الأجيال و التوتر الذي تعيشه المرأة الحائرة في البيت من جراء تزعزع الأدوار العائلية التقليدية تدفعها دفعا إلى البحث عن أب اجتماعي يحميها من غوائل مجتمع يتفكك و يجعلها تطلب الاحتماء من تبعات الواقع و مهامه الصعبة بخطاب ماضوي ,تبسيطي و مثالي يعطيها حلولا جاهزة لكل تناقضاتها الحياتية . بينما المطلوب اليوم لمواجهة هذه الظاهرة تخصيص حصة من الوقت لدراسة العلاقات بين العلوم و لطرح القضايا الكبرى و الرهانات الشاملة ولإعطاء معنى للحياة : من نحن ما هو العقل ما هو المجتمع الحياة الكون ...الخ. التكوين المتعدد الاختصاصات الذي ينتقل بنا من مراكمة المعلومات إلى مقاربة المعرفة كوظيفة وجودية هو الوحيد اليوم القادر على الرد على الأسئلة التي يعجز العلم بمفرده على الإجابة عنها .
التهميش السياسي :
ناضلت المرأة و استشهدت و اعتقلت في سبيل الفرنسي وأنها لا زالت تهمش على الساحة السياسية فمثلا نسبة النساء في البرلمنات عندنا هي الأضعف في العالم وهي14 بالمائة فقط .فالمرأة الجزائرية مثلا ناضلت ضد الاحتلال الفرنسي و لعبت دورا هاما في نجاح الثورة الجزائرية إلا أنها أقصيت من إدارة الشأن العام بعد الاستقلال. و المرأة الإيرانية المغدورة ,ناضلت ضد الدكتاتورية و وساهمت في إسقاط حكم السفاك
السيئ الذكر و اعتقلت و عذبت و قتلت و كان جزاءها بعد نجاح الخميني الرجم و العقوبات البدنية البربرية . و تاريخ لبنان المعاصر يشهد على الأدوار النضالية المتعددة للمرأة إلا أن المواقع السياسية لا تزال حكرا على فئات محددة إما قريبات ساسة سابقين أو مقربات من ساسة حاليين. و هذا ما يطرح إشكالية المشاركة السياسية للمرأة في العالم الإسلامي .
صحيح أن العديد من الحكومات منحت المرأة العديد من الحقوق القانونية و أهدتها معظم المطالب التي كانت تناضل من اجلها الحركات النسوية التي ظهرت في بدايات القرن الماضي من حق التعليم و العمل و التحكم في الإنجاب و تعديل القوانين الأسرية و لكنها في المقابل اغتصبت من هذه الحركات الواعدة استقلاليتها السياسية و سلبتها حسها النقدي . فقد قامت الحكومات باحتواء الحركة النسوية و وقع إفراغها من محتواها التحرري و ألمساواتي و ذلك بإلحاق المنضمات النسوية بالأنظمة و بالأحزاب الحاكمة و بتشكيل جمعيات نسائية صورية و معقمة تردد شعارات جوفاء تسودها الرتابة والرقابة و لا تقنع المرأة بالانخراط فيها .
و قد حالت هذه الوضعية دوّن تشكل بؤر نسائية قادرة على الاضطلاع بنشاطات مطلبية مستقلة، و صياغة خطاب حقوقي نسائي يجعلهن أقدر على التعبير عن أنفسهن بدرجة واضحة.
و قد أدت هذه السياسات الشمولية إلى تضييق الفضاء العام أمام النساء و إلى إضعاف قدراتهم النضالية مما حولهم إلى لقمة سهلة للخطابات و للشعارات الاسلاموية و فريسة سائغة لدعاتها
شفاف الشرق