بقلم: فهمـي هـويـــدي -
هل يعيد التاريخ نفسه؟!
كل ما نشاهده حولنا الآن غير قابل للتصديق: الجسارة والتخاذل والهمجية والتآمر والنذالة
(1) لسنا وحدنا الذين فوجئنا بما جري في فلسطين ولبنان, ذلك أنه ما خطر ببال أحد, في زمن الانبطاح والانصياع, أن تنشق الأرض العربية ليخرج من رحم الانكسار والهوان قوم منا لكنهم ليسوا مثلنا, أعني أولئك الشباب الذين رفضوا كل ما استسلمنا له فنفضوا الوهن واستحضروا عزائمهم, بعدما اشتروا آخرتهم بدنياهم, فكان الذي كان مما يعرفه الجميع من مباغتة العدو في مكامن صلفه وغروره, الأمر الذي انتهي بقتل بعض جنوده وأسر ثلاثة منهم.
معلوم صدي ما جري في أوصال الأمة العربية, ليس فرحا بقتل أو أسر بطبيعة الحال, ولكن حفاوة ببزوغ ضوء في الأفق المعتم, وثغرة في جدار اليأس والقنوط, وانتفاضا علي مسلسل الإذلال والقهر, غير أن صدي المفاجأة في أوساط النخبة العسكرية الإسرائيلية لم يكن أقل أهمية, نعم تحدثت الأغلبية المتشنجة عن ضرورة تأديب العرب وسحق أولئك النفر الذي اجترأوا علي المساس بشرف الجيش الذي ادعوا أنه لا يقهر, لكن المشهد لم يخل من أصوات لمست الحقيقة وعبرت عنها بصورة أو بأخري,
فالجنرال شلومو غازيت الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية( أمان) وصف عمليتي المقاومة في فلسطين ولبنان بأنها أصابت إسرائيل بـالخزي, ودعا حكومة بلاده إلي التخلي عن الغرور والعمل علي التوصل إلي تسوية سياسية مع الدول العربية, قبل أن تتطور الأمور إلي ما هو أسوأ( الإذاعة الإسرائيلية7/15), موشيه أرينز وزير الحرب الأسبق حذر في تصريحات له مع الإذاعة( صوت الجيش7/14) من تنامي دور المقاومة الإسلامية في العالم العربي, ع
لي النحو الذي قد يؤدي إلي تهاوي قدرة الردع الإسرائيلية في مواجهة العرب والمسلمين, وقال إنه يجب سحق تلك القوي, حتي لا يتجرأ علينا الجميع, وحتي لا نصبح أضحوكة أمام العالم.
أما الجنرال عامي إيالون الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات( الشاباك) وقائد البحرية السابق( حاليا يمثل حزب العمل في البرلمان), فقد اعترف بالتفوق الذي حققته المقاومة في العمليتين علي الصعيدين المعلوماتي والمهني, وقال إنها من نوع عمليات الكوماندوز الخطيرة, وإنه كعسكري مخضرم كان سيشعر بالفخر لو أنه هو الذي قادها.
(2) من زاوية أخري أوسع, فإن ما جري كان بمثابة ضربة موجعة لحسابات الإدارة الأمريكية, بعد أحداث سبتمبر عام ألفين وواحد, وهي الحسابات التي قامت علي ضرورة إعادة تشكيل المنطقة فيما سمي مشروع الشرق الأوسط الكبير, لترويضها وتهذيبها, ولإدماج إسرائيل بصورة نهائية في نسيجها العام,( قبل أسبوع من عمليتي حزب الله,
كان وزير الخارجية التركية عبدالله جول في واشنطن لتوقيع بروتوكول بمقتضاه تقوم أنقرة بدور رئيسي نشيط في تنفيذ المشروع), ذلك أن الإدارة الأمريكية بعد أن اطمأنت إلي استمرار مسلسل التنازلات في فلسطين, وبعد أن احتلت العراق لتأديب نظامه المتمرد, وبعد أن طردت السوريين من لبنان واستصدرت من مجلس الأمن القرار رقم(1559) الذي يقضي بنزع سلاح حزب الله, تمهيدا لضم لبنان إلي معسكر التطبيع, بعد أن توهمت واشنطن أن مخططاتها في المنطقة العربية تمضي في الطريق المرسوم لها, إذا بها تفاجأ بأن كل تلك المخططات انقلبت رأسا علي عقب, فالعراق تحول إلي مصيدة للسياسة الأمريكية, وبركة وحل لا تعرف كيف تخرج منها, والشعب الفلسطيني صوت لمصلحة حركة حماس, التي لم تعترف بإسرائيل ولا بالتنازلات المجانية التي قدمت لها,
