هشام سعيد شمسان -
خـصوصية البناءالشعري لدى الشيباني*
(1)
تظل مسألة التأويل الأدبي والفني الجمالي هماً مقيماً لدى الناقد ، والقارئ على السواء ؛ ففي حين نجد القارئ يتباعد عن الشعر بعجزه عن دخول منطقة التأويل ، وقصدية المكتوب ، بسبب قد يعزى إلى انفلات عقال الشاعر الحداثي ، من خلال انزياحه إلى المنطقة التجريبية للذات والتموقع في الانساق العمائية للصورة والرمز ، وهو ما حتَّم على الشاعر أن يكون إغراقياً في حضورية اللغة وبالتالي انحصاره في رواق الشكل التوسعي للصورة طولياً ، وغاص بذلك – الموضوع- في أعطاف شساعة المجاز الاستعاري والرمزي لبنية النص المقروء .
في حين نجد كل ذلك ، فإن الشاعر يلقى باللائمة على القارئ ، إذ يريده أن يواكب الذائقة الشعرية لرؤية حقيقة هذا الشعر ، حتى يتمكن من مشاطرة شاعره ملماته المنبثة في أجواء اللغة الحلولية. ويجئ النقد الحديث ليؤكد مقولات الشاعر حين وجد بأن النص الذي يستطيع إثارة إشكاليات قرائية وتأويلية هو نص يوازي مفهوم الجمالية المخصبة ، ولذلك لم يعد من أهداف النقد الحديث التركيز حول قصدية المؤلف - مثلاً – وقراءة النص من خارجه لاستشكال القصديَّة ذاتها في المقروءات الشعرية ، ذلك أن التأليف الخيالي للموضوعات صار يضع مسافات كبيرة بين اللغة ، والتأويل ، لجمع الشاعر بين المتناقض من الأفكار ، والصور ، وتغليب الذهنيات على الحسيات من التراكيب ، والصور ؛ بحيث يصعب أحياناً – على الناقد، أو القارئ أن يقسم النص الواحد إلى أبنية فكرية معينة ، كما نفعل مع الشعر العمودي ، أو التفعيلي المؤدلج الجديد . وبسبب من ذلك وجد النقاد أنفسهم أمام مناهج ، أو نظريات نقدية جديدة يدلفون بها إلى النص الجديد؛ وكلها تحاور النص من الداخل ، لا من الخارج كالنظريات اللسانية (عموماً )، فمنها ما تجعله مغلقاً تماماً ، ومنها ما تتطرف أكثر فتجعله مفتوحاً دون ضوابط كالبنائية – في الأول – والتفكيكية – في الثاني – وفي كلا الأمرين فإن للناقد تظل – رؤيته – وهو يحلل البنيات الإنجازية للنص .
(2)
وبمقولة النص الاستشكالي ، نكون قد كونا انعطافة ، أو مدخلاً مهادياً إلى كتابات الشاعر " محمد عبد الوهاب الشيباني " الذي يعد بشهادة كثير من المثقفين – من أكثر الشعراء – الحداثيين – في اليمن – إثارة للتساؤل القرائي ، بل ونستطيع أن نجزم بأنه يقف على هرمية الكتابة الإشكالية في اليمن وديوانه الأول – تكييف الخطأ – يبرز بجلاء هذه الخصوصية ابتداءً بالقالبيات العنوناتية ، وانتهاءً بالقالبيات البنائية ، الأسلوبية - عموماً – بما يهيئ انفتاحا على أجواء مستقبلية ( بعد حداثة ) .
أما لماذا نجعل من شاعر كالشيباني ، مثيراً للجدل القرائي ؛ فلأنه من أكثر الشعراء الذين أحدثوا تصادماً ( ذائقياً ) بين نصه ، والمتلقى .
ولعلي ممن توقفوا – ملياً – أمام بعض نصوصه ؛ محاولاً الولوج إلى عوالمها الـ(ميتا لغوية ) .
وقدوجدت البعض يهزأ ساخراً ؛ لاعتقاده بأن نحو هذه الكتابات لا تزيد عن كونها مجرد هذاء ميتا فيزيقي، من مفرزات العقل الممسوس. كما وجدت البعص الآخر يبدي أريحية (ما)،ولكنها أريحية غير معللة ، مكتفياً بالقول : إنها مثيرة أو جميلة . فالبعض الأول كان باحثاً عن الموضوع ، لذا فقد فشل في التذوق ، بينما البعض الآخر كان باحثاًَ عن الجمال ، لذا فقد نجح في التذوق بدرجة ما .
