مرام عبدالرحمن مكاوي/ عن صحيفة الوطن السعودية - لو كنتُ عربياً..لكنتُ إرهابياً قبل أكثر من شهر كنت فيما يعرف بمدرسة صيفية لطلبة الدكتوراه الأوروبيين أو الدارسين بجامعات أوروبا، وذلك في جمهورية سلوفيينا. وسلوفينيا (عاصمتها ليوبليانا) إحدى الدول التي استقلت عن الاتحاد اليوغسلافي السابق. من بين أساتذتنا يومها دكتور سويدي جاوز على ما يبدو الخامسة والستين، وبما أن أعمار الطلبة كانت تتراوح ما بين الثانية والعشرين والثلاثين، فقد شعرنا بأنه كان بمثابة الأب الروحي للجميع هناك. شعرتُ منذ اليوم الأول أنه كان يراقبني ويود التحدث معي، وفعلاً في اليوم الثاني وخلال فترة الاستراحة تحدثنا، بدأ كلامه بقوله بأنه سعيد بأن يرى من بين الطلبة طالبة مسلمة ترتدي بلا خجل أو خوف زيها الإسلامي، ولا تحاول أن تخفي هويتها في زمن الأمركة والعولمة. وأخبرني بأنه من الأشياء التي يحترمها في العرب هو مواصلة ارتدائهم لزيهم العربي الأبيض الجميل المميز. إنه مثال حيٌ برأيه لقدرة الثقافات اليوم على مقاومة هجمات العولمة والإمبريالية ولو بشكل رمزي ( خجلتُ أن أحدثه بأن ما يلبسه شبابنا اليوم هو سراويل الخصر النازلة أو ما يطلق عليه اللو ويست).
كان لديه سخط كبير على ما يجري في العالم على كل الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وكان يعتقد بأن الهيمنة للأقوى بات هو الوصف الذي يطبع عالمنا اليوم. وإن كان يغيظه هيمنة الثقافة الغربية (غير الأوروبية) على أوروبا رغم التشابه بينهما، فإنه بالقطع يغضب أكثر حين يرى ذراع العولمة (بوجهها التجاري الاستغلالي القبيح) يضرب المناطق الثقافية الأخرى في العالم.
كنا مجموعة من الطالبات، نحاول إنجاز أحد المشاريع على طاولة البحث في المادة التي كان هو مدرسها، وأتى ليساعدنا في إنجاز المشروع، كنا واقفين لبضع ساعات، فشعرتُ بالتعب، وأردتُ أن أجلس. سألته: "هل أحضر لك كرسياً لتجلس؟" فرد معلمنا العجوز بالإيجاب. وبعد أن جلس، أحضرتُ كرسياً وجلست، فنظر إليّ متسائلاً في ذهنه كما بدا لي: (إذا كنتِ تريدين أن تجلسي فلم لم تفعلي ذلك منذ البداية؟) فأجبته قبل أن يسأل: "لا أجلس وأستاذي واقف.. هكذا ربانا أهلنا"، فأطرق برهة ثم ابتسم قائلاً: هذه السلوكيات الجميلة (توقير المعلم.. واحترام الكبير) غير موجودة في ثقافتنا الغربية للأسف. ويتكرر المشهد مع زميل فلسطيني لم يشهد هذه الحادثة، لكنه يخبرنا في ما بعد كيف اندهش الأستاذ ذاته حين ترك زميلنا الفلسطيني دوره في الحصول على فنجان الشاي في فترة الاستراحة له، كنوع من الاحترام لسنه وعلمه حينما وصلا للمكان ذاته في نفس الوقت تقريباً. يعتقد أستاذنا بأن في كل حضارة جوانب مميزة، وأثبتت هذه الوقائع له ذلك كما قال.
كنا نتحدث عن سلوفينيا، البلد الأوروبي الأخضر ذي الطبيعة الخلابة المدهشة، وكيف أننا نشعر فيها بأننا في دولة لم تمتد إليها بعد يد التخريب الاستهلاكي والتجاري، فهناك هناك مطعم واحد فقط من سلسلة المطاعم الأمريكية الشهيرة في العاصمة، والذي قال لنا دليلنا السلوفيني بكل فخر وسعادة بأنه لم يحقق الأرباح المرجوة منه، ولم يقبل صغار السن عليه هنا كما كان متوقعاً.
وقد سألني الأستاذ السويدي بعد أن عرف بأنني من السعودية، عما إذا كانت ثقافة الكولا والبرغر وسلسلة المطاعم إياها قد وصلت إلى قلب العالم العربي والإسلامي؟ فأجبته بنعم، وتراها في كل شارع، وتلمحها في كل يد، حتى إنه في مدينتي وحدها ربما عشرة فروع أو أكثر لأحد هذه المطاعم فقط. فاستغرب وتأسف، ثم عاد يسألني إن كنا سمحنا لهم بأن يفتحوا فروعاً في المدينة المقدسة (مكة) حيث إن ذلك برأيه سيشوه شكل المدينة، ويدنس روحية المكان، فقلت له نعم وسترى هذه المطاعم حالما تخرج من بوابة المسجد الكبير، فقال: يا إلهي كيف يكون ذلك؟ بمعنى كيف تجتمع رموز العولمة والاستهلاك في مكان مع رمز الإسلام الذي يتناقض معها تماماً؟ كما أنه كيف تُعامل المدينة المقدسة مثل أي مدينة أخرى؟ طبعاً لم أحاول أن أصف لأستاذي ماذا حل ويحل بالمدينتين المقدستين، وكيف يبدو قلب مكة اليوم بتلك الأبراج العالية.