ومن ثم فإنها أعادت القضية إلي نقطة الصفر, وأعادت شعار المقاومة إلي الواجهة مرة أخري, وحزب الله في لبنان صار قوة يتعذر نزع سلاحها, ومنذ بداية العام وأمينه العام السيد حسن نصر الله يتحدث عن ضرورة استعادة الأسري اللبنانيين المحتجزين في إسرائيل, ويجهر بأن رجاله لن يترددوا في خطف الجنود الإسرائيليين, لإجبار تل أبيب علي مبادلتهم بأسراهم, بل ذهب الحزب إلي حد القيام بعملية نوعية أدت إلي قتل8 جنود إسرائيليين وأسر اثنين منهم, ذلك كله أصبح يعني شيئا واحدا, هو فشل السياسة الأمريكية في المنطقة, ومعها المخططات والطموحات الإسرائيلية, وككل القوي الباطشة والمغرورة, فقد كان إشهار العصا الغليظة هو الحل, فتحولت آلة الموت والخراب لتضرب غزة ولبنان, في حين أن العراق أخذ نصيبه من الاثنين وزيادة, بكلام آخر فقد أصبح إسقاط حكومة حماس وتجريد حزب الله من سلاحه تمهيدا لتحجيم دوره ومن ثم حرمانه من القدرة علي الممانعة فضلا عن المقاومة, هاتان المهمتان أصبحتا علي رأس أولويات السياسات الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة, والنجاح في إنجازها إذا تم, يصبح بمثابة ضرب عصفورين بحجر واحد, فمن ناحية يسهم في إحك
ام حلقة إخضاع العالم العربي, ومن ناحية ثانية فإنه يعوض الولايات المتحدة عن فشلها المهين في العراق, بما يسمح لها بأن تدعي أمام الرأي العام الأمريكي بأن انتصاراتها في الشرق الأوسط مستمرة.
لأجل ذلك كان لابد من ضرب غزة ولبنان بلا رحمة, وقصفهما بكل ما في ترسانة السلاح الإسرائيلية من قوة تدمير( باستثناء السلاح النووي الذي لا تحتاج إلي استخدامه في هذه المرحلة), وكان مفهومها أن تقف الولايات المتحدة بالكامل في المربع الإسرائيلي, وأن تؤخر قدر الإمكان إصدار مجلس الأمن أي قرار يوقف إطلاق النار, وأن تقود واشنطن حملة تمكين إسرائيل من إشاعة أكبر قدر من الدمار والخراب لتركيع الفلسطينيين واللبنانيين, وصولا إلي تحقيق المراد من العملية.
كان طبيعيا في هذا السياق أن يتم تجاوز موضوع الأسري الإسرائيليين, وأن تنحي جانبا فكرة مبادلتهم بالفلسطينيين واللبنانيين, التي تمت في حالات سابقة, لأن الأهداف المرجوة أكبر وأبعد من مجمل ملف الأسري, وهو ما وضع الجميع أمام موقف عبثي, بدأ في ظاهره بأسر ثلاثة جنود إسرائيليين في مواجهة عسكرية وانتهي برد إسرائيل بجنون شمل ضرب محطات المياه والكهرباء والجسور وتدمير البيوت ومقار الوزارات وخطف الوزراء وقتل المصيفين علي شاطئ غزة, وقصف دار للأيتام في إحدي قري النبطية بجنوب لبنان.
(3) فجر الأربعاء7/12( يوم عملية حزب الله) ألقي سلاح الجو الإسرائيلي قنبلة بوزن طن علي منزل من طابقين في غزة, يملكه المحاضر في الجامعة الإسلامية الدكتور نبيل أبو سلمية, أدت إلي قتل الرجل وكل أفراد أسرته, وإصابة نحو أربعين آخرين, وتدمير عشرة منازل مجاورة بشكل جزئي, بعد ذلك بأسبوع ألقي الإسرائيليون23 طنا من المتفجرات علي أحد المباني في ضاحية بيروت الجنوبية, أحدثت دمارا هائلا وتعذر حصر الضحايا الذين تحولوا إلي أشلاء صغيرة تحت أنقاض المباني التي سويت بالأرض.
ولم تكن من قبيل الحوادث الاستثنائية, ولكنها نموذج للوحشية والبربرية والحرب اللاأخلاقية, التي ظلت تتكرر بصفة يومية طيلة الأسابيع الماضية.
لم يكن ذلك مستغربا من إسرائيل, وسجل مجرمي الحرب الذين يقودونها منذ إنشاء الدولة في عام48 حافل بمثل هذه الممارسات, لكن المذهل والمدهش حقا أن دول العالم الغربي بأسره ـ باستثناء ثلاث هي: إيطاليا وفرنسا وإسبانيا ـ لم تكتف بموقف المتفرج مما يحدث فحسب, ولكنها ـ وعلي رأسها الولايات المتحدة بطبيعة الحال ـ باركت حملة القتل الإسرائيلي, وشجعته وتواطأت علي تمكين إسرائيل من تحقيق أهدافها, وهو التواطؤ الذي كان مجلس الأمن إحدي أدواته, وهو المجلس نفسه الذي انتقل بكامل أعضائه لمعالجة مشكلة دارفور, وكان ظاهر الحزم في التعامل مع المسئولين عن الجرائم التي ارتكبت بحق شعبها.