" ما الذي جعل الجدار اللائن للقطه هارقة .
الحليب في الصورة يقترح مقصاً لتشذيب
الشجر النابت في بعض الكتب المقروءة
ووضعت باهمال على الرف المقابل
ما الذي جعل القدم الضنكة تركل تفاصيل
النوم السهل بعيداً عن السرير الصرار .....
وتقترح بدلاً عن ذلك حمل الليل المرتخي
إلى آخر درجة في سلالم أمين معلوف ...(1)
وأقول : ما الذي جعل من نحو هذه الوحدات النصية تتسم بنوع من السديمية والإغراب ، والتصوير الفنتازي : جدار لائن يقترح مقصا لقطة هارقة الحليب /شجر نابت في الكتب / قدم تركل تفاصيل النوم السهل / قدم تقترح حمل الليل المرتخي / سلالم أمين معلوف .
القارئ – عادة – لا يبحث إلا عن المدرك الحسي الذي تفرزه العلائق الناتجة عن النظام الانزياحي المعتاد ، ولكن هذه العلائق تبدو غمضية ، بل وتموت أمام كثير من قراء الديوان ، بما يجعلهم سذجاً ، بل "ودغمائيين" بنظر الشاعر الذي يطالبهم بالارتقاء إليه ، والخروج من أسر النسقية التي ألفوها ؛ ذلك أن كل شاعر من حقه أن " يحول عواطفه ، وأفكاره وتجاربه إلى شيء جديد ، إلى خلق جديد ومعيار التمكن – هنا -هو أن ينأى الشاعر بذاتيته عن مادته ، وأن يترك هذا العمل لعقله الخالق ..." (2)
وأهم الأشياء التي تبدو كملح رئيس في نصوص شاعرنا هي القالبية الذهنية ، بحيث يجعل " العُرى " والصلات وثيقة بين كل آثاث الكون "(3)
وتغيب ذاتية الشاعر ، فلا تكاد ترى إلا من خلال تفاعلها مع البنيات المجردة أو الطبيعية ، بانضوائها في سيرورة الحركة المجازية للجوامد والمجردات من الأشياء ، أو لنقل حلولها في الأشياء ، واتحادها بها. وهذه الخاصية الذهنية تجعل من القراءة التفسيرية نوعاً من العبث - أحياناً – لوقوف النصوص على مشارف عمائية ، ناهيك عن الإغراب الخيالي ، والتصوير المخادع للحواس ، وقلب الصور بما يحول بعض النصوص إلى هيكلية رمزية محضة فيقف القارئ أمام أشكال وجودية مضطربة ، سادت فيها المغامرة اللغوية على الانضباطية الدلالية ، ولكن كل هذا لا يعني استسلام القارئ واكتفائه بالرفض وحسب ، ذلك أننا نستطيع أن نؤكد على إمكانية الولوج لهذه النصوص بكثير من الصبر ، والإعمال للعقل . وليكن شاهدنا على ذلك نص " قدم تركل تفاصيل النوم " ومنه المقطع السابق . فهذا النص " يعطي لاترابطات ، بينما التعدد القرائي يبدأ بإضاءة العلاقات التشابكية الداخلية " (4)
وأهم تلك العلائق المؤلفة للنص -إلى جانب طغيان القالبية الذهنية – الرمز المركب والإشارات التضمينية ، ومكون المعادل الموضوعي الانعكاسى . وللتمثيل على الرمز المركب نجد أن الشاعر – مثلاً يستخدم تعبير " قدم تركل تفاصيل النوم " إشارة إلى " السهاد " وفي قوله ( عن القدم ): " وتقترح بدلاً عن ذلك حمل الليل المرتخي..." إشارة إلى سيطرة الهموم وكأنه يستوحي، بذلك، قول شاعرنا الجاهلي : " وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي " مع الفارق بأن شاعرنا كان رمزياً ، بينما ا لآخر كان تصريحياً ، وهو يفسر التشبيه المصدر. وعلى مستوى الإشارة التضمينية نجد : أمين معلوف . ريح الطولع ، خنفساء كافكا ، وميزة الإشارة التضمينية في شعر الشيباني الإيحاء للقارئ الفطن ، المثقف ، بمعادل موضوعي (ما) . وقلنا فارئاً مثقفاً، وفطنا لأن بعض تلك الإشارات لا يمكن لنا ربطها بالنص إلا من خلال تفسيرها. وليكن مثالنا على ذلك : أمين معلوف : وكافكا " وهما كاتبان : وروائيان . فالأول عربي ، لبناني ، مقيم في فرنسا ، وله عدد من المؤلفات روائية وفكرية . وأما الآخر فهو روائي تشيكي الجنسية ، ويكتب بالألمانية. الذي لا يدركه كثير من القراء أن هذا الأخير تتميز كتاباته باليأس وله نظرته التشاؤمية الناشئة عن عبثية الوجود ، وفي كتاباته كثيراً من الألغاز التي لم يستطع النقاد حلها حتى الأن (5) وقد جاءت نحو هذه الإشارات لغرض إسقاطها على واقع موبوء بما جعل منها معادلات موضوعية ؛للإيحاء بما يستشعره الكاتب الشاعر من قنوط ناتج عن عبثية هذا الواقع " المفرغ من هوائه " وهكذا جاء النص عبثياً تجسيدياً لعبثية الحياة ذاتها .
