محمد عبدالحكم دياب - الأمريكان يفضلون نار التوريث علي جنة الاسلاميين! أثارت زيارة جمال مبارك زوابع ما كان من الواجب أن تثيرها، خاصة من هؤلاء الذين تصوروا وجود خلاف بين عائلة مبارك والإدارة الأمريكية، ولو تأمل هؤلاء خلافات هذه الإدارة مع حكومة من صنعها وتخضع لحمايتها وتتولي الدفاع عنها، وتصفها بما ليس فيها، كـ أول حكومة ديمقراطية ، في العراق، وأول حكومة وحدة وطنية تجمع شمل العراقيين!!، وهي ليس لها من أمر إلا تنفيذ ما يملي عليها من مهام لتفتيت الدولة العراقية، وإعادة صياغة المكونات السياسية والاجتماعية فيها علي قواعد التقسيم الطائفي والعرقي والمناطقي، لو تأملوا لعرفوا ان الخلاف الذي ينشأ عادة بين السادة والخدم والعبيد لا يعدو أن يكون خلافا علي هذا الامتياز أو ذاك الذي يطلبه الخادم أو العبد من سيده، ويمنح له مقابل تجديد الاقرار بالولاء والطاعة.. فهل هناك من يتصور أن عائلة مبارك من الممكن أن تعيش يوما واحدا في الحكم بعيدا عن مظلة الإدارة الأمريكية، ودون أن تنفذ ما عليها من التزامات.. وأهمها صهينة النظام العربي، وتقديم ما يلزم للمجهود السياسي والاقتصادي والعسكري الصهيو أنكلو أمريكي.
علينا أن نعيد النظر في موقفنا من هذه الزيارة. وطبيعتها السرية، قبل أن يتم الكشف عنها، لا تختلف عن طبائع الزيارات والاجتماعات التي تكون علي نفس الشاكلة، فكلها تم في حالات التواطؤ والغزو والحروب أو المصائب الكبري. ولنقرأ بعض سطور التاريخ، فسوف نجد أن اتفاق سايكس بيكو سنة 1916، الذي علي أساسه تم تقسيم وبلقنة الوطن العربي، كان سريا، ولو لم تقم الثورة الروسية سنة 1917 ما كان قد تم فضح هذا الاتفاق، وربما ظل حبيس الأضابير والأقبية حتي هذه اللحظة. وكان اجتماع سيفر 1956 بين إيدن وجي موليه وبن غوريون من أجل التواطؤ علي غزو مصر، وهكذا كان لقاء بوش وبلير السري سنة 2002، لاتخاذ قرار غزو العراق. وجمال مبارك نفسه سبق له الاجتماع سرا بالرئيس الأمريكي، بدايات عام 2003 لينقل إليه، نيابة عن والده، ما عرف بـ المعلومات السرية الهامة ، المنشورة في كتاب خطة الغزو للكاتب الأمريكي بوب وود وارد، عن أسلحة الدمار الشامل العراقية المحمولة علي مركبات متحركة، مع دعوة بالاسراع بشن الغزو. وبالقطع لم تكن هذه المعلومات وحدها مادة الاجتماع، بل رافقها نقل استعداد حسني مبارك لتقديم التسهيلات اللازمة لإنجاح الغزو.
والإدارة الأمريكية لا تستطيع التخلي عن عائلة مبارك ، علي الأقل في المدي المنظور وأسباب ذلك كثيرة.. منها تناقض جدول الأعمال، أو ما يعرف بـ الأجندة الأمريكية ، مع متطلبات التغيير الوطني المصري، فالمصريون يسعون لحكم ديمقراطي حقيقي، تتوفر فيه المشاركة الفعلية في القرار السياسي، حيث يرونه طريقهم للتخلص من ثالوث الاستبداد والفساد والتبعية، وسبيلهم لعودة مصر لتلعب دورها الفاعل والمحوري في المنطقة.. تحمي به أمنها الوطني من المخاطر المحيطة، في فلسطين والسودان وغيرهما، وعن طريق هذا الحكم الديمقراطي يحاسبون اللصوص وناهبي ثروات البلاد، ومن أذلوا أعناق العباد. ويسائلون باعة القطاع العام، لمن بيع وفي أي مصرف وجهت عوائده.. ويحررون الاقتصاد من قبضة المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذين قضيا علي مقومات التنمية، وحولا مصر إلي ضيعة صهيوغربية.. تئن من الديون، وتعال من الغير، بعد أن وقعت في أسر طبقة من الأفاقين واللصوص ووكلاء الاحتكارات المتسترين برداء الاستثمار.