كان واضحا لكل ذي عينين أن الدم العربي وحده الأرخص, وأن العرض والأرض والزرع والضرع في العالم العربي هو المستباح, ومن سخريات القدر أن السيدة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية اعتبرت أن شلال الدم النازف في بلادنا وأن الدمار الحاصل فيها هو من إرهاصات ميلاد الشرق الأوسط الجديد( هكذا قالت في مؤتمرها الصحفي يوم الجمعة7/21), من تلك المساخر أيضا أن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان, اقترح إرسال قوات دولية علي الحدود بين لبنان وإسرائيل, وحين سئل عما إذا كان سيطالب بإرسال قوات مماثلة لإقامة منطقة عازلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في غزة, تلعثم ولم يرد, لأن المطلوب هو تكبيل حزب الله في لبنان وإطلاق يد إسرائيل في فلسطين, أما أم المساخر فهي التصريحات التي أطلقتها الممثلة الفرنسية العنصرية بريجيت باردو, التي لم يقلقها في كل ما يجري سوي معاناة الحيوانات من القصف في بيروت, فتبرعت بخمسة آلاف يورو لإحدي جمعيات الرفق بالحيوان في لبنان إسهاما منها في رعاية وإنقاذ تلك الحيوانات.
(4) الأصداء في العالم الغربي لم تكن مفاجئة, وبعضها كان متوقعا, أما الأصداء في العالم العربي فإنها بدت شاذة ومستغربة, لست أعني فقط الاجتماعات العديدة التي عقدها الزعماء الغربيون لبحث أزمتنا. وأحدثها لقاء روما الذي يلتئم غدا, في حين أن العالم العربي لا يزال يتلكأ ويسوف في عقد القمة, إنما أتحدث أيضا عن التصريحات الرسمية وما عبر عنه بعض المثقفين العرب, فمن انتقاد لحزب الله وغمز في قناته, إلي تجاهل للخلفيات التي سبقت الإشارة إليها, والادعاء بأن ما قامت به عناصر الحزب ليس سوي محاولة إيرانية لتصفية الحسابات مع الولايات المتحدة, وهو ما أعطي انطباعا بأن هؤلاء يعتبرون العدو هو إيران وليس إسرائيل.
في كل الأحوال فقد بدا أن تلك الأصوات لم تأخذ موقفا حازما رافضا للهجمة الإسرائيلية والغطاء الأمريكي لها, الذي يفضح التواطؤ المسبق, وهو ما استقبلته دوائر عدة بحسبانه موالاة للولايات المتحدة وقبولا ضمنيا بالعدوان الإسرائيلي, وليس سرا أن إسرائيل بدت سعيدة بذلك الموقف, عبر عن ذلك روني بارعون وزير داخليتها, الذي صرح ـ في حديث له بثته الإذاعة الإسرائيلية في7/15 ـ بقوله: إننا فوجئنا بالنقد الذي وجهته بعض العواصم العربية لحزب الله.. وإن معظم الحكومات العربية تؤيد ما نقوم به ضد الحزب في لبنان.. وإن الحكام العرب يدركون جيدا أن معركتنا ضد المتطرفين الإسلاميين في لبنان وغزة هي المعركة نفسها التي يخوضونها في أقطارهم.
عزز من ذلك الانطباع أن وزيرة الخارجية الأمريكية في تأييدها المستمر لجرائم الحرب التي تمارسها إسرائيل في لبنان وفلسطين عبرت أكثر من مرة عن تقديرها وشكرها لموقف بعض العواصم العربية من الأزمة, وربما كان ذلك ما دعا السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله إلي القول ـ في حواره مع قناة الجزيرة ـ بأن مواقف بعض الدول العربية شجعت إسرائيل علي الاستمرار في عدوانها.
هذا المشهد أعاد إلي ذاكرتي ما حدث إبان القرن العاشر الميلادي, حين تمزقت الأندلس بين ملوك الطوائف المسلمين, الذين تباينت مواقفهم إلي الحد الذي دفع بعضهم إلي الاستعانة بملوك النصاري في صراعهم مع بعضهم, في قرطبة وقشتالة وبلنسية وغيرها, وبطبيعة الحال فإن ملوك النصاري لم يترددوا في تقديم ماطلب منهم من عون مقابل بعض الغنائم التي دأبوا علي تحصيلها, الأمر الذي انتهي بتآكل الممالك الإسلامية وسقوطها في أيديهم واحدة تلو الأخري, ومن ثم اندثار دولة الإسلام في الأندلس.
تري هل يعيد التاريخ نفسه, بحيث تلقي المقادير في وجوهنا بمشهد آخر من المشاهد غير القابلة للتصديق؟!
نقلاً عن الأهرام