..............................................
وإذا كان ثمة نسق عمائي بارز من خلال العلاقات التركيبية :كالرمز ، والإشارة التضمينية ، والتصوير المشذر ، والمجاز الإغرابي ، وذهنية الاتحاد بالمجردات ، والأشياء ،فإنما يفسر ذلك بمحاولة الشاعر " الجمع بين التجربة الذاتية ( الخلقية ) من جهة ، وتفاعلها مع أشياء العالم من جهة أخرى " (6)
ولتحقيق سمة الخلق الأدبي حاول أن يقدم موضوعاته الشعرية من خلال " سياقات " أو توليفات تعزب عن فهمنا العادي من خلال إخضاعه اللغة لانحرافات تشذر ما اعتدنا عليه من إشارات دالة في عالمنا " (7)
" ما يعوز الراكض خفيفاً في المرآة : الحكمة .
شجاعة قليلة : كل ما يعوز المرآة .
ظل لسان : هو ما يعوز الظنون .
وما يعوز الأسماء الممتلئة : غدار التأويل " ... ( مرآة راكضة ..) .
.................................................
إن صورة من نحو " الراكض خفيفاً في المرآة " .. تقع خارج النظام النسقي للمجاز الانزياحي ، وتتمرد على لعبة الإبلاغ المعروفة. وهي مغامرة استثنائية على مستوى الإشارة الدالة ، وتضع مسافاتها الفاصلة بين القراءة والتأويل .. ولنتأمل معاً هذه المفككات :
الركض في المرآة / شجاعة تعوز المرآة / الظنون يعوزها ظل لسان / الأسماء الممتلئة / غدار التأويل
" فصورة الركض في المرآة " أشبه بجدارية سريالية : تثير العدمية . والعبثية ، إلا أن تحريكها تأويلياً بالقرائن المجازية يبدد انحراف ما تشذر عنا ، بنقلنا إلى "معنى الفرق بين اللغة والفحوى . والمعيار الأساسي لذلك هو " قانون الدلالة " (8)
فالركض في المرآة يمثل رمزاً لنرجسية متعالية ، ومغرورة . ويجيء ملفوظ " "خفيفا"ً ليشير إلى النرجسية المفرغة من الهواء والادعاء . وبتعبير " الشجاعة القليلة التي تعوز المرآة " يحرك المرآة دلالياً من خلال الاستعارة؛ للإيحاء بضيق المرآة التي تتحول إلى رمز اتساعي أكبر يشير به إلى البشر أنفسم الذين يساعدون الراكضين على مواصلة ركضهم اللا مشروع . وتأتي الوحدة الرابعة :"الأسماء الممتلئة " من المقطع، لتلم شمل النصية المقطعية برمتها ،وهي تفسر لنا نوعاً أو شكلاً من البشر الراكضين في المرايا ،وهم ذوو الأسماء المشهورة المفرغة من الفكر ، والذين لا يعلون إلا بالتأويل الغادر. ونود هنا ، أن نؤمئ إلى ملفوظ " غدار " الذي كسر جمالية التأويل بخروجه عن البناء الصرفي ، إذ استعمله الشاعر بمعنى " الغدر " وهذا غير صائب لأن " غدار " اسم فعل بمعنى " اغدر " مثله " حذار " و"تراك " ....الخ. ويستخدم لفظ "غدار " مختصاً بالنداء لشتم المرأة " ياغدار " أي يا غادرة " (9)
.................................................
