المؤتمرنت - هشام سعيد شمسان - الموت يضحك ...(قصة قصيرة) اسمها "ليلى".. فتاة تعشق عمرها، والأشياء النابضة، والطبيعية الحية، والناس. تمتلئ غبطة كلما داعبتها الأماني، وأحست بدفء الحياة وعمقها واتساع أفق الأحلام.
"ليلى" فتاة تضم مستقبلها بين جوانحها الغضَّة، وتتحفز رغبة من أجل مواصلة تحصيلها الدراسي؛ لترى نفسها – ذات يوم – وهي ترتدي لباساً أبيض، وعلى صدرها سماعة معلقة طوال النهار، وتوزع ابتساماتها على الجميع بلا ثمن.
"ليلى" تشعر في قراراتها بأنها لم تزل صغيرة، وثمة أويقات تتضاحك صديقاتها من أمنيتها الكبيرة.. ولكنها كانت دائماً تقول: ليس عيباً أن نحلم، ولكن العيب ألا يكون لنا أحلام؛ لذا فقد قررت أن تلتحق بالقسم العلمي عامها القادم.
هذا اليوم كان عليها أن تبذل مزيداً من المثابرة والتعب. غداً هو اليوم الأخير للاختبارات، ولكن خوفاً ما، يطاردها منذ الساعات الأولى للمساء. همست لنفسها: ربما هو خوف الاختبار؛ لا سيما وأنها نفس المادة التي أنفر منها.. وهو نفس القلق المشترك بين أبناء الوطن الواحد جراء ما يحدث الآن.. تتنبه – بغتةً – على صوت الباب وهو يفتح.. إنه "طارق" .. طفل لم يتعد السابعة والأخ الأصغر لها..
- ليلى أريد أن أنام معك هذه الليلة؟؟
تبُسم في وجه الصغير .. تدفعه إليها وتقبله بين عينيه.
- ولماذا لا تذهب إلى فراشك؟؟
- إنني خائف..
- ولم الخوف؟ هل لديك غداً اختبار في مادة "الكيمياء"؟ دع الخوف لي.. ودون أن يجيب عليها يفلت من يدها، ويرتمي على فراشها ويدفن وجهه تحت المخدَّة.. تضحك منه بحنان، وتمسكت بالكتاب أمامها وراحت تتصفحه من بدايته..
- الليل ينتصف والسكون الغائم يطبق بأنفاسه على الجميع تضع الكتاب جانباً وتسند رأسها إلى الجدار حيث تطلق عنان ذاكرتها .. تتناول دفتراً وتكتب:
"ليلى".. هذا هو اسمي..
أنا الآن في الصف الأول من المرحلة الثانوية.. لم يتبق لي سوى القليل لأجد نفسي على أحد مقاعد الجامعة، ثم تتحقق أمنياتي، ولكن أمي ما زالت تعارض دخولي الجامعة. أنها تخاف علي – كما تقول – وتريد أن تزوجني باكراً. تشعر أنني قد لا أجد زوجاً بعد ذلك. إنني أحبها ولذا فأنا أعذرها لأنها تحبني. أما أبي فهو إلى جانبي دوماً وكثيراً ما سمعته يقول: دعي أمك لي.. باستثناء أخي الأكبر. ما زلت أتذكر تلك المشاجرة العنيفة بينه وبين أحد الشباب في حينا عندما ظن – ذات يوم – بأنه يريد معاكستي، وانتهى ذلك إلى عراك انتهى لصالح الشاب، ومنذ ذلك الحين، وهو يعارض استمراري في الدراسة وما زال – يحاول اقناعه بوجهه نظره تلك.. إنني أشفق عليه فهو طيب القلب ولا يحمل حقداً لأحد.. أختي "ندى" فتاة في الرابعة عشرة من عمرها.. تحبني كثيراً. تبدو طفلة مشاكسة ولا يكاد يمر يوم دون أن تحتك بأحدٍ ما، وتفتعل موقفاً. وتتمسك برأيها مهما بدا واهناً، ولكن الجميع يحبها لأنها متفوقة في دراستها. ليس لي صديقات كثيرات؛ هن ثلاث وحسب "سعاد، و"هند"، و"ماجدة".
ولكنني أخاف من أن نفترق بانتهاء اختباراتنا.. لا سيما وأن والد "سعاد" ينوي مغادرة المدينة إلى قريته والبقاء فيها خوفاً من الحرب – كما يقول – أما "ماجدة" فسوف تتزوج قريباً من أحد أقاربها وتترك المدرسة وقد لا أراها بعدئذ.. لم يتبق لي سوى "هند" فتاة مرحة ونشيطة.. تشبهني كثيراً وأحبها لأنها تشجعني – وما فتئت – على مواصلة دراستي، وتحقيق أمنيتي؛ هي تحلم بأن تكون "معلمة".. سألتها – ذات يوم – عن سبب اختيارها هذا فقالت مازحة: كيما أظل طوال نهاري أضرب الطالبات بالعصا، كما كانت تفعل بي مدرستي في المرحلة الابتدائية... ضحكت كثيراً يومها..
وما تزال "ليلى" توغل في مزيد من الصور والمشاهد.. لكنَّ طرقاتٍ خفيفة على الباب الموصد يعيد إليها حضور الذاكرة.. كانت والدتها..
- ما هذا.. الساعة تقترب من الواحدة صباحاً ولم تنامي بعد..
- لا أدري يا أمي.. أشعر بتداعيات كثيرة وخوف ما.. لا أدري كنهه.
- ربما السبب هو تلك "المفرقات" التي تلون السماء من حين لآخر..؟
- أسمها "مضادات" .. "مضادات" يا أمي، ولكن ذاك تعودناه منذ بدء الحرب الأهلية ولم يعد يخيفني.
- إذاً هيّا لتنامي. ألا تدركين بأن الاستيقاظ باكراً يلزمه نوماً كافياً..
- معك حق يا أمي.. نهضت واقفة قبالتها وألقت بنفسها على صدر والدتها التي تقبلها بين عينيها ثم تتركها، وتوصد الباب وراءها.
مدت يدها لتطفئ المصباح، لكنها وقبل أن تمسه شعرت برهبة لم يقطعها سوى صوت أخيها النائم في فراشها وهو يتمتم بكلمات لم تفقه منها شيئاً؛ وارتمت إلى جانبه وضمته إليها والتحفا الاثنان بذات الغطاء..
ونامت ليلى..
ونامت أسرة "ليلى"، وجاء الصباح، إلا أن صباح "ليلى" وأسرتها لم يكن قد أتى بعد.
وأمام المذياع كان العالم ينصت باكياً لهذا الخبر: "في الساعة الواحدة والنصف صباحاً سقط صاروخ على أحد الأحياء السكنية في مدينة "صنعاء" (*)، حيث وصلت الضحايا حتى الآن إلى خمس وعشرين ضحية".
ولأول مرة منذ أسبوع يبدو المقعد الذي تجلس عليه "ليلى" في قاعة الاختبارات خاوياً؛ إلا من أرقام ثلاثة تكون العدد (135) .. وعلى المقعد المجاور بدت فتاة شاحبة، قيل إنها تشبه "ليلى".
********
(*) استعمل الإنفصاليون في الحرب الأهلية التي اندلعت صيف 1994م أقذر أسلحتهم الفتاكة التي لم تميز بين عسكري ومدني ..
|