المطالب الوطنية تقف ضد الإفقار المنظم، والسياسة الأمريكية والصهيونية علي النقيض من ذلك. فالإفقار المنظم سبيلها لإضعاف مصر، وضعفها يبقيها تابعة لهذه السياسة، والمنطقة، حسب المنطق الصهيوغربي، لا تتسع للقوتين العربية والصهيونية معا. فكل منهما نقيض الآخر، ودور الغرب هو فرض الانسحاب علي القوة العربية لتخلي الطريق أمام القوة الأخري لتستقر وتتمدد. واستمرار الهيمنة الأمريكية علي القرار السياسي المصري مهمة حيوية في الأجندة الأمريكية، ومصدر القلق الصهيوغربي نشأ من توجهات وتداعيات الحراك السياسي والاجتماعي، الدائر في الشارع المصري، لأن نصيب الأجندة الأمريكية فيه يكاد يكون معدوما، والبديل الملتزم بهذه الأجندة ليس بالقوة المطلوبة بعد. ولا يستطيع المغامرة في ظرفه الراهن، وهذا وضع الإدارة الأمريكية بين نار القبول بـ عائلة مبارك بكل ما يحيطها من فساد، وجنة التسليم بالتغيير الذي لا يضمن لها نصيبا خارج قواعد الاعتماد المتبادل والعلاقات المتكافئة. ومن أجل ذلك تلعب بورقة الوقت، الذي من المتوقع ألا يكون في صالحها. وأملها أن يتيح أمامها فرصة تصنيع البديل.. في ظل فراغ سلطة ناشئ عن موت حكم مبارك وتعفنه. وأي بديل لا يكون جزءا من المجهود السياسي والاقتصادي والعسكري الأمريكي والصهيوني لن يحصل علي قبول الغرب، بشكل عام والدولة الصهيونية والإدارة الأمريكية بشكل خاص.
والإدارة الأمريكية وهي تفكر في معالجة فراغ السلطة، تجد أن الخيارات أمامها قد ضاقت. ولهذا أعطي التوريث أهمية خاصة في التعاطي مع هذا الفراغ، ويكتسي النجل ، أهميته كوارث باعتباره رأس الحربة فيما يعرف بـ الليبرالية الجديدة .. الامتداد المصري العربي للمسيحية الصهيونية، الحاكمة في كل من واشنطن ولندن والمتحالفة مع الأصل الصهيوني في تل أبيب. وهو ما قد يجعل النجل أكثر فائدة، لها من والده. وهو لا يقارن بسعد الدين إبراهيم ولا أيمن نور. فالرهان علي الأول سقط تقريبا، لأنه لا يملك قوة حقيقية علي الأرض.. فما يملكه هو رأيه وقلمه ومؤسسته (مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية)، وهذا يذكرني بحديث جري مع ستالين عن تأثير الفاتيكان، ساعتها سأل محدثه: كم يملك البابا من دبابات ومدافع وطائرات وغواصات وبوارج. وبالفعل لم يصبح للبابا يوحنا بولص الثاني وزن إلا بعد وقوف المنظومة الغربية، بما لها من إمكانيات اقتصادية واعلامية وعسكرية وراءه. وسعد الدين إبراهيم في ظل ميزان القوي الراهن في الشارع المصري لا يساوي شيئا، أما الثاني وجد أن ليبراليته لا تحميه في بيئة غير وطنية، وقد يكون لزوجته جميلة اسماعيل دور في هذا التطور، ونراه في صور مشاركة أنصاره في المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات، وفي التنسيق مع كفاية وأخواتها.
وجاء انقلاب موازين القوي الداخلية ليوسع دوائر الرفض والمقاومة، وينقل المطالب الوطنية من الاصلاح الذي قد يتواءم، بدرجة أو أخري، مع الأجندة الأمريكية ، بإبقائها الوضع علي ما هو عليه، مع ترميمات وتحسينات في الشكل والمظهر، وتحقيق مكاسب جزئية، قانونية ودستورية، هذا التطور نقل المطالب من الاصلاح إلي التغيير الشامل للنظام السياسي برمته، وهو ما يفسر إلحاح الإدارة الأمريكية مجددا علي تعديلات دستورية، تتيح الفرصة للالتفاف حول هذه المطالب.. وقد حصل البيت الأبيض بالفعل من الرئيس الموازي علي وعود باجراء تعديلات دستورية خلال العام القادم.