أخذنا الكلام إلى عدة جوانب، منها القضية الفلسطينية، كان حاقداً وناقماً على موقف الدول الغربية التي هي سبب نكبة فلسطين، وعلى غياب العدالة في الأمم المتحدة (وناقشنا قضية تناقض حق الفيتو الممنوح لخمس دول مع أبسط مبادئ العدالة)، وكيف أن هذه المواقف هي التي جرت العالم إلى النكبات والويلات. وقال لي: "لو كنتُ قد ولدتُ عربياً.. لما كنت اليوم إلا إرهابياً عالمياً كما نسميهم.. ولكنتُ مستعداً لفعل أي شيء لتدمير هذا الغرب المعتدي أو المتواطئ أو المتخاذل على أقل تقدير... لقد استعمرنا بلدانكم وسرقنا أموالكم..وقمنا اليوم نقصف مدنكم ونقتلكم ونقيم المعتقلات ونحتل بلدانكم..ونتوقع منكم أن تسكتوا؟ مستحيل!".
حقيقة فوجئت بهذا الموقف الحماسي غير المعتاد من رجل أوروبي وبرفيسور في علوم الحاسبات، من جامعة أوروبية عريقة، ومن دولة إسكندنافية، ليس بيننا وبينها الكثير من الروابط. لكنه حب العدالة، والفطرة السوية التي تجعل المرء ينحاز للحق ولو على نفسه. شعرتُ ببعض الخجل من موقف الرجل الذي كان يتحدث بحماسة فيحمر وجهه وتلمع عيناه وإن لم يعل صوته. فعلقت بأن ما قاله ربما صحيح لكنني في المقابل لا أنفي مسؤولياتنا نحن عما يحصل لنا. فأحقادنا وحروبنا الصغيرة وحماقات دولنا وديكتاتورية أنظمتنا وتشرذمنا وتوسيدنا الأمور لغير أهلها، وتكالبنا على تحقيق نزواتنا الشخصية هي أيضاً أحد أسباب ما وصلنا إليه. فقال: "ربما ذلك صحيح أيضاً، ولكنني مازلت أعتقد أن المسؤولية الكبرى تقع علينا، فنحن الطرف الأقوى حالياً، والطرف الذي يبشر بحضارة العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، فإذا بنا نفعل العكس تماماً. وها نحن نستغل المؤسسات الدولية للهيمنة والسيطرة".
لماذا تذكرت كلام أستاذي الآن؟ لأنه حين يُنشر هذا المقال ستكون قد مضت أربعة أسابيع تقريباً على العدوان الصهيوني على غزة المجاهدة، وأسبوع ربما على قصف بيروت الصامدة.
كيف تتوقع القوى الوحيدة في العالم أن يساهم استخدامها لحق النقض بشكل متعسف، في إحلال الأمن والاستقرار في العالم؟ وأن يساهم في تخفيف التعاطف مع من تسميهم بالإرهابيين في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان؟ إذا كان ابن استكهولوم يقول بأنه لا يمكن إلا أن يكون إرهابياً إزاء من احتل بلده وسرق أرضه وهدم بيته وقتل إخوته؟.
لكن الأكثر إيلاماً ليس موقف الدول الاستعمارية، بل ما تخطه أقلام بعض الكتبة العرب، الذين لا يكفي بأنهم غير قادرين على أن يصدحوا بالحقيقة، فلم يلجأوا إذن للحكمة النبوية الخالدة (قل خيراً أو اصمت)، بل قاموا يزايدون على أهل الرباط والجهاد في فلسطين. ويقللون احتراماً لمن قدم فلذات أكباده ثمناً لتحرير الأرض، ولا أعرف كيف سيجيبون الله عما خطته أيديهم؟ قرأتُ مقالين لكاتبين في صحيفة واحدة، اختار أحدهم أن يكون مع الشيطان بلا خجل، بينما اختار الثاني أن يكتب عن موضوع تافه جداً، وكأنه ينبهنا بطريقة غير مباشرة إلى أنه لن ينجر إلى كتابة ما لا يؤمن به وسيفضل أن يكتب هذا الموضوع التافه على أن ينحاز للباطل، فاحترمت هذا الأخير كثيراً.
ولا أملك وسط هذا الوضع الدموي المخيف وهذا التخاذل العربي إلا أن أختم ببيت خالد لصديقي العزيز المتنبي وأقول لأهلنا في فلسطين: (وسوى الروم خلف ظهرك روم... فعلى أي جانبيك تميل).
*كاتبة سعودية وطالبة دراسات عليا، المملكة المتحدة
|