د.رؤوفة حسن -
العيد من بعيد
مازالت شوارع المدن الغريبة تنقل خطواتي، وتحمل في صداها حنيناً لوطن حلمت كثيراً ان يكون سعيداً.. أنا هذه الأيام قد انتقلت من باريس الى المانيا. أردت الفرح بيوم عيد الوحدة التي تمر الآن بعامها السادس عشر، فذهبت الى متحف يخلد تاريخ المانيا الموحدة. هذه بلاد ظروف توقيت اتحادها تشبه ظروفنا، لكن طريقة تعاملها مع ظروف وحدتها لا شبهة فيها و لا تشابه.
المتحف يبدأ بفترة عصيبة في تاريخ المانيا، انها اربعينات ما بعد الحرب والهزيمة، ذاكرة المانيا الموجعة. صور لمئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، يرحلون من المدن المهدمة وقنابل الحلفاء، يبحثون عن الطعام والمأوى.. إنها الاربعينات، في ذاكرتي كلمات مبعثرة، لقصص جدتي وهي تصف هروبها مع افراد أسرتها الصغيرة، بعد أن أباح الإمام مدينة صنعاء للمنتصرين.
أمام الصور لفزع الهروب الألماني، أحاول أن أذكر، إذا كنت قد مررت بأي صور توثق نهب صنعاء، فلا أذكر. تأتيني فقط، صور القطع الممزقة من آلات وقطع أثاث مختلفة خارجة من الاجهزة الحكومية، والمحلات في عدن ، بعد حرب اربعة وتسعين.
أصوات شهادات الذين فقدوا عائلاتهم، ودواليب ملفات المفقودين الالمان في منتصف الاربعينات، تعيدني الى زمان لمكان آخر. لا شيء هنا يحاول ان يخفي الحقيقة، ففي هذه الزاوية المحاطة
بغرفة سوداء خجلا من القسوة والجبروت، تأتي جرائم النازي، وخطب هتلر المجلجلة.
الجناح الأول يحتل مساحة كبيرة لوجع الذاكرة، حيث يتم تقسيم المانيا الى اربعة اقسام، ثلاثة للحلفاء المنقذين، وقسم للقوة السوفيتية المنتقمة من مرارة حربها مع المانيا. ثم تنقسم برلين الى قسمين، ثم ينقسم العالم كله الى قسمين، فتتحول المانيا الى دولتين.
الثغرة في ذاكرتي:
أريد أن أفرح بعيد الوحدة، تصلني مجموعة من التهاني بهذا العيد ويقول لي خالد «أرسل لك التهنئة على نحو خاص لأني اعرف كم تعز عليك هذه الوحدة»، تبدو كلماته وكأنها تعتذر عن أية محاولة للتشكيك في نوايا صاحبها وقربه من السلطة. أقرأ الصحف على المواقع الالكترونية، فتذهلني الجرعة المترعة من كأس الهناء حتى النصف وفراغ البؤس في بقية النصف الآخر.
هذه الوحدة لا شك تعاني من مرض في الذاكرة، الذين تسببوا في كسر زهوتها، لا يريدون أن يلومهم أحد، والذين استفادوا من الدفاع عنها، لا يرغبون أن يحاسبهم أحد، والفرح لا يمكن ان يكون كاملا كي ننتشي جميعا، والحزن لم يعد محفزا للمواصلة.
أريد أن أفرح، واحتفل على طريقتي بعيد الوحدة، فأقلب في المتحف الألماني ذاكرة حية، تبرز فيها هفوات قادتهم كحقيقة للغفلة، كدرس عملي يومي عن خطورة الديكتاتورية، وغياب المسؤولية الجمعية التي تحققها الديمقراطية.
لو أقمنا متحفا مماثلا كم من الحقائق سنتجنب سردها كي لا نجرح الخواطر؟ هل اخاطر بالمحاولة فأقع في أحابيل ثغرات الذاكرة؟
الفرح الحزين:
يحتاج المتحف الألماني الى زيارة ثانية وثالثة، ويحتاج الاحتفال بعيد الوحدة مني، الى جهد إضافي خارج اليمن، بعيدا عن التلفزيون الفضائي. في منزل صديقتي الألمانية، حفل عائلي للترحيب بي، فوالداها يحبان بلادي، منذ رحلت واستقر بها المقام معي كلما زارت اليمن.
للتعبير عن حبهم قدموا لي مجموعة من الصور عن المدرسة التي يدرس فيها المهمشون اليمنيون في تعز، بعد أن حصلوا على سقف بلاستيكي اشتراه مجموعة الطلاب الألمان الذين يأتون كل عام مع أنشطة مؤسسة برامج التنمية الثقافية.
وفي مجموعة صور أخرى نرى التلاميذ السمر، ذكوراً وإناثاً يحملون على ظهورهم حقائب حمراء وخضراء وزرقاء، مليئة بالدفاتر والأقلام والمساطر، اشتراها لهم طلاب الدفعة الثالثة في الزيارة الى اليمن مع صديقتي الالمانية.
بسطت لي أم صديقتي «ليديا» قطع اللعب التي انتهت من تطريزها، لتبيعها لصالح تجميع مبالغ يمكن بها شراء بعض الهدايا، لصالح مدرسة مهمشين أخرى في الحديدة. شكرتها، وظل ثقيل يغمر مشاعري، فيعصرني الحزن ويتجمع في داخلي غضب، أحاول كبته، عله يتحول طاقة تحفز المخزنين اليمنيين للتضحية بيوم تخزين واحد يخصصون دخله لفقراء بلادهم. أو تحفز العرسان للتبرع بإيجار قاعة العرس، لتحويله سقفا لمدرسة.
في المتحف الذي يتحدث عن دولة الوحدة الالمانية، تبدأ لحظة تشكل الدولة الجديدة بلحظة دمارها وانقسامها، ثم تأتي خطوات بناء الدولة في كل منطقة على حدة، حتى لحظة عودة الأمور الى نصابها موحدة قوية. في الطريق الى ذلك، تتابع الصور، النساء والأطفال والشيوخ يحملون الأحجار، وينقلون التراب. تطرز النساء الأقمشة المتناثرة، من بقايا المظلات الحربية، ومن بقايا الجاكتات العسكرية، ومن بقايا الأجولة.
بعد الدمار الذي سحق المدن كلها، عادت ترتفع وتعلو واحدة بعد أخرى، المعجزة الألمانية تشبه المعجزة اليابانية. أين تقع أداة التحفيز لديهم، وأين تكمن أداة الإحباط والتكاسل لدينا؟ أريد أن أفرح، لكن وجع السؤال ينغص فرحتي ..
[email protected]