فراغ السلطة فرض علي الطرفين، الإدارة الأمريكية و عائلة مبارك البحث عن طريق للتعاطي السياسي مع القوي الاسلامية الصاعدة، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، ففي الوقت الذي يضيق فيه حسني مبارك الخناق عليها، باعتبارها جماعة محظورة قانونيا، دون اعتبار لوزنها الشعبي، ويزيد من وتيرة المواجهة والتعبئة لتصفيتها، بالعزل السياسي، عن طريق تغيير دستوري متوقع، يحد من دخول المستقلين إلي مجلس الشعب، أو يمنعهم من الترشيح له أصلا. في هذا الوقت نجد أن الإدارة الأمريكية تبدو راغبة في استغلال شعار الجماعة الجديد، الذي رفعته بعد نجاحها في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وهو شعار المشاركة لا المغالبة ، وبه أعطت الانطباع بأنها مستعدة للمشاركة في الحكم إذا ما لبت الحكومة بعض مطالبها. وفي هذا الصدد وجدت الإدارة الأمريكية نفسها أمام صيغتين.. الأولي الصيغة العراقية، حيث شاركت الجماعة، عن طريق الحزب الاسلامي العراقي، في حكم العراق، بالتعاون مع قوات الغزو والاحتلال. والثانية هي الصيغة الإخوانية في فلسطين، وإدارة حماس المتعثرة للسلطة. فالصيغة الأولي مقبولة ومفضلة أمريكيا وبريطانيا وصهيونيا، والصيغة الثانية مرفوضة منهم جميعا. وهذا وضع الإخوان المسلمون في مصر تحت مطرقة الصيغة العراقية وسندان النموذج الفلسطيني.
والإدارة الأمريكية حريصة ألا تضع كل بيضها في سلة الرئيس الموازي وحده، بعد موت حكم أبيه، وتحوله إلي ملطشة ، زادت من قلق الإدارتين الأمريكية والصهيونية، وكما هو وضع الإخوان أضحي الوضع الأمريكي الصهيوني.. عين مع التوريث وعين علي الاسلاميين.. وبقي الرئيس الموازي الخيار المفضل أمريكيا وصهيونيا. لأن قبول إخوان مصر بالصيغة العراقية نوع من الانتحار، الذي يقضي علي كل ما حققته الجماعة من مكاسب. ولم يبق لها إلا أن تتخلص من ترددها.. تتقدم وتبادر مع باقي القوي التي تقر المغالبة لا المشاركة لبلورة بديل وطني ديمقراطي، وممارسة أقصي درجات الضغط، حتي تجد عائلة مبارك ألا مفر إلا بترك البلاد، كي لا يحدث لها ما حدث للشاه.. الذي تخلت عنه الإدارة الأمريكية عندما انتفض الشعب ومال بالموازين لصالح الثورة، لحظتها لم تجرؤ الإدارة الأمريكية علي منحه تأشيرة دخول للعلاج، وكان السرطان قد تمكن منه، وتُرك مع عائلته هائما بطائرته، لولا صديقه أنور السادات الذي آواه في لحظاته الأخيرة!!
ونحن ندعي أن استقبال البيت الأبيض لـ النجل هو في حد ذاته اعتراف به وبدوره، الراهن والمستقبلي. وعلينا أن نكون يقظين، بألا نقع في وهم الخلافات الوهمية بين عائلة مبارك والإدارة الأمريكية.. وأمام أعيننا نتابع تحريك الأجهزة الأمريكية والصهيونية لفرق الموت في العراق، ثم يأتي صوتها الرسمي يشجب ويدين قتل وترويع المدنيين، والمخطط مستمر لا يتوقف. و قرص ودن حسني مبارك لا يعني خلافا حقيقيا، إنما هو من أجل السير علي الخطي الموضوعة بالدقة اللازمة، وترويج سلعة أمريكية فاسدة، تعرف زيفا باسم الديمقراطية، والمقايضة بها علي الأرض والإنسان والثروة والاستقلال، و عائلة مبارك ، التي نذرت نفسها لهذه المقايضة، تخاف من خروج الضوابط الموضوعة، أمريكيا وصهيونيا، عن النطاق الموضوع لها منذ الالتزام بالسنة التي استنها السادات وهي الديمقراطية ذات الأنياب والمخالب وهي التي أخرجت وحش العنف الديني من قمقمه!! وتأتي ديمقراطية مبارك الهاتكة للأعراض المهيئة المناخ لإشاعة روح الثأر، لتدفع غول العنف الاجتماعي والسياسي ليتسلل خارجا هو الآخر من مخبئه، وفي ترك مصر رهينة هذين المحبسين دمار لها ولمن حولها.. فلا طاقة لأحد عليهما أو علي أي منهما، ولهذا فإن التغيير السلمي بأسلوب العصيان المدني هو الحل الذي لا بديل سواه.
*القدس العربي
|