الجنرال ويزلي كلارك - الحرب لم ولن تنشر الديموقراطية عملاً بالنظرية القائلة إن التكرار على مسامع الناس يحوّل الوهم إلى حقيقة، قدمت إدارة الرئيس بوش وحلفاؤها في السنوات الماضية مزاعم، وتوقعات، وتبريرات بشأن ملفّ العراق اتضح أنها عارية من الصحة. فقد قيل لنا إن نظام صدام حسين يحاول تصنيع أسلحة نووية، وإنه مرتبط بتنظيم القاعدة، وإن حلفاءنا سيساندون الغزو في حال تمسكنا بقرار خوضه وحدنا، وإن عملية الغزو يمكن أن تتم بواسطة عددٍ محدود نسبياً من القوات البرية، وإن الشعب العراقي سيستقبلنا بالترحاب وكأننا أبطال محرِّرون، وإنه يمكن الوثوق بأحمد الجلبي، وإن عائدات النفط ستغطي نفقات عملية إعادة إعمار العراق، وإن معظم قواتنا ستنسحب من العراق في غضون ستة أشهر من بدء الغزو.
وأما الآن، فيُقال لنا إن اليقظة الديموقراطية في أنحاء الشرق الأوسط ما هي إلا نتيجة مباشرة لغزونا للعراق، وإن رؤيا الديموقراطية المتنقلة للمحافظين الجدد قد تحققت؛ ونظراً لتاريخ الإدارة الحافل، فالحكمة تقضي بأن نتلقى هذا الادعاء الأخير بشيء من الحذر والريبة.
سبب تبني الإدارة الأميركية هذا الادعاء واضح، لا سيما أن عملية غزو العراق تحولت إلى مأزق. وقد كان أداء الجيش الأميركي رائعاً في غالب الأحيان، إلا أننا قررنا غزو العراق بهدف نزع أسلحة الدمار الشامل التي تبيّن أنها غير موجودة. لقد كلّف هذا القرار ٢٠٠ بليون دولار وحياة أكثر من ١٥٠٠ جندي، كما أدى إلى توتير العلاقات مع حلفائنا، وتشويه سمعة أميركا في أنحاء العالم، ودفع المتطوعين في الجيش إلى حافة الإنهيار، كما أنه ترك قواتنا في بلدٍ معاد تتخبط في استراتيجية انسحاب أجله غير محدد ومن دون حماية. ومن الملائم حينئذٍ الادعاء بأن الهدف منذ البداية هو نشر الديموقراطية في المنطقة وأنه ثمن لا مفر منه. إنه ادعاء ملائم إلا أنه خاطئ.
الأكيد أن رؤية العراقيين وهم يدلون بأصواتهم هو أمر يدعو إلى السرور، ومما لا شكّ فيه أن الفضل الأكبر في عملية إرساء الأمن يعود للجيش الأميركي (على رغم أن العراقيين كانوا مصممين على إجراء الانتخابات حينها وعلى عدم تأجيلها). وكانت صور بصمات العراقيين دليلاً قاطعاً على أن الديموقراطية لا تعترف بالاختلاف العرقي، أو الديني، أو الجغرافي، وأن مناصري الحرية يتساوون في التوق إلى الحرية سواء كان انتماؤهم إلى العالم العربي أو العالم الغربي.
في الوقت نفسه، مقابل تأثير الانتخابات يجب أن يؤخذ في الاعتبار الضرر الكبير الذي ألحقته عملية الغزو في المنطقة. فتزايد العداء لأميركا واتخاذ الفوضى في العراق من قبل رؤساء أنظمة المنطقة كذريعة للإبقاء على أنظمتهم، هما من سلبيات عملية غزو العراق واحتلاله.
ويدرك من يزور الشرق الأوسط دورياً على مدى السنوات، كما فعلت شخصياً، أن التوجهات الديموقراطية الواعدة التي ظهرت مؤخراً في لبنان ومصر والأراضي الفلسطينية تعود أسبابها ودوافعها إلى حقبة سبقت وصولنا إلى العراق، أو أن لا صلة لها بالحرب على العراق. وتتعاون منذ سنوات مؤسسات أميركية كمؤسسة «منح الديموقراطية» (NED) ومنظمات عالمية عدة مع جهات في هذه البلدان تنشد الإصلاح، وقد بدأ هذا التعاون يأتي بثماره. إلا أن من الخطأ اعتبار أن كلّ ما يحصل في المنطقة - سواء كان إيجابياً أو سلبياً – هو نتيجة العمل العسكري الأميركي أو خطاب الإدارة الأميركية.
في إيران، على سبيل المثال، تراجع اندفاع التوجه الواعد نحو الديموقراطية بعد أن قمنا بغزو العراق. فهل تسبب غزونا بتعثر الحركة الإصلاحية الديموقراطية في إيران؟ ليس بالضرورة. فالأسباب عديدة – وهي أسباب داخلية في الغالب – وراء تقدم وتأخر حركة الإصلاح في أي بلدٍ من البلدان. ويصعب القول إن قرار إدارة بوش بغزو العراق مسؤول عن بروز توجه ديموقراطي في بعض بلدان الشرق الأوسط، وغير مسؤول عن بروز توجه مناهض للديموقراطية في بلدان أخرى.