من القالبيات البنائية الأخرى التي اتسمت بها نصوص الشاعر – فجعلت تصطدم بالقارئ مرة بعد مرة ، لجوئه – بوعي ، أو بغير وعي إلى أسلوب النظام التنافري بين المقاطع على مستوى النص الواحد فبدت البنيات النصية انشطارية تحدث كثيراً من التشوش ، والاضطراب القرائي التأويلي ؛بسبب من التشتتات والانقطاعات بين المقاطع النصية ، وهذا يناقض مقولة النقد عن ضرورة التناسب ، والانتظام ، والاتصال في النص الشعري الواحد ، انطلاقاً من جعلهم النص أو تشبيههم له بـ( الجسد ) . وفي العصر الحديث كان الشاعر الانجليزي تي. سي .اليوت أول من اتهم بغياب العلاقات المنطقية في شعره ، لا سيما في قصيدته المشهورة " الأرض اليباب" لكن النقد الحديث استطاع أن يبرأه من هذه التهمة ، باعتبار أن الشاعر إنما يتبع حركة التغير ، وبالتالي التمرد على النسقية وتحطيم المألوفات ، بالدخول إلى منطقة النظام من خلال الفوضى ، لدرجة أن ناقداً – غربياً – نحو " أرشيبالد ماكليس يقول "لا ينبغي للقصيدة أن تدل على معنى ، وإنما أن تكون " (10) وفي نفس المسار يقول أحد النقاد العرب: " العواطف ، والتجربة والموضوع والمناسبة كل ذلك أضحى لا يؤثر في القيمة الفنية للعمل ، وإنما القيمة تكمن في قوة الابتكار والخلق الأدبي ..." (11)
¬ومن كل ذلك نجد بأن النص المرسل الحديث – خصوصاً – له قارئ لم يولد بعد؛ لأنه يستلهم بنائياته من أساليب ما بعد الحداثة ، وهو المصطلح الذي تقع تحته مفاهيم عدة من نحو : الفوضى ، العماء ، زوال الفرق بين الحقيقة والخطأ ،...الخ .وعودة إلى ديوان شاعرنا نجد بأن معظم نصوصه تتأسس على نظام المقاطع النفورية ونجد بأن العنوان الرئيسي الواحد يُتبع – أحياناً – بعناوين ثانوية جزئية لكل مقطع من المقاطع نحو نص " قبر عشتت اسفل سلمه شهقة الغريب " الذي يتألف من خمسة مقاطع : وخمسة عناوين جزئية ،وغابت فيها العلاقات المنطقية والخيوط الرابطة ، بما يضع أمام القارئي إشكالية قرائية لافتراضية مسبقة لديه هي أن النص كل ،وهذا الكل لا بد له من محاور ، أو علائق تفضى إلى روابط تصل اللاحق بالسابق لا أن يكون كل مقطع له ، فضاؤه الخاص ، منعزلاً عن السابق والتالي . ولو كانت هذه سمة سائدة على النصوص كلها لكنا وجدنا لها تفسيراً مستنبطاً من المناهج النقدية الأوربية الحديثة ، كالتفكيكية – مثلاً – ولكن بعض النصوص لا نجد لها نفس هذا النظام – وإن كانت مفرغة من العناوين الداخلية – نحو نص " مقايسات " الذي يظل بسيرورته الدلالية مترابطاً : أولاً وأخرا.
ولكننا – مع ذلك نعود لنؤكد على أن كل نص مهما بدى مشتتاً . ومتشظياً فإن له درجة من الإحالة على الواقع الوقائع (11) وهو ما يمكن أن نقوله عن نصوص الشاعر / محمد عبد الوهاب الشيباني
الهـــوامـش :
* صدر ديوانه الأول ، ، عام 2001م ،عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين
1) قدم ترك تفاصيل النوم .
2) الشاعر والقصيدة ، د/ عبد الواحد لؤلؤة .ط 1986م .
3) المفـاهيم مـعالم /محـمد مفتـاح ط1 1999م.
4) الشاعر والقـصيـدة .م/س.
5) في نـظرية الرواية . عبد المـلك مرتاض. كتاب عالم المعرفة عدد(240).
6) المـفاهيم معـالم / م.س .
7) الكفاءة الأدبية ، كولر ، مقال مترجم ، نـوافد،عـدد(11)ص40.
8) المصـدر الســابق .
9) ثمة أكثر من خطأ على هذا المستوى في الديوان .
10) نقد النـقد ، تودروف ، ترجمة سامي سويدان . ط 1986م.
11) الشاعر والقصيدة .م.س . د/عبد الواحد لؤلؤة .
12) المفاهيم معـالم .م.س