كل التطورات الإيجابية الواعدة في الشرق الأوسط هي نتيجة مباشرة لعوامل محفِزة أكثر مما هي نتيجة السياسة الخارجية الأميركية. فوفاة ياسر عرفات سهّلت تقدم العملية الديموقراطية في الأراضي الفلسطينية. وفي لبنان، أدى اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري والغضب الدولي والداخلي الى حث القوات السورية على الانسحاب. أما في سائر أنحاء المنطقة، فقد أدرك زعماء، كالرئيس المصري حسني مبارك، ضرورة الحصول على شرعية أكبر من خلال إفساح المجال أمام الديموقراطية بهدف درء الأخطار المتزايدة المترتبة عن صعود الحركات الإسلامية المتشددة.
وقد تجاوبت الإدارة مع هذه الفرص، فزادت الضغط وطالبت بانسحاب القوات السورية من لبنان وإرساء الديموقراطية. إلا أن الإدارة الأميركية الحالية اعتادت أن تنسب الفضل إلى نفسها في أحداثٍ لم تؤدِ فيها دوراً أساسياً. على سبيل المثال، يصر العديد من المسؤولين في الإدارة على أن سقوط جدار برلين سنة ١٩٨٩ كان نتيجة السياسات العسكرية للرئيس رونالد ريغان. وأنا كمسؤولٍ عسكري في عهد ريغان وكمناصر له يسرني ان أنسب الفضل إلى عهده، إلا أن موقفنا العسكري في الحقيقة آنذاك كان عاملاً واحداً من بين عوامل عدة. أما في الشرق الأوسط راهناً، فالجزء الأكبر من المهمة وقع على عاتق الذين ناضلوا في سبيل الحرية في هذه البلدان.
الرئيس البولندي الأسبق ليش فاليسا Lech Walesa والرئيس التشيخي الأسبق فاكلاف هافل Vaclav Havel ومعاصرون آخرون اعتبروا أميركا مثالهم الأعلى وليس مصدر قوتهم. يضاف إلى هؤلاء آخرون، أدّوا دور العامل المؤثر في النفوذ الغربي، مثل البابا يوحنا بولس الثاني، وحركة الاتحاد العمالي، والمؤسسات التجارية العالمية، وتأثير البلدان المجاورة الفعال كألمانيا.
لقد غدت القيم الديموقراطية الأميركية محطّ إعجاب في الشرق الأوسط، غير أن سياساتنا المتبعة ولّدت بين الشعوب شعوراً بالنقمة. وقد يتفاجأ البعض في الولايات المتحدة حين يعلم أن هناك مقاومة شرسة للسياسة التي تتبعها الولايات المتحدة والآيلة الى «فرض» النموذج الديموقراطي لخدمة أهدافها. ويرفض الاصلاحيون الديموقراطيون في الشرق الأوسط أن تكون آمالهم وتطلعاتهم رهناً بأجندة الولايات المتحدة السياسية. وبالتالي فلا يجب أن تبالغ الإدارة الأميركية في نسب الفضل إليها في التطورات التي ستحصل، أو التباهي بمؤسساتها، أو المبالغة في التعبير عن سرورها بديموقراطية الشرق الأوسط لمجرّد أن ذلك يشعرها بالطمأنينة، فالتواضع في هذه الحالة خير لها من التفاخر.
وإذا كان دورنا في العراق يقضي بتأمين الأرضية المناسبة تمهيداً لإرساء الديموقراطية، فإن دورنا الفعال في بلدان أخرى يقضي بالعمل خلف الكواليس. الوضع في لبنان، مثلاًَ، يتجه نحو فراغٍ في السلطة قد يؤدي بالبلاد إلى حالة من عدم الاستقرار شبيهة بتلك التي أشعلت الحرب منذ ٣٠ سنة. فما علينا فعله هو تسخير الطرق الديبلوماسية لتأمين الدعم والتوازن وتقديم التطمينات اللازمة لإعادة إحياء الديموقراطية السيادية في لبنان. كما علينا دعوة سورية الى الالتزام بتشجيع التعاون في العراق وتخفيف القيود في سياستها الداخلية. كما يتعيّن علينا وضع تصوّرٍ للمرحلة المقبلة قبل تضييق الخناق على الرئيس الأسد، لا سيما أن وضعه متأزم أصلاً. وفي خضمّ تلهفنا لتقديم المساعدة، يجدر بنا العمل بشعار البحرية الأميركية القائل: استعينوا في أعمالكم بالكتمان (Run silent-run deep).
الديموقراطية لا تفرض بالقوة إنما تنمو بالرعاية. في الشرق الأوسط بدأت الديموقراطية تستحوذ على أفكار الشعوب، وحين تنسب واشنطن الفضل إليها في هذا الأمر فهي بذلك تحطّ من قدر الزعماء الشجعان في سائر أنحاء المنطقة، كما أنها تحدّ من تأثيرهم ونفوذهم في وقتٍ هم أحوج ما يكونون فيه لتنمية تأثيرهم. عندئذٍ، فلنعطِ صاحب الحق حقه ولنضع التلفيق السياسي جانباً.
جنرال أميركي متقاعد، القائد السابق لقوات حلف الأطلسي في أوروبا، بين عامي ١٩٩٧ و٢٠٠٠.
نقلاً عن الحياة |